ويجوزُ انقسامُ الناسِ إلى جماعاتٍ متعددةٍ، ولا يلزمُ أن يكونوا فريقين فقط، بل يجوزُ أن يكونوا فريقين وأكثرَ، ومن هذا المعنى قولُ نُصَيبٍ (١):
فَقَالَ فَرِيقُ الْقَوْمِ: لاَ، وَفَرِيقُهُمْ
نَعَمْ [وَقَالَ فَرِيقٌ] (٢): وَيْحَكَ مَا نَدْرِي
واختلفَ العلماءُ في المرادِ بهذا الفريقِ الذين سمعوا كلامَ اللَّهِ وَحَرَّفُوهُ بعدَ أن عَقَلُوهُ (٣):
قال جماعةٌ من العلماءِ: هذا الفريقُ هم علماؤُهم، ومعنى ﴿يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ يسمعونَ كلامَ اللَّهِ يُتْلَى في كتابِه التوراةِ ويفهمونه ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ من بعد ما أَدْرَكُوهُ بعقولِهم، فيجدونَ فيه صفاتِ النبيِّ - ﷺ -: (أبيضَ)، فيحرفونها إلى (أسمرَ)، ويجدونَ من صفاتِه: (رَبْعَة)، فيحرفونها إلى أنه طويلٌ مُشَذَّبٌ، ونحو ذلك من تغييرِ الصفاتِ.
فعلى هذا الوجهِ فالفريقُ الذين يسمعونَ كلامَ اللَّهِ: العلماءُ يسمعونَ كتابَ اللَّهِ التوراةَ يُتْلَى ﴿ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ يعني يُبَدِّلُونَهُ وَيُحَرِّفُونَهُ، ويجعلونَ فيه ما ليسَ فيه، بأن يُحِلُّوا حرامَه، ويحرموا حلالَه، ويغيروا فيه صفاتِ النبيِّ - ﷺ -، وينكروا بعضَ آياتِه كآيةِ الرجمِ، وما جرى مجرَى ذلك من التحريفِ.
_________
(١) البيت في الكتاب لسيبويه (٣/ ٥٠٣)، ولفظه:

فقال فريق القوم لمَّا نشدتُهم نَعَمْ، وفريقٌ لَيْمُنُ الله ما ندري
(٢) في الأصل: وفريق قال.
(٣) انظر: ابن كثير (١/ ١١٥).
الأمرِ (١)، وفي فَنِّ المعاني في مباحثِ الإنشاءِ (٢): أن مِنَ المعانِي التي تأتي لها صيغةُ (افْعَلْ) منها: قصدُ التهديدِ والتخويفِ، كقولِه: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)﴾ [الحجر: آية ٣] وقولُه: ﴿تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ [الزمر: آية ٨] وقولُه: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: آية ٢٩] كُلُّ هذه صيغٌ مرادٌ بها التهديدُ؛ ولذا قال هنا: ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١١٢)﴾ والافتراءُ: هو اختلاقُ الكذبِ والعياذُ بالله جل وعلا.
وقولُه: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: آية ١١٣] أي: ليغروهم ولتميلَ إليه، أي: إلى ذلك القولِ المزخرفِ المزينِ الباطلِ؛ ليكونَ سببًا للضلالِ، تميلُ إليه أفئدة: أي: قلوبُ الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ - والعياذُ بالله - لأَنَّ المؤمنينَ يعرفونَ زخارفَ الشيطانِ ووحيَه، فيتباعدونَ منه ويجتنبونَه؛ ولذا قال: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ﴾. إذا مَالَتْ قلوبُهم إليه يرضوه ويحبوه، ثم إذا رضوه وقعوا في الكفرِ المزينِ المزخرفِ والعياذُ بالله.
﴿وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (١١٣)﴾ [الأنعام: آية ١١٣] الاقترافُ في لغةِ العربِ: معناه الاكتسابُ (٣). والمعنَى: وَلِيَكْتَسِبُوا ما هم مكتسبونَ إياه من الكفرِ والمعاصِي - عياذًا بالله - بسببِ ذلك القولِ المزخرفِ، الذي صَغَتْ إليه قلوبُهم ورضوه وأحبوه، ووقعوا بسببِه بالكفرِ والمعاصِي. والاقترافُ: الاكتسابُ. وتقول: راحَ فلانٌ يقترفُ
_________
(١) انظر: شرح الكوكب المنير (٣/ ٢٣، ٣٧)، الإيضاح للقزويني ص١٤٨.
(٢) السابق.
(٣) انظر: المفردات (مادة: قرف) ص٦٦٧.
وهذا الحديث الذي له حكم الرفع الثابت في صحيح مسلم؛ لأنه تفسير من ابن عباس يتعلق بسبب النزول، فكأن ابن عباس يفسِّر الزينة بأنها لبس الثياب عند الطواف والصلوات، وتفسير الصحابي إن كان له تعلق بسبب النزول كان له حكم الرفع كما هو مقرَّر في علوم الحديث.
وهذا يدل على أن قائلة البيت من اللاتي كنَّ يطفن بالبيت وهن عريانات يتقربن بذلك إلى الله، مع أنه ذكرت جماعة من المؤرخين للبيت المذكور قصة غير ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس، والظاهر أنَّ ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس أثبت، فقد ذكر غير واحد ممن تكلم على الصحابة في ترجمة ضباعة بنت عامر بن لقيط بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة (١) - هي من بني قشير الذين منهم مسلم بن الحجاج القشيري - وكانت امرأة ذات جمال، وأنها تزوجها عبد الله بن جدعان التيمي، الجواد المشهور، وجاء بها إلى مكة، وكان من أعظم فتيان مكة في ذلك الزمن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، والد أبي جهل، فأعجبه جمال ضباعة بنت عامر، التي هي زوجة ابن جدعان، فصار يأتيها ويقول لها إن هذا الشيخ الكبير الذي ليس له جمال لا يناسب جمالك وكمالك فتطلقي منه لأتزوجك، يُخَبِّبها عليه، فَخَبَّبها عليه، فطلبت من ابن جدعان الطلاق، فلما طلبت منه الطلاق قال: نعم، بشرط أن تنحري كذا وكذا جزوراً -مئة من الإبل أو أكثر- وتغزلي غزلاً يمتد من هنا إلى جبل كذا، وأن تطوفي ببيت الله وأنت عريانة، فقالت له: اصبر حتى أفكر في شأني، فجاءها هشام، وكان هشام من
_________
(١) انظر: الإصابة (٤/ ٣٥٣ - ٣٥٤).
ومعنى القراءتين واحد؛ لأن الرسالة أُضيفت إلى معرفة فهي تعم، وتكون بمعنى الجمع كما هو معروف.
﴿بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾ الذي كلمتك به ﴿فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ﴾. ﴿مَا آتَيْتُكَ﴾ وهو التوراة. يعني: خذها كما يأتي: ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا﴾ [الأعراف: آية ١٤٥].
﴿وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: آية ١٤٤] لله على هذه النعم العظام حيث كلمك، وأهلك عدوك، وكتب لك هذا الكتاب العظيم الذي هو التَّوْرَاة.
وقوله: ﴿مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾ الشاكرون جمع الشاكر، وهو اسم فاعل الشكر، وقَدْ قَدَّمْنَا مرارًا (١) أن الشكر في لغة العرب: الظهور، ومنه: (ناقة شكور) يظهر عليها السِّمَن، و (الشكير): الغصن الذي يظهر في الجذع الذي كان مقطوعًا، كما هو معروف.
والشكر في القرآن يطلق من الرب لعبده، ومن العبد لربه، كما قال في شكر الرب لعبده: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: آية ١٥٨]، وقوله: ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: آية ٣٤] ومعنى شكر الرب لعبده: هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل. ويُطْلِق الشكر من العبد لربه كقوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: آية ١٣] ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان: آية ١٤] وضابط شكر العبد لربه: هو أن يصرف نعمته بما يرضيه.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
وأعظمها في ذلك الوقت، والإعداد في ذلك كان يكون بمثل هذا، حتى قال الشاعر (١):
وَأَعْدَدْتُ للحَرْبِ أوْزَارَهَا رِمَاحاً طُوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراً
وقال عمرو بن معد يكرب الزبيدي (٢):
أَعدَدْتُ للحَدَثَانِ سَا بِغةً وَعَدَّاءَ عَلَنْدَى
يعني: درعاً وفرساً ذكراً.
أما الآن فقد تطوّرت الحياة عن ذلك في ظروفها الرَّاهِنَة، وصارت الخيل والدروع والرِّمَاحُ لا تغني شيئاً، فَصَارَ الأمْرُ يَتَطَلّب شيئاً زائداً على ذلك يساير الأحوال، ويساير التطوّر في حالاته الراهنة، فعلى المسلمين أن يُعدّوا كل ما في الاستطاعة منه، ولكنهم -وإنا لله وإنا إليه راجعون- لا يُعدّون في أغلب أقطار المعمورة شيئاً، والكفار يتقوّون ويسلّطهم الله عليهم بذنوبهم. أما التعاليم السماوية فهي لا تشجِّع على الضعف والتواكل والتسليم للأعداء، لا، إنما تأمر بالقوّة وإعداد القوة المستطاعة، والكفاح القوي، وعدم التنازع، وعدم التفرّق، والاتصال مع هذا كله بخالق السماوات والأرض، وامتثال أوامره، واجتناب نهيه ﴿إِِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ﴾ [الأنفال: الآية ٤٥] إلى غير ذلك من الآيات. وهذا معنى قوله: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم﴾ إعداده ﴿وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ الرباط: تطلقه العرب على عين الخيل المربوطة، يقولون: هذا رباط. أي:
_________
(١) البيت للأعشى، وهو في ديوانه ص٧١، تاريخ دمشق (٢٠/ ١٤٠).
(٢) البيت في الدر المصون (١/ ٢٠٧)، شواهد الكشاف ص٣٢.


الصفحة التالية
Icon