وعلى هذا القولِ فالفريقُ: العلماءُ منهم بالتوراةِ، وتحريفُهم له معروفٌ.
فإذا كان خِيَارُهُمْ وعلماؤُهم يعقلونَ عن اللَّهِ كلامَه في كتابِه ثم يُغَيِّرُونَهُ ويحرفونه ويحملونه على غيرِ مَحْمَلِهِ، فما بَالِكُمْ تطمعونَ في أَنَّ مثلَ هؤلاء يؤمنون لكم ويهتدون إلى خيرٍ.
الوجهُ الثاني: أن هذا الفريقَ هم السبعونَ الذين اختارهم موسى، المذكورون في سورةِ الأعرافِ في قولِه: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا﴾ الآيةَ... [الأعراف: آية ١٥٥] وَمَنْ قالَ هذا القولَ قال: إنهم لَمَّا خرجوا مع موسى إلى الميقاتِ سألوه أن يسألَ اللَّهَ أن يُسْمِعَهُمْ كلامَه. فسأل لهم نَبِيُّهُمْ ذلك. وأن اللَّهَ أمرهم أن يَصُومُوا. وَلَمَّا أرادَ اللَّهُ أن يكلمَ موسى، وألقى عليه الضبابَ سَمِعُوا كلامَ اللَّهِ يأمرُ موسى وينهاهُ، فبعدَ أن سَمِعُوا كَلاَمَ اللَّهِ وعقلوه حَرَّفُوهُ. قالوا: سمعناه يقولُ في آخِرِ الكلامِ: إن شئتُم فَافْعَلُوا، وإن شئتُم لا تَفْعَلُوا.
فإذا كانوا يسمعونَ من اللَّهِ كلامَه، هذه السبعونَ المختارةُ منهم تسمعُ كلامَ اللَّهِ وتحرفُه وَتُغَيِّرُهُ، فما بالُكم تطمعونَ في إيمانِ مَنْ هذه صِفَتُهُمْ؟
هذان الوجهانِ في قولِه: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ﴾.
وقد بَيَّنَّا مرارًا أن همزةَ استفهامِ الإنكارِ إذا جاءَ بعدَها حرفُ عطفٍ كالفاءِ، كما في قولِه هنا: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ﴾ و (الواو) أو (ثم) أن فيها للعلماءِ وَجْهَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ (١):
_________
(١) انظر: البحر المحيط (١/ ٢٧١).
لأهلِه، أي: يكتسبُ لهم من الدنيا. والمرادُ بالاقترافِ هنا: اكتسابُ المعاصِي هذا معنَى قولِه: ﴿وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴾.
﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)﴾ [الأنعام: الآية ١١٤].
يقول الله جل وعلا: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)﴾ [الأنعام: الآية ١١٤].
ذكر بعضُ أهلِ العلمِ (١) أن بعضَ الكفارِ طلبوا النبيَّ - ﷺ - أن يتحاكَم معهم إلى بعضِ الكهانِ، كما كانت عادةُ العربِ إذا تَنَازَعُوا واختلفوا تَحَاكَمُوا إلى بعضِ الكهنةِ - والعياذُ بِاللَّهِ - فَبَيَّنَ النبيُّ - ﷺ - أن رَبَّهُ أمرَه أن ينكرَ كلَّ الإنكارِ على مَنْ يبتغي حَكَمًا غيرَ خالقِ السماواتِ والأرضِ الذي هو الْحَكَمُ العدلُ اللطيفُ الخبيرُ قُلْ: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾ [الأنعام: آية ١١٤].
قد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا (٢) أن حروفَ العطفِ من (الفاء)، و (الواو)، و (ثم) إذا جاءت بعد همزةِ استفهامٍ أن فيها وَجْهَيْنِ معروفين للعلماءِ:
أحدُهما: أن الهمزةَ تتعلقُ بجملةٍ محذوفةٍ، وأن الفاءَ عاطفةٌ على الجملةِ المحذوفةِ، وعلى هذا فالتقديرُ يدلُّ عليه المقامُ في
_________
(١) سيأتي قريبًا إن شاء الله.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة البقرة، وسيأتي عند الآية (١١٨) من الأنعام، وغير ذلك من المواضع.
عظام فتيان مكة، وقد قال فيه الشاعر لما مات (١):
فَأَصْبَحَ بَطْنُ مَكَّةُ مُقشعِرّاً | كأنَّ الأرضَ ليس بها هِشَامُ |
اليومَ يَبْدُو بعضُه أوكُلُّه | فما بَدَا منه فلا أُحِلُّهُ |
_________
(١) البيت للحارث بن خالد بن العاص، أو الحارث بن أُمية بن عبد شمس. وهو في الكامل ص٦٧١، اللسان (مادة: قثم) (٣/ ٢٢).
(٢) هكذا في الأصل، ولعله سبق لسان، والمراد: طلب أو شرط.
(٣) هذا الخبر موجود في الإصابة (٤/ ٣٥٣)، ولم أقف عليه في ترجمتها في الاستيعاب.
(٤) الَّلدَةُ: التِّرب، ويجمع على: لِدَات، انظر: القاموس (مادة: الولد) ص٤١٧.
اعلموا -أيها الإخوان- أن شكر خالقنا واجب علينا (١)، فهذه العيون التي فتح الله في أوجهكم من أعظم نعمه عليكم، فمِن شُكْرِها: أن لا تنظروا بهذه العيون إلا ما يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وتَفَضَّلَ عَلَيْكم بها، أما النَّظَرُ في المحرَّمَات فلا ينبغي للعبد أن يَسْتَعْمِلَ نِعْمَةَ اللهِ فيما يغضب الله ويسخطه، فهذا أمر فظيع شنيع!! منّ الله عليكم بهذه الأيدي، وفرّق أصابعها، وأبعد إبهامها من الأصابع ليمكنكم العقد والحل، وشد رؤوسها لكم بالأظفار، فَشُكْر هذه الأيدي: ألا تبطشوا بها، ولا تتناولوا بها إلا ما يرضي مَنْ خَلَقَهَا وامْتَنَّ عليكم بها، وهكذا في سائر الأعضاء والجوارح، والجاه والمال، وغير ذلك، فلا تستعينوا على سخط الله بنعم الله، بل اشكروا لله نعمه، واصرفوا نعمه فيما يُرْضِيهِ، واعلموا أنَّ مِنْ أَقْبَحِ القبائح وأرْذَلِ الرذائل أن يكون العبد الضعيف الحقير يمُنّ عليه خالق السماوات والأرض (جل وعلا) مع عظمته وجلاله بنعمه ثم إنه يصرف نعمه فِيمَا يغضبه ويسخطه!! هذا مِنْ أقْبَحِ الأفْعَالِ وأخَسِّهَا، ومَنْ لَهُ عَقْلٌ يستحيي مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلكَ.
واعلموا أن مادة (الشكر) تتعدى إلى النعمة بنفسها بالإجماع، كقوله: ﴿أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ [النمل: آية ١٩] أما تعدي مادة (الشكر) إلى المنعم فاللغة الفصحى أنها تتعدى باللام، وبالغ قوم من علماء العربية فقالوا: لا يجوز تعديها بنفسها (٢)، وهذا إفراط شديد!! فمثلاً لو قلت: نحمد الله ونشكره. هذا لا ينبغي أن يُقال!! وليس هو الأولى. وزعم بعضهم أنه لا يجوز. فيقول: نحمد
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنعام.
خيل مربوطة في سبيل الله. قال بعضهم: هو جمع ربيط، فرس ربيط: مربوط في سبيل الله، قالوا: كفصيل وفصال، وربيط ورباط، فالرباط اسم لذات الخيل المربوطة في سبيل الله؛ لأن الخيل كانت من أقوى القوة وأعظم العدة التي تقهر بها الأعداء في وقتها. وهذا معنى قوله: ﴿وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ والخيل هو الحيوان المعروف. قال بعضهم: هو جمع (خايل)؛ لأن في مشيها خيلاء كمشية المتكبر المتبختر. وبعضهم يقول: هو جمع (خائل) واحده (خائل). وقد قدّمنا أن التحقيق عندنا أن (الفَاعِل) يُجمع على (فَعْل) إذا كان وصفاً. وقوله: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ﴾ الإرهاب: التخويف، تخوّفون به عدو الله. والعدو يُطلق على المفرد وعلى الجمع، معناه: أعداء الله، كقوله: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون: الآية ٤] ﴿فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ﴾ [النساء: الآية ٩٢] أي: أعداء. وهذا معنى قوله: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ ككفار مكّة وغيرهم من الكفّار.
﴿وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ﴾ معنى ﴿مِن دُونِهِمْ﴾ آخرين غيرهم لا تعلمونهم. كان بعض العلماء يقول: هم قريظة. وبعض العلماء يقول: هم فارس والروم. وبعض العلماء يقول: هم المنافقون (١).
واستدل من قال: إنهم المنافقون؛ لأن الله قال فيهم: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة:
_________
(١) انظر هذه الأقوال في ابن جرير (١٤/ ٣٥)، القرطبي (٨/ ٣٨)، ابن كثير (٢/ ٣٢٢).