أهلِ الكتابِ؛ لأن عندهم عِلْمًا من الكتبِ السماويةِ المتقدمةِ. ولو آمنوا لكانَ ذلك دَاعِيًا إلى إيمانِ غيرِهم لِمَا عِنْدَهُمْ من العلمِ، فقنَّطَهُ اللَّهُ في هذه الآيةِ الكريمةِ من إيمانِ اليهودِ وَأَنْكَرَ عليه أن يعلقَ طمعَه بشيءٍ لا مطمعَ فيه، قال: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ [البقرة: الآية ٧٥] يعني: أَتُعَلِّقُونَ الطمعَ بما لاَ طمعَ فيه فتطمعون أن يؤمنوا لكم أي: يتصفوا بالإيمانِ لكم. أي: لأجلِ دَعْوَتِكُمْ وطلبكم منهم الإيمانَ.
والعادةُ في القرآنِ أن الإيمانَ إذا كان تصديقًا بالله (جل وعلا) عُدِّيَ بالباءِ، فتقول: «ويؤمنون بالله»، «آمنتُ بالله» (١). وإذا كان تصديقًا بِبَشَرٍ عُدِّيَ باللامِ. وهذا معروفٌ من استقراءِ القرآنِ، كقولِه هنا: ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ﴾ أي: يصدقوكم ويتبعوكم في هذا الدِّينِ الحنيفِ، ومنه قولُه: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا﴾ [يوسف: آية ١٧] أي: بِمُصَدِّقِنَا في أن يوسفَ أَكَلَهُ الذئبُ ﴿وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾، وقولُه: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت: آية ٢٦]، وجمع المثالين قولُه: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: آية ٦١] والمعنى: أن اللَّهَ أَنْكَرَ عليهم الطمعَ بإيمانهم؛ لأنهم لا مطمعَ في إيمانهم.
ثم بيَّن صعوبةَ الإيمانِ عليهم وَبُعْدَهُمْ منه قال: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ يعني: أتطمعونَ بإيمانِ قومٍ وهم بهذه المثابةِ من العنادِ واللجاجِ وعدمِ امتثالِ الأوامرِ، والحالُ: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ الفريقُ: الطائفةُ من الناسِ،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من هذه السورة.
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ مفعولُ المشيئةِ محذوفٌ، والمعنَى: لو شَاءَ رَبُّكَ عدمَ فعلِهم إياه ما فعلوه، فالضميرُ في: ﴿مَا فَعَلُوهُ﴾ يرجعُ في أظهرِ الأقوالِ إلى: ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾ الذي يُوحُونَهُ إليهم، فزخرفُ القولِ الذي يوحونَه إليهم لو شاء رَبُّكَ ما فعلوه. والمعنَى: لو شَاءَ اللَّهُ لَكَفَّ شياطينَ الإنسِ والجنِّ عن غرورِ الناسِ وزخرفةِ الأقوالِ لها ليغروها، ولكن له (جل وعلا) في ذلك حكمتُه البالغةُ، يفتنُ خلقَه ليظهرَ المطيعُ من العاصي.
وقولُه: ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ ذَرْهُمْ: مَعْنَاهُ اتْرُكْهُمْ. وهذا الفعلُ لا يوجدُ منه في اللغةِ العربيةِ إلا الأمرُ والمضارعُ. تقولُ العربُ: «ذَرْ»، وتقول: «يذر». بالمضارعِ والأمرِ. ولاَ يوجدُ من مادتِه فعلٌ ماضٍ ولا مصدرٌ، ولا اسمُ فاعلٍ ولا اسمُ مفعولٍ، فَمَاضِي (ذَرْ) هو قولك: «تَرَكَ». واسمُ فاعلِه: تَارِك، واسمُ مفعولِه: متروكٌ. ومصدرُه: التركُ. ولاَ يُسْتَعْمَلُ منه إلا الأمرُ والمضارعُ (١). ومعنَى: ﴿ذَرْهُمْ﴾: اتْرُكْهُمْ.
﴿وَمَا يَفْتَرُونَ (١١٢)﴾ (ما) منصوبةٌ لأنها مفعولٌ معه. ويحتملُ أن تكونَ مصدريةً (٢) والمعنَى: ذَرْهُمْ وافتراءَهم. وعلى أنها موصولةٌ فالمعنَى: اتْرُكْهُمْ والذي يفترونَه على اللَّهِ. وصيغةُ الأمرِ هنا إنما هي للتهديدِ، والمعنَى: خَلِّهِمْ وافتراءَهم فسيجدونَ غِبَّ ذلك، ويعلمونَ عاقبتَه الوخيمةَ. وقد تقررَ في فَنِّ الأصولِ في مباحثِ
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: وذر) ص٨٦٢، القرطبي (٧/ ٦٩)، الدر المصون (٢/ ٦٣٧).
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ١٧٧).
الزِّينَةِ التي يتناولها ظاهر الآية الكريمة (١). مع القطع بأنها نازلة في عدم العُرْيِ وستر العورات عند الطواف والصلوات.
وهي دليل واضح على أن الطواف لا يَصِحّ مِنَ العُرْيَان كما عليه جمهور العلماء، وأن الصلاة أيضاً لا تَصِحُّ مَعَ كشْفِ العَوْرَةِ خلافاً للإمام أبي حنيفة - رحمه الله - في الطواف (٢). ويؤيد معنى ما دلت عليه الآية قوله ﷺ الذي أرسل عليًّا ينادي به: «وَأَلاّ يحج بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وألا يطُوفَ بالبيْتِ عُرْيَانٌ» (٣). وهذا معنى قوله: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: آية ٣١] أي: لا تأتوا الطواف مكشوفة عوراتكم، ولا تأتوا مساجد المسلمين مكشوفة عوراتكم كما كان يفعله المشركون في مسجد مكة؛ لأنا ذكرنا عن ابن عباسٍ من طريق سعيد بن جبير كما أخرجه مسلم في صحيحه (٤) أن هذه الآية نزلت في أن المشركين كانوا يطوفون عراة، حتى إن المرأة لتقول:
اليومَ يَبْدُو بعضُه أو كُله | فما بدا منه فلا أُحلُّه |
(١) انظر: ابن كثير (٢/ ٢١٠).
(٢) انظر: الكافي لابن عبد البر ص٦٣، المجموع (٣/ ١٦٥)، المغني (٢/ ٢٨٣).
(٣) البخاري في الحج، باب: لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك. حديث رقم (١٦٢٢)، (٣/ ٤٨٣)، ومسلم في الحج، باب لا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان... ، حديث رقم (١٣٤٧)، (٢/ ٩٨٢)، من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه). وجاء من حديث علي (رضي الله عنه) عند الترمذي في التفسير، باب ومن سورة براءة. حديث رقم: (٣٠٩١، ٣٠٩٢)، (٥/ ٢٧٥، ٢٧٦).
(٤) مضى تخريجه قريباً.
غير مدّ النون. وقرأه نافع وحده: ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنآ أَوَّلُ المؤْمِنِينَ﴾ (١).
قال بعض العلماء (٢): أول المؤمنين من بني إسرائيل. وقال بعضهم: أول المؤمنين بأن البشر لا يقدرون على رؤيتك في دار الدنيا. هكذا قاله بعضهم (٣)، والله أعلم. هذا معنى قوله: ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
قال الله ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ﴾ قرأه بعض السبعة: ﴿إنّيَّ اصْطَفَيْتُكَ﴾ (٤) اصطفيتك: معناه: اخترتك. والطاء مبدلة من تاء الافتعال؛ لأن المقرر في فن الصرف: أن تاء الافتعال إذا جاءت بعد حرف من حروف الإطباق أُبدلت طاءً كما هو معروف في محله (٥).
والاصطفاء معناه: الاختيار. أي: اخترتك على الناس ﴿بِرِسَالاَتِي﴾.
قرأ هذا الحرف جمهور القراء غير نافع وابن كثير: ﴿بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾ بصيغة الجمع المؤنث السالم، وقرأه من السبعة نافع وابن كثير: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِي﴾ بالإفراد (٦)،
_________
(١) انظر: الإتحاف (٢/ ٦٢).
(٢) انظر: ابن جرير (١٣/ ١٠٤).
(٣) المصدر السابق (١٣/ ١٠٢ - ١٠٣).
(٤) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٩.
(٥) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ٤١٨ - ٤١٩. وراجع ما سبق عند تفسير الآية (١١٩) من سورة الأنعام.
(٦) انظر: السبعة ص٢٩٣.
وإذا تركوها كلها -تركوا النافع منها والضار- بقوا ولم يلحقوا، وبقوا مستضعفين، وإذا أخذوا ضارها دون نافعها فهم قوم مجانين، هم حمقى لا عقول لهم، وإن أخذوا النافع وتركوا الضار فهذا هو الأمر الطبيعي لكل عاقل.
والمؤسف كل الأسف أنّ غالب من يتسمّى باسم الثقافة والحضارة والتمدُّن لا يأخذ منهم إلا القشور المهلكة، والسموم الفاتكة، من الانحطاط الخُلُقِي، والتمرُّد على نظام السماء، والتنكر لخالق هذا الكون، في الوقت الذي لا يستفيد فيه من مائها الزلال - الذي هو قوّتها- شيئاً!! وهذه مسألة مَعْكُوسَة جمع صاحبها بين الكفر والإفلاس.
مَا أحْسَنَ الدِّينَ والدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا | وَأَقْبَحَ الكُفْرَ والإِفْلاسَ بِالرَّجُلِ (١) |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥٥) من سورة الأنعام.
(٢) أخرجه مسلم في الإمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه، حديث رقم: (١٩١٧) (٣/ ١٥٢٢).