وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: ما معنى (أو) في قولِه: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ والْمُخُبِرُ بهذا الكلامِ (جل وعلا) يستحيلُ في حَقِّهِ الشكُّ، فما معنى (أو) في قولِه: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾؟
للعلماءِ عن هذا السؤالِ أجوبةٌ معروفةٌ (١)، أظهرُها: أن «أو» للتنويعِ، و «أو» التي هي للتنويعِ تدلُّ على نوعٍ. والمعنى: أن منهم نوعًا قلوبُهم كالحجارةِ، وهنالك نوعٌ آخَرُ دلَّتْ عليه (أو) التنويعية أقسى قلوبًا من هذه (٢) (... ).
﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)﴾ [البقرة: الآيات: ٧٥ - ٧٩].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ كان النبيُّ - ﷺ - حريصًا على إيمانِ اليهودِ وغيرِهم من
_________
(١) انظر: ابن جرير (٢/ ٢٣٥)، القرطبي (١/ ٤٦٣)، البحر المحيط (١/ ٢٦٢)، الدر المصون (١/ ٤٣٦)، وراجع أيضا منه ص١٦٧.
(٢) في هذا الموضع انقطع التسجيل وكلام الشيخ (رحمه الله) على هذا المعنى الذي استظهره تام، وللوقوف على المعاني الأخرى راجع المصادر السابقة.
تولب العكليِّ قال (١):
إِذَا كُنْتَ فِي سَعْدٍ وَأُمُّكَ مِنْهُمُ... فَقِيرًا فَلاَ يَغْرُرْكَ خَالُكَ مِنْ سَعْدِ...
فَإِنَّ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ مُصْغًى إِنَاؤُهُ | إِذَا لَمْ يُزَاحِمْ خَالَهُ بِأَبٍ جَلْدِ |
تُصْغِي إِذَا شَدَّهَا بِالْكُورِ جَانِحَةً | حَتَّى إِذَا مَا اسْتَوَى فِي غَرْزِهَا تَثِبُ |
إِنَّ السَّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مَكْرُمَةٍ | زَيْغٌ وَفِيهِ إِلَى التَّشْبِيهِ إِصْغَاءُ |
ومعنَى قولِه: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ﴾ أي: لتميلَ إليه، أي: ذلك القولُ المزخرفُ المزينُ الباطلُ، الذي تُوحِيهِ شياطينُ الإنسِ والجنِّ، تميلُ إليه ﴿أَفْئِدَةُ﴾ أي: قلوبُ. الأفئدةُ: جمعُ الفؤادِ، والفؤادُ: القلبُ.
_________
(١) وقيل: حسان بن وعلة، وقيل: ضمرة بن ضمرة، وهما في بهجة المجالس لابن عبد البر (١/ ٢٢٥) الكامل ص٧١٢، والبيت الأول في اللسان (مادة: كيس) (٣/ ٣٢١) وأول شطره الثاني في هذين المصدرين: «غريبًا».
(٢) البيت في القرطبي (٧/ ٦٩)، الدر المصون (٥/ ١٢٠).
(٣) في المصادر التي وقفت عليها: «ترى السفيه». انظر ابن جرير (١٢/ ٥٨)، القرطبي (٧/ ٦٩)، البحر (٤/ ٢٠٥)، الدر المصون (٥/ ١٢٠).
يكاد يجمع عليه المفسرون (١)، وقد دل عليه حديث ابن عباس المذكور الذي قدمنا أن له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخذ العلماء من ظاهر عموم الآية أنَّهُ يَنْبَغِي للرجل إذا أراد أن يخرج إلى المسجد ليحضر جماعات المسلمين ويصلي أن يلبس من الثياب أحْسَنَها (٢). وقد جاء عن النبي ﷺ الثناء على لَوْنِ البَيَاض في حديث: «إِنَّ مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَالْبَسُوا الْبَيَاضَ وَكَفِّنُوا فِيهِ مَوْتَاكُمْ، وَإِنَّ مِنْ خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الإِثْمِدَ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعَرَ» (٣) وهو حديث مشهور أخرجه بعض أصحاب السنن وغيرهم؛ ولذا كانوا يتطيبون ويستاكون ويقولون: إن الطيب والسواك مِنْ كَمَالِ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٣٨٩)، القرطبي (٧/ ١٨٩).
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ١٩١)، ابن كثير (٢/ ٢١٠).
(٣) أخرحه أحمد (١/ ٢٤٧، ٣٢٨، ٣٦٣)، وأبو داود في اللباس، باب في البياض، حديث رقم (٤٠٤٣)، (١١/ ١١٠)، وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم (٣٨٦٠)، والترمذي في الجنائز، باب ما يستحب من الأكفان، حديث رقم (٩٩٤)، (٣/ ٣١٠ - ٣١١)، وابن ماجه في الجنائز، باب ما جاء فيما يستحب من الكفن، حديث رقم (١٤٧٢)، (١/ ٤٧٣)، كما أخرجه في كتاب اللباس (٣٥٦٦)، من حديث ابن عباس (رضي الله عنهما). وهو في صحيح أبي داود (٣٢٨٤، ٣٤٢٦)، وصحيح الترمذي (٧٩٢)، كما أخرجه أحمد (٥/ ١٠، ١٣، ١٧، ١٨، ١٩)، والترمذي في الأدب، باب: ما حاء في لبس البياض. حديث رقم: (٢٨١٠)، (٥/ ١١٧)، وقال الترمذي: «وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر» اهـ كما أخرجه ابن ماجه في اللباس، باب البياض من الثياب، حديث رقم: (٣٥٦٧)، (٢/ ١١٨١)، من حديث سمرة بن جندب (رضي الله عنه). وهو في صحيح ابن ماجه (٢٨٧٠).
وقوله: ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ﴾ أي: نبي الله موسى أفاق من غشيته قال: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ (سبحان) كلمة تدل على التنزيه. معناه: تنزيهًا لك عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك (١)، وهذه الكلمة أعربها الشيخ سيبويه بأنها مصدر منصوب بفعل يُحذف دائمًا (٢)، أي: أُسبحك سبحانك. أي: تسبيحًا أنزهك عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك. ولفظة (سبحان) ملازمة للإضافة إلى المفرد، وسُمع نادرًا إتيانها غير مضافة، ومنه قول الأعشى: في شعره بالمنافرة بين علقمة بن عُلاثة وعامر بن الطفيل المشهورة (٣):
فَقُلْتُ لمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ
وهذا معنى قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أي: تنزيهًا لك عما لا يليق بكمالك وجلالك، ومن ذلك أن يَتَحَمَّلَ أحد رؤيتك في دار الدنيا، فإن عَظَمَتَكَ تدكّ الجبال.
وقال بعضهم: قوله: ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ لأن موسى تجرّأ على سؤال الرؤية من غير إذن (٤)، وقد كان يظن أن قدرته تتحملها، فالذي جهله موسى هو مدى قدرة نفسه، أما ما يجوز في الله وما يستحيل فلا يجهله نبي الله موسى كما هو معروف.
﴿تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قرأ هذا الحرف عامّة القراء غير نافع: ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ من
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٢٦٥).
(٢) الكتاب (١/ ٣٢٢ - ٣٢٧).
(٣) ديوان الأعشى ص٩٣، وأوله: «أقول... ».
(٤) انظر: القرطبي (٧/ ٢٧٩).
ونضرب لهذا مثلا (١): لأنك مثلاً أيها الإنسان إذا وجَدْتَ إناء فيه ماء زلالٌ وإناء فيه سم قاتل وأنت خارج من العمران في فلاة بعيدة شاسعة، فحالك لا يخلو من أربعة أحوال: إما أن تشرب الماء والسم معاً، وإما أن تتركهما معاً، وإما أن تشرب السم وتترك الماء، وإما أن تشرب الماء وتترك السم. فافرض مثلاً أنك وجدت ماءً زلالاً وسمّاً فاتكاً قتالاً في موضع واحد، وأنت في فلاة معطشة بعيد جدّاً من العمران، فلك مع هذا أربع حالات: إما أن تشربهما معاً، وإما أن تتركهما معاً، وإما أن تشرب السم وتترك الماء، وإما أن تشرب الماء وتترك السم، ولا خامسة البتة. وهذا تقسيم صحيح، فنرجع لهذا التقسيم الصحيح بالسبر الصحيح فنقول: إذا شربتهما معاً لم ينفعك الماء؛ لأن السم الفتاك يقتلك ويقضي عليك، وإن تركتهما معاً هلكت، ولم تبلغ العمران، ولم تلتحق بالرَّكْب، وإن أخذت السم وتركت الماء فأنت مجنون أهوج أحمق؛ حيث أخذت ما يضرك وتركت ما ينفعك!! وان كنت عاقلاً يصدق عليك مطلق اسم العاقل أخذت الماء وتركت عنك السم. وهذا مثال لما جاءت به الحضارة الغربية، فإن ما أحدثوه من القُوَّةِ المادِّيّة وأنواع التنظيمات في جميع ميادين الحياة هو ماء زلال
[٨/أ] فيحتاج له جدّاً لا بد منه/ في تطور هذه الحياة الراهنة حسب ما تطورت إليه من الأوضاع، وفيها سم قاتل فتاك لا شك فيه، وهو ما جنته من الكفر والانحطاط الخلقي، والتَّمَرُّد على نظام السَّمَاءِ، ومُعَادَاةِ خالق السماوات والأرض. فالموقف الطبيعي للمسلمين في الأوضاع الراهنة أن يتأملوا فإذا أخذوها كلها بنافعها وضارها أهلكهم ضارُّهَا ولم ينتفعوا بالأنفع،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٥) من سورة الأنعام.