وقولُه: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ أي: في شدةِ القسوةِ والصلابةِ، فكما أنكَ لو أردتَ أن تُدْخِلَ ماءً أو دُهْنًا في جوفِ حَجَرٍ صلبٍ أصمَّ لا يمكنُ لكَ ذلك، فلا يمكنُ أن تُدْخِلَ في قلوبِهم خيرًا ولا موعظةً ولا شيئًا ينفعُهم؛ لقساوتها عياذا بالله.
وقولُه: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ ﴿أَوْ أَشَدُّ﴾ مرفوعٌ عَطْفًا على الكافِ من قولِه: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ﴾ أي: فهي مثلُ الحجارةِ أو أشدُّ قسوةً؛ لأن الكافَ في معنى (مثل). وقيل: عُطِفَ على محلِّ الجارِّ والمجرورِ؛ لأنه في محلِّ رفعٍ خبرُ المبتدأِ، أي: فهي كالحجارةِ، أو فهي أشدُّ قسوةً (١).
و ﴿قَسْوَةً﴾ تمييزٌ مُحَوَّلٌ عن الفاعلِ؛ لأنه بعدَ صيغةِ التفضيلِ، على حَدِّ قولِه في الخلاصةِ (٢):
والفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلاَ مُفَضَّلاً كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلاَ
لأَنَّ ﴿قَسْوَةً﴾ تمييزٌ فاعلٌ في المعنى، فَنُصِبَ بأَفْعَل مُفَضلا تمييزًا مُحَوَّلاً عن الفاعلِ.
ثم إن اللَّهَ (جل وعلا) بَيَّنَ أن قلوبَهم أشدُّ قسوةً من الحجارةِ، قال: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ﴾ يعني: إن بعضَ الحجارةِ رُبَّمَا [تَفَجَّرَ منه الأنهارُ] (٣)، وبعضُها ربما لانَ فتشققَ فخرجَ منه ماءٌ، وقلوبُهم لا تلينُ ولا ينفجرُ منها خيرٌ، لا قليلٌ ولا كثيرٌ.
_________
(١) انظر: البحر المحيط (١/ ٢٦٣).
(٢) الخلاصة ص٣٤، وانظر: شرحه في الأشموني (١/ ٤٤٥).
(٣) في الأصل: (لانَ فتفجر منه ماء)؛ وذلك لأنه وقع للشيخ (رحمه الله) سهو في الآية السابقة حيث نطق بها هكذا: (لما يتفجر منه الماء) فجاء التفسير هنا كما ترى.
وَأَحَبَّتْهُ؛ ولذا قال: ﴿وَلِيَرْضَوْهُ﴾ ثم تسببَ عن رِضَاهُمْ ومحبتِهم له أنهم فَعَلُوهُ واقترفوه؛ ولذا جاءَ بعدَها بقولِه: ﴿وَلِيَقْتَرِفُوا﴾.
وقوله: ﴿وَلِتَصْغَى﴾ هو معطوفٌ على ﴿غُرُورًا﴾ والمعنَى: يُوحِي بعضُهم إلى بعضِ زخرفِ القولِ لأجلِ الغرورِ. أي: لأجلِ أن يغروهم؛ ولأجلِ أن تَصْغَى. و (تصغى) معناه: تَمِيلُ. تقولُ العربُ: «صَغَى يَصْغُو»، و «صَغَى يَصْغَى»، و «صَغِيَ يَصْغَى» كلها بمعنَى: مَالَ إليه، و «أَصْغَى يُصْغِي إصغاءً» أيضًا إذا مَالَ (١). وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، وفي القرآنِ العظيمِ: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: آية ٤] أي: مَالَتْ إلى أَمْرٍ تَعْلَمَانِ أن النبيَّ لاَ يحبه.
وقولُه هنا: ﴿وَلِتَصْغَى﴾ أي: تميلُ إليه أفئدةُ الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ، ومادةُ (صَغَى) تُسْتَعْمَلُ واويةَ اللامِ ويائيةَ اللامِ. تقولُ العربُ: «صَغَى يَصْغَى»، و «صَغَى يَصْغو»، و «صَغِيَ يَصْغَى»، كلها بمعنَى: مَالَ. وأصغَى الإناءَ: إذا أَمَالَهُ، ومنه: رَجُلٌ مُصْغَى الإناءِ. إذا كان منقوصَ الحظِّ. تقول: «بنو فلانٍ يُصغون إناءَ فلانٍ». إذا كانوا ينقصونه من حَقِّهِ؛ لأن الإناءَ المائلَ لا يحملُ من الملءِ قدرَ ما يحملُه الإناءُ المعتدلُ، فالناسُ إذا وَضَعَتْ أوانيَها لِتُمْلأَ لها فالإناءُ الْمُصْغَى- أعني المائلَ- لا يحملُ كثيرًا، بخلافِ الإناءِ المعتدلِ فإنه يمتلئُ. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ (٢)، ومنه قولُ غسانَ بنِ وعلةَ، ويُروى للنمرِ بنِ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٥٨)، القرطبي (٧/ ٦٩)، البحر المحيط (٤/ ٢٠٥)، الدر المصون (٥/ ١١٩).
(٢) انظر: المفردات (مادة: صغا) ص٤٨٥.
[الكهف: آية ٥٤] وخصومةً في التكذيب بالقرآن، فالنبي ﷺ بيَّن أنها وإن نزلت في الكفار أن عموم لفظها شامل لقول علي (رضي الله عنه): إن أرواحنا بيد الله، إن شاء أن يبعثنا بعثنا.
ومما يدل على هذا من اللغة العربية: أن الرجل مثلاً لو كان له أربع زوجات فآذته واحدة منهن وشتمته وأطلقت لسانها فيه حَتَّى أغْضَبَتْهُ، وهي واحدة، والثلاث الأُخر ساكتات لا يفعلن إلا ما يرضي زوجهن. فقال الزوج بسبب إغضاب التي أغضبته: أنتن كلكن طوالق. فإن الطلاق لا يختص بذات السبب التي أغضبته وآذته بل يطلق الجميع نظراً إلى عموم اللفظ، ويلغى سبب اللفظ الذي حمل عليه، كما هو معلوم عند أهل اللسان العربي.
وقوله (جل وعلا) في هذه الآية: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ [الأعراف: آية ٣١] كأنه يذكرهم بقضية إبليس. لا يَدُم إبليس على النكاية فيكم بنزع ثيابكم عنكم كما فعل بِأَبَوَيْكُمْ.
﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ الأصل: أؤْخذوا بالهمزة؛ لأنه مضارع (أخذ) بالهمزة، إلا أن ثلاثة أفعال مهموزة الفاء وهي: (أخذ)، و (أمر)، و (أكل) يجوز حذف همزتها في الأمر كما بيناه مراراً (١).
﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ﴾ أي: لباسكم الذي تسترون به عوراتكم وتتجملون به.
﴿عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ سواءً كان المسجد الحرام للطواف أو غيره من المساجد للصلاة. وكون الزينة هنا لبس اللباس للطواف والصلاة
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٨) من سورة الأنعام.
﴿وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ بكسر نون (لكن) على قاعدة التخلّص من التقاء الساكنين.
وقرأه باقي السبعة: ﴿ولكنُ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ﴾ بضم النون إتْباعًا لضمة الراء كما هو معروف (١).
﴿وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ﴾ الجبل ﴿مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ أي: ظهر (جل وعلا) وكشف نوره للجبل انهد الجبل، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ أي: مدكوكًا، قال بعض العلماء: رفاتًا ترابًا مختلطًا بالأرض. وعلى قراءة حمزة والكسائي: ﴿جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾ (٢) [الأعراف: آية ١٤٣] كأنه شبهه بالناقة الدكَّاء، والعرب تقول: ناقة دكَّاء، وجبل أَدَكّ. فالناقة الدكَّاء هي التي لا سنامَ لها؛ أي: لا ارتفاع في ظهرها، فظهرها كله مستو غير مرتفع، فكانت أرض الجبل كأنها لا ارتفاع فيها، وأنها دكّاء مستوية بالأرض، خلافًا لبعضهم القائل: إن دكَّاء مرادها: المرتفعة عن الأرض قليلاً كالدكة، وعلى كل حال فالله (جل وعلا) لما تجلَّى للجبل دك الجبل وأزاله وكسَّره، وصار رُفاتًا لعظمة خالق السماوات والأرض على القراءتين: ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾ ﴿جعله دكَّاء﴾.
﴿وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾ خرّ نبي الله موسى من شدة الخطب الذي دك الجبل، خرّ في حال كونه صعقًا، أي: مغشيًّا عليه، خلافًا لقتادة القائل: ميتًا، وأن الله أحياه.
_________
(١) انظر: الإتحاف (٢/ ٦١).
(٢) مضى قريبًا.
على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فإن القوة التي يقوى بها عسكر المسلمين، ويحمون حوزتهم، ويردون المسلوبات منهم إذا أعدوا القوة الكافية التي تدخل تحت الاستطاعة، ثم حَوَّلَ هَذِهِ القُوَّةَ كانوا متكاتفين غير متنازعين غير متفرقين، كلمتهم واحدة، وذكروا الله كثيراً، وتعلقت أرواحهم بربهم، وطلبوا المدد مِنَ السَّمَاءِ، كانت أسباب النصر كلها متوفِّرة لَدَيْهِم لقوتهم الكَافِيَة، ولعدم فَشَلِهِمْ؛ ولأنهم إذا فشلوا وتفرقوا دَخَلَ العَدُو بَيْنَهم، ورمى بعضهم ببعض كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: الآية ٤٦] وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾ [آل عمران: الآية ١٠٣] لا تَتَفَرَّقُوا، هذه أوامر الله، والقرآن يوضح الطريقة التي لو سَلَكها الناس لكانت كفيلة لهم بالنَّصْرِ والظفر؛ لأن منها إعداد القوة الكافية، وكل مَنْ عِنْده مال فباستطاعته كل شيء؛ لأن المال سبب لكل شيء، وهو شريان الحياة، ويُسَخِّر الله به لمن أعطاه إياه كل الإمكانيات من تعليم حتى يتعلم ما تعلمه الكفرة ويصل إلى ما وَصَلُوا إِلَيْهِ، ويستعين به في جميع الميادين ليكتسب به القوة الكاملة.
ومعلوم أن هذه أوامر الله، وأنها متروكة، وأن دين الإسلام هو هو، وصلته بالله هي هي، وأن المتسمين باسم الإسلام هم الذين تَنَكَّرُوا للدِّينِ، وفارقوا الآلة الجبارة القاهرة التي كانوا يقهرون بها أعداء الله، وهي طاعة الله وامتثال أمره واجتناب نهيه، ولا شك أنه يجب على المسلمين امتثال أوامر الله، وأن يَتَفَطَّنُوا ويَتَحَرَّزُوا، ويفرقوا بين النَّافِعِ والضَّارّ؛ لأن من طبيعة أدنى العقلاء التفريق بين ما ينفع وما يضر، ولا شك أن ما يسميه الناس (الحضارة الغربية) دل الاستقراء الصحيح اليقين أن فيها ماءً زلالاً نافعاً وسمّاً قاتلاً فاتكاً،