وَتُطْلَقُ الآيةُ في القرآنِ بمعناها الشرعيِّ الدينيِّ، كقوله: ﴿رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ [الطلاق: آية ١١] أي: آياتِه الدينيةَ الشرعيةَ.
والآيةُ الدينيةُ الشرعيةُ قيل: من (العلامة)، لأنها علاماتٌ على صدقِ مَنْ جَاءَ بها؛ لِمَا فِيهَا من الإعجازِ. أو لأن لها مبادئَ ومقاطعَ علامات على انتهاءِ هذه الآيةِ وابتداءِ الآيةِ الأُخْرَى.
وقال بعضُ العلماءِ: هي من (الآية) بمعنى (الجماعةِ)؛ لأن الآيةَ كأنها نبذةٌ وجماعةٌ من كلماتِ القرآنِ، تتضمنُ بعضَ ما في القرآنِ من الإعجازِ والأحكامِ والعقائدِ والحلالِ والحرامِ (١).
هذا معنى: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ يعني: يجعلُكم تَرَوْنَهَا واضحةً. أي: علاماتِه الواضحةَ على كمالِ قدرتِه وإحيائِه للموتى، وأنه يبعثُ الناسَ بعدَ أن يموتوا.
﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ يعني: لأجلِ أن تُدْرِكُوا بعقولِكم أنه (جل وعلا) يُحْيِي الناسَ بعدَ الموتِ، ويبعثُهم من قبورِهم، وأنه قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، وأنه المعبودُ وحدَه، و ﴿تَعْقِلُونَ﴾ معناه: تُدْرِكُونَ بعقولكم.
[٣/ب] / يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: الآية ٧٤].
_________
(١) في تعريف الآية اصطلاحا انظر: ابن جرير (١/ ١٠٦)، ابن كثير (١/ ٧)، القرطبي (١/ ٦٦) قواعد التفسير (١/ ١٠٠).
والنبيَّ - ﷺ - بأنهم في غايةِ اللينِ والرحمةِ للمؤمنين، وفي غايةِ الشدةِ والقسوةِ على الكفرةِ: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: آية ٢٩] وقال جل وعلا: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: آية ٢٩] لأن الشدةَ في محلِّ اللينِ هي مِنَ الحُمْقِ والخَرَقِ، واللينُ في محلِّ الشدةِ هو من الضعفِ والْخَوَرِ، والسدادُ والحكمةُ أن تكونَ الشدةُ في محلِّ الشدةِ، واللينُ في محلِّ اللينِ.
ومعنَى قولِه جل وعلا: ﴿شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: آية ١١٢] الزُّخْرُفُ: هو كُلُّ شيءٍ زَيَّنْتَهُ وَزَخْرَفْتَهُ وَمَوَّهْتَهُ فهو زُخْرُفٌ (١). وإنما سَمَّاهُ ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾؛ لأنهم يُزَيِّنُونَ لهم المعاصيَ، ويحببونَ إليهم الشهواتِ، ويرغبونهم في لذاتِ الدنيا، وتقديمِ [العاجلِ على الآجلِ] (٢)، يزخرفونَ لهم هذا، ويزينونَه لهم، أما شياطينُ الجنِّ فَهُمْ يزينونَه بالوساوسِ. وأما شياطينُ الإنسِ فقد يُزَيِّنُونَهُ بالكلامِ الصريحِ فَيُزَخْرِفُونَهُ، حتى يوقعوا أصحابَهم فيه والعياذُ بالله.
وقولُه: ﴿غُرُورًا﴾ الغرورُ: مصدرُ (غَرَّه، يَغُرُّه، غرورًا) إذا خَدَعَهُ.
أي: خديعةٌ - والعياذُ بالله (٣) -. والخديعةُ: هي أن يُوقِعَ الشخصُ الإنسانَ في الضررِ من حيث يُرِيهِ أنه ينفعُه.
وإعرابُ قولِه: ﴿غُرُورًا﴾ فيه ثلاثُ أَوْجُهٍ من الإعرابِ (٤):
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٥٥)، القرطبي (٧/ ٦٧)، البحر المحيط (٤/ ٢٠٥)، الدر المصون (٥/ ١١٦).
(٢) في الأصل: «الآجل على العاجل» وهو سبق لسان.
(٣) انظر: ابن جرير (١٢/ ٥٦).
(٤) انظر: القرطبي (٧/ ٦٧)، البحر المحيط (٤/ ٢٠٧)، الدر المصون (٥/ ١١٦).
والسبب كان خاصّاً فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، هذا هو الحق الذي عليه جماهير العلماء، وعليه عامة الأصوليين إلا مَنْ شَذَّ (١).
والدلالة على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب تفهم من نصوص الوحي، ومن اللغة العربية (٢). أما نصوص الوحي فقد دلت على ذلك أحاديث صحيحة تدل على أن العِبْرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يدل عليه استقراء القرآن، وتدل عليه اللغة العربية أيضاً. فمن الأحاديث الدالة على ذلك: قصة الأنصاري المشهورة التي ذكرها الله في سورة هود، وسيأتي إيضاحها، وضابطها: أن أنصاريّاً كان تمَّاراً فجاءته امرأة تريد أن تبتاع منه تمراً فأُعجب بجمالها فقال لها: إن في البيت تمراً أجود من هذا، فلما دخلت في البيت تظن أنه يبيعها التمر الأجود كان بينه وبينها ما لا ينبغي أن يكون بين رجل وغير زوجته، إلا أنه لم يقع بينهما ما يستوجب الحد، فكان شيء مثل التقبيل والضم ونحوه، ثم بعد ذلك ندم ذلك الأعرابي وسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ فيه آية مدنية في سورة مكية، وهي قوله تعالى في سورة هود: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ﴾ يعني كالصلوات الخمس التي يقيمها في الجماعات ﴿يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: آية ١١٤] أي: يغفر الله بهن تلك الذنوب، كتقبيل تلك الأجنبية، ثم إن ذلك الرجل لما نزلت فيه الآية وقرأها النبي ﷺ سأل ذلك الأنصاريُّ وقال له: يا رسول الله ألي هذا خاصة؟ وسؤال الأنصاري - هذا - مقتضاه: أيختص حكم هذه الآية بي لأنني سبب نزولها، أم العبرة بعموم لفظ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ
_________
(١) مضى قريباً.
(٢) انظر: أدلة ذلك في قواعد التفسير (٢/ ٥٩٤).
يراه شكلاً مثلثًا، فشعاع العين الذي يمشي مع المستقيم يسبق إليه (جل وعلا) قبل الذي يمشي مع الزاوية المنفرجة فيسبق هذا هذا، وهذا محال. وهو كلام كله باطل وضلال لا طائل تحته!!
وما استدلوا به من قوله: ﴿لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ فقد أجاب العلماء عنه بأن المنفي بقوله: ﴿لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: آية ١٠٣] الإدراك المشعر بالإحاطة، أما مطلق الرؤية فليس هو المنفي في ذلك، بدليل قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)﴾ [القيامة: الآيتان ٢٢، ٢٣] فما يدّعونه من الاستحالات العقلية لا طائل تحته.
وما تمسكوا به مِنَ النَّقْلِ لا حُجَّةَ لهم فيه، والتحقيق الذي لا شك فيه أنَّ المؤْمِنين يرون ربهم يوم القيامة لا يضارون في ذلك، كما صرّح به الصادق المصدوق، ورواه عنه نحو عشرين صحابيًّا من أصحابه (رضي الله عنهم). هذا هو التحقيق في هذا المقام.
وقول المعتزلة: «إن (لن) حرف نفي يدل على نفي الشيء للمستقبل نفيًا باتًّا» هو كذب أيضًا، وتَقَوَّلٌ على اللغة العربية بما ليس منها!! والذي دَلَّتْ عَلَيْهِ أدِلَّة العَرَبِيَّةِ الواردة في القرآن الذي هو في الطرف الأعلى من الفصاحة والإعجازات على أن قول المعتزلة هذا بأن (لن) إنها للنفي في المستقبل نفيًا أبديًّا باتًّا هذا باطل كذب.
وقد دلت ثلاث آيات من كتاب الله على كذب هذا القول، وأنه ليس بصحيح:
إحداها: أن (لن) لو كانت نصًّا صريحًا في النفي المستقبل الباتّ الأبدي لما جاز تقييد نفيها في يوم ولا ظرف معين، وقد جاء
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: الآية ٦٣] فلو كانت مخالفة الأمر غير معصية، وامتثال الأمر غير واجب لما شدد عليه هذا الوعيد العظيم في قوله: ﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وقال تعالى لإبليس: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: الآية ١٢] والأمر بصيغة (افعل) وهو قوله: ﴿اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾ [الأعراف: الآية ١١] فعنفه التعنيف الشديد الذي لا يفعل إلا لتارك الواجب على مخالفته لصيغة (افعل) التي هي: ﴿اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾ وقد قال نبي الله موسى لأخيه هارون: ﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ [طه: الآية ٩٣] يعني قوله: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ﴾ الآية [الأعراف: الآية ١٤٢] والمعصية لا تسمى إلا لارتكاب الحرام المستوجب للإثم، وقد وبخ الله (جل وعلا) قوماً توبيخاً شديداً لمخالفتهم لصيغة (افعل) في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ﴾ [المرسلات: الآية ٤٨] (اركعوا) صيغة (افعل) وقد وَبَّخَ مَنْ لم يَمْتَثِلْها وعنّفه تعنيفاً شديداً في قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ (٤٨)﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: الآية ٣٦] وفي القراءة الأخرى: ﴿أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (١) فجعل أمر الله وأمر الرسول موجباً للامتثال قاطعاً للاختيار. وقال في الملائكة: ﴿لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ [التحريم: الآية ٦] فدل على أنهم لو لم يمتثلوا ما أمرهم لكانوا عاصين، حاشاهم من ذلك.
وأما اللغة العربية: فإنك لو قلت لعبدك: اسقني ماءً. أمرته وألزمته بصيغة (افعل) ثم ترك ولم يمتثل فَأَدَّبْتَه، فقال لك العبد:
_________
(١) مضت عند تفسير الآية (٣) من سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon