أحدُهما: أن همزةَ الاستفهامِ تتعلقُ بمحذوفٍ دَلَّ المقامُ عليه، و (الفاءُ) تَعْطِفُ الجملةَ التي بَعْدَهَا على الجملةِ المحذوفةِ التي دَلَّ المقامُ عليها. والمعنى: أتطمعونَ بما لا طَمَعَ فيه، فتطمعونَ أن يُؤْمِنُوا لكم؟ ونحو هذا. أو: أَلاَ تعرفونَ الحقائقَ فتطمعونَ بما لا طمعَ فيه؟ والأحوالُ متقاربةٌ، وإلى هذا الوجهِ مَيْلُ ابنِ مالكٍ في الخلاصةِ في قولِه (١):
وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ وَعَطْفُكَ الفِعْلَ عَلَى الْفِعْلِ يَصِحّ
والوجهُ الثاني: أن همزةَ الاستفهامِ مُزَحْلَقَةٌ عن محلِّها، وأنها متأخرةٌ بعد الفاءِ، إلا أنها قُدِّمَتْ عن مَحَلِّهَا؛ لأن للاستفهامِ صدرَ الكلامِ، وعلى هذا فالمعنى: فأتطمعون. فتكونُ الجملةُ معطوفةً بالفاءِ على ما قَبْلَهَا، كأن المعنى: فَأُعْطِفَ على ذلك إنكارُ طَمَعِكُمْ بما لا طمعَ فيه، فيكون المعنى: فأتطمعونَ أن يؤمنوا لكم والحالُ ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ﴾.
التحريفُ: يعني: وضعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِهِ، يَصْدُقُ بأن يُبَدِّلُوهُ بما ليسَ منه وأن يُغَيِّرُوهُ، وأن يَحْمِلُوهُ على غيرِ مَحْمَلِهِ، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ التحريفِ.
وقولُه: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾ أَيْ أَدْرَكُوهُ بعقولِهم. العربُ تقولُ: عَقَلْتُ الأمرَ أَعْقِلُهُ، إذا أدركتُه بِعَقْلِي.
والعقلُ نورٌ رُوحَانِيٌّ تُدْرَكُ به النفسُ العلومَ الضروريةَ والنظريةَ (٢)، ومحلُّه القلبُ، كما نَصَّ عليه الكتابُ والسنةُ. لا الدماغُ كما يزعمُه الفلاسفةُ.
_________
(١) الخلاصة ص٤٨، وانظر: شرحه في الأشموني (٢/ ١٢٠).
(٢) انظر: الكليات ص٦٧.
الجملةِ، وعليه فالتقديرُ هنا: أَأَضِلُّ عن سبيلِ اللَّهِ فأبتغي حَكَمًا غيرَ الله؟
الوجهُ الثاني: أن همزةَ الاستفهامِ مُزحْلَقَةٌ عن مَحَلِّهَا وهي مقدمةٌ على حرفِ العطفِ لفظًا وهي بعدَه في الرتبةِ؛ لأن حرفَ الاستفهامِ له صدارةُ الكلامِ، وعليه فتكونُ الفاءُ عاطفةً للجملةِ المُصَدَّرَةِ بالاستفهامِ على ما قَبْلَهَا، وهذا معروفٌ. والمعنَى: قَلْ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ - لأن النبيَّ مأمورٌ أن يقولَ هذا - أَأَضِلُّ عن سواءِ الطريقِ فَأَبْتَغِي حَكَمًا غيرَ الله؟ هذا لا يمكنُ أبدًا.
والهمزةُ في قولِه: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ﴾ همزةُ إنكارٍ، وهي تدلُّ على إنكارِ الشيءِ وتشنيعِه والتباعدِ منه.
والْحَكَمُ: قال بعضُ العلماءِ (١): الحَكَمُ عند العربِ أفضلُ من الحاكمِ؛ لأن الحاكمَ هو الذي يُوقِعُ الحُكمَ بين اثنين، قد يكونُ حُكْمَ عدلٍ وقد يكونُ حُكْمَ جَوْرٍ، وأما الحَكَمُ لا تكادُ العربُ تُطْلِقُهُ إلاَّ على الذي يُنْصِفُ في حُكْمه، والمعنَى: لا أطلبُ حَكَمًا غيرَ اللَّهِ؛ لأن اللَّهِ هو الحَكَمُ العدلُ اللطيفُ الخبيرُ الذي هو الحاكمُ وحدَه (جل وعلا).
وفي إعرابِ (غير) و (حَكَمًا) أوجهٌ معروفةٌ (١)، قال بعضُ العلماءِ: (غير) مفعولٌ مقدمٌ لـ (أبتغي)، والمعنَى: أبتغي غيرَ الله. وعليه فقولُه: ﴿حَكَمًا﴾ قيل: تمييزٌ، وقيل: إنها حالٌ، أبتغي غيرَ اللَّهِ في حالِ كونِه حَكَمًا. أي: مميزةٌ لـ (غير).
_________
(١) سيأتي قريبًا إن شاء الله.
عياض في شرح مسلم في الكلام على البيت في مسلم (١): إن قائلته ضباعة هذه، ولكنه تلفيق لقصة بقصة أخرى، وزعم من ذكر هذه القصة أن النبي ﷺ بعد ذلك خطبها عند ابنها. والظاهر أنه ابنها سلمة بن هشام؛ لأنها ولدت منه ابنها سلمة الذي كانت ترقصه وهو صغير وتقول (٢):
اللَّهُمَّ ربَّ الكَعْبَةِ المُحَرَّمَهْ | أَظْهِرْ عَلَى كُلِّ عَدُوٍّ سَلَمَهْ |
أما كونه نزلت في المرأة التي كانت تطوف بالبيت عريانة فقد أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس (٤)، والظاهر أنه أثبت من هذا، والله تعالى أعلم.
ومعنى الآية الكريمة: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٣١] أي: ثيابكم التي تسترون بها عوراتكم وتتجمَّلون بها عند كل مسجد لإقامة
_________
(١) لم أقف عليه في كلام القاضي عياض (رحمه الله) على الحديث في كتابه (الإكمال) المطبوع، وقد نقله عن القرطبي في المفهم (٧/ ٣٤٦)، وانظر: إكمال المعلم (٨/ ٥٨٩)، شرح الأُبي على مسلم (٧/ ٣٢٨).
(٢) البيت في طبقات ابن سعد (٤/ ٩٧)، الإصابة (٢/ ٦٩).
(٣) ذكره ابن سعد في الطبقات (٨/ ١١٠).
(٤) مضى قريباً.
الله ونشكر له. ولا يقول: ونشكره. ومن ادعى أن: (ونشكره) وأن تعدي مادة الشكر إلى المفعول الذي هو المنعم بنفسها لا يجوز؛ خلاف التحقيق.
والحق الفصل الذي لا شك فيه في هذا المقام: أن اللغة الفصحى أن تتعدى إليه باللام لا بنفسها، وأن تقول: نحمد الله ونشكر له. هذه اللغة الفصحى بلا نزاع. وهي لغة القرآن، يقول: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان: آية ١٤] ولم يقل: أن اشكرني. ويقول: ﴿وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: آية ١٥٢] ولم يقل: واشكروني. أما قولهم: إن مثل قوله: (أحمده وأشكره) أنه لحن لا يجوز. فليس بصواب، بل (أشكره) لغة مفضولة، و (أشكر له) هي اللغة الفصحى، وقد جاء عن العرب أنهم يُعَدُّونَ -مثلاً- الشكر إلى المنعم بلا واسطة الحرف، وهو متبوع في كلامهم، ومن أمثلته في كلامهم قول أبي نخيلة (١):
شَكَرْتُكَ إِنَّ الشُكْرَ حَبْلٌ مِنَ التُّقَى | وَمَا كُلُّ من أَوْلَيْتَهُ نعمةً يَقْضِي |
خَلِيْلَيَّ عُوجَا اليومَ حتى تُسَلِّمَا | على عَذْبَةِ الأَنْيَابِ طَيِّبَةَ النَّشْرِ |
فإنكُما إنْ عُجْتُمَا ليَ ساعةً | شكرتُكُمَا حتى أُغَيَّبَ في قبري |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
الآية ١٠١] وقال كثير من العلماء: هم مردة الجن، وزعم بعض العلماء أن الجن يخافون من الخيل، وأنهم يفرون من صهيلها!! وجاء في ذلك بعض الأحاديث.
والتحقيق أنه لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء: البحث عن هؤلاء الآخرين لا طائل تحته؛ لأن الله صرح بأنّا لا نعلمهم فكيف نتكلّم فيما قال ربنا إنّنا لا نعلمه، والله يقول: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: الآية ٣٦] (١) وهذا معنى قوله: ﴿وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾.
ولما أمر الله بإعداد القوة المستطاعة كائنة ما كانت، وكان إعدادها يحتج إلى مادّة رغب المؤمنين في الإنفاق في سبيل الله، لينفقوا ويعينوا على إعداد القوة، قال: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ (ما) شرطية و ﴿مِن شَيْءٍ﴾ بيان لـ (ما)، و ﴿تُنفِقُواْ﴾ معناه: [تبذلونه] (٢) لوجه الله وابتغاء مرضاته ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: في طريقه التي ترضيه، ويدخل فيها دخولاً أوليّاً: ما يعين على الجهاد من إعداد القوة، ومن رباط الخيل.
﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي: يعطكم الله ثوابه يوم القيامة وافياً غير منقوص، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله من الأضعاف.
﴿وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: الآية ٦٠] لا تنقصون شيئاً من حقوقكم.
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ٣٨).
(٢) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.