قال بعضُ العلماءِ (١): (ثم) في قولِه: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ للاستبعادِ؛ لأن هذا الذي نظروه من آياتِ اللَّهِ وعِبَرِه وإحيائِه للقتيلِ سببٌ عظيمٌ لِلِينِ القلوبِ، فقسوةُ القلوبِ بعدَ مشاهدتِه من الأمرِ الْمُسْتَبْعَدِ؛ ولذا قال: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم﴾ من بعدِ ذلك الأمرِ الذي عَايَنْتُمُوهُ، وهو إحياءُ القتيلِ، الذي هو أعظمُ سببٍ لِلِينِ القلوبِ، فـ (ثم) هنا للاستبعادِ، كما قاله بعضُ العلماءِ. ونظيرُه من إتيانِ (ثم) للاستبعادِ قولُه تعالى في أولِ سورةِ الأنعامِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: آية ١]؛ لأن مَنْ خَلَق السماواتِ والأرضَ، وجعلَ الظلماتِ والنورَ يُسْتَبْعَدُ جِدًّا أن يُجعل له عديلٌ ونظيرٌ. ونظيرُ (ثمَّ) للاستبعادِ من كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (٢):
وَلاَ يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
لأن مَنْ رَأَى غمراتِ الموتِ تُسْتَبْعَدُ منه زيارتُها.
والإشارةُ في قولِه: ﴿ذَلِكَ﴾ عائدةٌ إلى ما ذُكِرَ من إحياءِ القتيلِ لَمَّا ضُرِبَ بالجزءِ من البقرةِ الميتةِ، ومعنى قسوةِ القلوبِ: شِدَّتُهَا وصلابتُها حتى لا يدخلَ فيها خيرٌ؛ لأن ذا الشيءَ القاسيَ ليس بقابلٍ لدخولِ شيءٍ فيه، فقلوبُهم صلبةٌ شديدةٌ نابيةٌ عن الخيرِ لا يدخلُها وَعْظٌ ولا يَنْجِعُ فيها خيرٌ. والسببُ الذي قَسَتْ به قلوبُهم نَهَى اللَّهُ عن ارتكابِه المسلمين في قولِه: ﴿وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: آية ١٦].
_________
(١) انظر: البحر المحيط (١/ ٢٦١ - ٢٦٢).
(٢) البيت لجعفر بن عُلبة الحارثي. انظر: الدر المصون (٩/ ٨٩)، (٦٤٢).
أجودُها وأظهرُها: أنه مفعولٌ لأجلِه، والقرينةُ على ذلك أنه عُطِفَ عليه بلامِ التعليلِ في قولِه: ﴿وَلِتَصْغَى﴾ [الأنعام: آية ١١٣] أي: زخرفَ القولِ لأَجْلِ أن يغروهم؛ ولأجلِ أن تَصْغَى إليه أفئدةُ الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ؛ ولأجلِ أن يُرْضُوهُ؛ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هم مقترفون. فهذا أظهرُ الأعاريبِ.
وبعضُ العلماءِ يقولُ: ﴿غُرُورًا﴾ مصدرٌ منَكَّرٌ وهو حالٌ. أي: يزينون لهم زخرفَ القولِ في حالِ كونِهم غَارِّينَ إياهم.
وبعضُهم يقولُ: هو ما نَابَ عن المطلقِ من قولِه: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ لأَنَّ ذلك الإيحاءَ غُرُورٌ. فـ (يوحي) كأنه مُضَمَّنٌ معنَى: يغرونهم غرورًا.
وأجودُها: أنه مفعولٌ من أجلِه؛ لأنه عُطِفَ عليه بلامِ التعليلِ، حيث لم تَتَوَفَّرْ شروطُ النصبِ فيما بعدَه لاختلافِ الفاعلِ؛ لأن المفعولَ مِنْ أَجْلِهِ لابدَّ أن يكونَ فاعلُه وفاعلُ عاملِه واحدًا، كما هو معروفٌ في فَنِّ العربيةِ (١).
وفي هذه الآيةِ ترتيبٌ غريبٌ عجيبٌ، بالغٌ في الْحُسْنِ؛ لأن السببَ الأولَ: هو الغرورُ والخديعةُ، فَتَسَبَّبَ عن الغرورِ والخديعةِ: أن صَغَتْ إليه قلوبُهم وَمَالَتْ، ثم تسببَ عن صوغِ القلوبِ وَمَيْلِهَا: أنهم أَحَبُّوهُ ورضوه، ثم تَسَبَّبَ عن كونِهم أَحَبُّوهُ ورضوه: أن اقترفوه؛ ولذا رَتَّبَهَا على هذا الترتيبِ، قال أولاً: ﴿غُرُورًا﴾ أي: لأجلِ أن يَغُرُّوهُمْ. ثم نتجَ من الغرورِ: صوغُ أفئدتِهم إليه. قال: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ ثم تسببَ عن كونِها صَغَتْ إليه: أنها رَضِيَتْهُ
_________
(١) انظر: التوضيح والتكميل (١/ ٤٢٠).
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «بَلْ لأُمَّتِي كُلّهِمْ» (١). وسؤال الأنصاري هذا وجواب النبي ﷺ له ثابت في صحيح البخاري في تفسير سورة هود، وهو نص صريح في أَنَّ العِبْرَةَ بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
ومن النصوص الدالة على ذلك: ما ثبت في الصحيح ثبوتاً لا مطعن فيه، من أن النبي ﷺ جاء عليّاً وفاطمة (رضي الله عنهما وأرضاهما) وهما نائمان، وأيقظهما ليصليا من الليل، فقال له علي (رضي الله عنه): إن أرواحنا بيد الله إن شاء بعثنا. فولى ﷺ كالمغضب يضرب فخذه ويقول: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ (٢) [الكهف: آية ٥٤] مع أن آية: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ نزلت على التحقيق في الكفار المشركين الذين يجادلون في القرآن، فيقول بعضهم: شعر. ويقول بعضهم: سحر. ويقول بعضهم: كَهانة. إلى غير ذلك. ويدل على أنها في الكفار: أول الآية، وهو قوله: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ﴾ أي المكذِّب بالقرآن الذي لم يَعْتَبِر بأمثاله ﴿أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
_________
(١) البخاري في الصحيح كتاب التفسير. باب ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ﴾ حديث رقم (٤٦٨٧)، (٨/ ٣٥٥)، ومسلم في الصحيح، كتاب التوبة باب قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ حديث رقم (٢٧٦٣)، (٤/ ٢١١٥).
(٢) البخاري في الصحيح، كتاب التهجُّد، باب (تحريض النبي ﷺ على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب) حديث رقم (١١٢٧)، (٣/ ١٠)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما رُوي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، حديث رقم (٧٧٥)، (١/ ٥٣٧).
بالقرآن تقييد نفيها بيوم معين، في قوله: ﴿فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ [مريم: آية ٢٦] لو كان نفي (لن) للكلام نفيًا مؤبدًا إلى يوم القيامة لكان قول مريم مناقضًا لذلك التأبيد كما ترى.
الموضع الثاني: أن (لن) لو كانت تقتضي التأبيد الأبدي لما كان الله يقول بعد نفيها (أبدًا)، لأن لفظة (أبدًا) تكون تكرارًا مع التأبيد الذي دلت عليه (لن) كقوله: ﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ [البقرة: آية ٩٥] لأن قوله: ﴿أَبَدًا﴾ على زعم المعتزلة يكون تكرارًا مع النفي الأبدي الذي زعموا أنه تدل عليه (لن) فلما قال الله بعد نفيها: ﴿أَبَدًا﴾ عرفنا أنهم كاذبون في ذلك.
الموضع الثالث: أن (لن) لو كانت تدل على النفي المؤَبَّد البات إلى الأبَدِ لما جاز أن يوقّت نفيها بغاية معينة، وقد جاء في القرآن أن الله غيَّا نفيها بغاية معينة، وكونه غيّاه بغايَة معينة يناقض أنه إلى الأبد، كما في قوله: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي﴾ قوله:... ﴿حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي﴾ [يوسف: آية ٨٠] قَصْرُ هذا النفي على وقت الإذن ينافي كون (لن) هي نصّ في النفي البات كما ترى، فتبين من هذا أن قول المعتزلة: إن (لن) للنفي المستقبل البات الأبدي ولو فرضنا أن العربية تساعدهم على ما يقولون - فرض جدل - لما كان لهم في ذلك حجة؛ لأن النبي ﷺ - وهو الصادق المصدوق - بيّن في الأحاديث الصحيحة المتواترة أن نفي ﴿لَن تَرَانِي﴾ منقطع يوم القيامة، فصرح بأنهم يرونه يوم القيامة كما لا يخفى، وهذا معنى قوله: ﴿لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾.
قرأ هذا الحرف من السبعة: عاصم وأبو عمرو وحمزة:
تأديبك لي ليس واقعاً في موقعه؛ لأن صيغة (افعل) في قولك: «اسقني» لم تلزمني ولم توجب علي!! فَكُلّ مَنْ يَعْرِف معنى اللسان العربي يقولون له: صيغة الأمر ألزمتك وأوجبت عليك، ولكنك عصيت وخالفت.
ومرادنا بهذا: أن هذا أمر خالق السماوات والأرض، أمْرُ رَبِّ العَالَمِين بإعداد القوة التي يمكن أن تحصل في الاستطاعة، هذا الأمر واجب، وتضييعه حرام لا شك فيه، وبذلك يعلم أن تواكل من يُسَمَّوْنَ باسم المسلمين في أقطار الدنيا، وعدم سَعْيِهِمْ في إعداد القوَّة الكَافِيَة لِقَمْعِ العَدُوّ أنه تَمَرُّدٌ على نظام السَّمَاءِ، وعدم عمل بإرشادات خَالِقِ هَذا الكَوْنِ -جل وعلا- وامتثال أوامره، فالله (جل وعلا) في هذه السورة الكريمة وغيرها من سور القرآن رَسَمَ الطَّرِيقَ وبَيَّنَ للنَّبِيِّ ﷺ وأصحابه الطريق التي إذا فعلوها وساروا عليها كانت كفيلة بنصرهم، وذل أعدائهم، وقمع كلمة الكفر وإذلاله؛ لأنه هنا أمر بإعداد القوة التي يمكن أن تدخل تحت الاستطاعة كائنة ما كانت، تطورت القوة مهما تطورت، وانتقلت من حال إلى أي حال، فالآية تساير التطور بدلالة مطابقتها مهما كان وما تحول الأمر؛ لأن لفظها الصريح موجب أمر إيجاب سماوي من الله إعداد كل ما يمكن أن يدخل في الاستطاعة من القوة لِقَمْعِ الكَفَرَةِ (قَبَّحَهُمُ الله)، فهذا أمْرٌ واجِب، فلو عمل الناس بهذا الأمر، وبذلوا ما عندهم من الإمكانيات والثروات في إعداد القوة الكاملة من جميع وجوهها، حتى في تعليم الأمور التي تطورت إليها الحياة الراهنة؛ لأن كل حال له مقال، وكل حالة لها مواجهات بأمور تُلاَئِقُهَا.
ودين الإسلام مرن غاية المرانة، كل شيء يقابله بما يصلح له، وذلك في نور السماء الذي شرعه الله