وبحوثُ العقلِ بحوثٌ فلسفيةٌ لاَ طائلَ تَحْتَهَا.
فللفلاسفةِ في بحثِ العقلِ ما يزيدُ على مائةِ طريقٍ، من جهةِ البحثِ في العقلِ هل هو جوهرٌ أو عَرَضٌ؟ والكلامُ على العقولِ العشرةِ، والعقلِ الفياضِ. كله بحثٌ فلسفيٌّ لا طائلَ تَحْتَهُ (١).
وإنما قال جل وعلا: ﴿تَعْقِلُونَ﴾ أي: تُدْرِكُونَ بعقولِكم؛ لأن العقلَ نورٌ رُوحَانِيٌّ تُدْرِكُ به النفسُ العلومَ الضروريةَ والنظريةَ. وقد دَلَّ القرآنُ على أن محلَّه القلبُ لا الدماغُ؛ لأن الله يقول: ﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج: آية ٤٦] ولم يقل: أَدْمِغَةٌ يَعْقِلُونَ بها. ويقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كاَنَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: آية ٣٧] ولم يَقُلْ: لمن كان له دِمَاغٌ. وفي الحديثِ الصحيحِ عن النبيِّ - ﷺ -: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ» (٢) ولم يقل: ألا وهي الدماغُ.
وَجَمَعَ بعضُ العلماءِ بينَ قولِ أهلِ السنةِ وقولِ الفلاسفةِ بأن قالَ: إن أصلَ العقلِ في القلبِ كما في الكتابِ والسنةِ، إِلاَّ أَنَّ نورَه يتصلُ شعاعُه بالدماغِ. واستدلُّوا على هذا بدليلٍ استقرائيٍّ عاديٍّ، قالوا: بالعادةِ المطردةِ والاستقراءِ أنكَ لا تجدُ رجلاً طويلَ العنقِ طُولاً مُفْرِطًا إلا كَانَ فِي عَقْلِهِ بَعْضَ الدَّخَلِ؛ لِبُعْدِ ما بينَ طَرَفَيْ شُعَاعِ نُورِ عَقْلِهِ.
_________
(١) انظر: المعجم الفلسفي (٢/ ٨٤ - ٨٨).
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه. حديث رقم: (٥٢)، (١/ ١٢٦)، وأخرجه في موضع آخر، انظر: حديث رقم: (٢٠٥١)، ومسلم في الصحيح، كتاب المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، حديث رقم: (١٥٩٩)، (٣/ ١٢١٩).
وقال بعضُ العلماءِ: (حَكَمًا) هي مفعولُ (أبتغي)، أبتغي حَكَمًا. و (غير الله) في محلِّ الحالِ. والمعروفُ في العربيةِ أن نعتَ النكرةِ إذا تَقَدَّمَ عليها صارَ حَالاً (٢).
ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: أن اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أن ينكرَ غايةَ الإنكارِ ابتغاءَ حَكَمٍ غيرِ اللَّهِ، فلا يُطْلَبُ ولا يُبْتَغَى حَكَمٌ إلاَّ خالقَ السمواتِ والأرضِ.
وهذه الآيةُ الكريمةُ تُبَيِّنُ لنا أن الحاكمَ هو خالقُ هذا الكونِ، هو الحكمُ وحدَه (جل وعلا) لا محاكمةَ إلاَّ إليه، فالحلالُ هو ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ هو ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ هو ما شَرَعَهُ اللَّهُ، لا حَكَمَ إلاَّ اللَّهُ، ولا حُكْمَ إلاَّ لله - كما قد بَيَّنَّا ذلك مِرَارًا (٣) - والله (جل وعلا) كما يَتَنَزَّهُ أن يكونَ له ولدٌ، ويتنزه عن أن يكونَ له شريكٌ، كذلك يتنزهُ عن أن يكونَ حاكمٌ معه أو مُشرِّعٌ معه، كما في قولِه في عبادتِه: ﴿وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: آية ١١٠]، وكما قال في حكمِه: ﴿وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: آية ٢٦] فَحُكْمُهُ كعبادتِه، العبادةُ له وحدَه، والحكمُ له وحدَه (جل وعلا)؛ لأن اللَّه هو الذي له الحكمُ، وقد بَيَّنَ (جل وعلا) في سورةِ المؤمنِ أن الحكمَ لا يكونُ إلاَّ لِمَنْ هو أعظمُ من كلِّ شيءٍ، وأكبرُ من كلِّ شيءٍ، فلا يكونُ إلاَّ لمن له سلطةٌ عُلْيَا قاهرةٌ حاكمةٌ على كُلِّ شيءٍ، وقد أَشَارَ اللَّهُ
الصلوات وخصوصاً المسجد الحرام للطواف والصلاة فيه خلاف ما كان يفعله المشركون.
﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ﴾ نزل قوله: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ﴾ في بعض العرب، قال بعض العرب: كان بنو عامر بن صعصعة إذا أحرموا بالحج لا يأكلون الودك، ولا يشربون من ألبان الغنم، ولا مما خرج من لحومِهَا، فحرَّموا على أنفسهم بعض الطيبات من الدسم كالودك، وبعضهم يحرم شرب اللبن واللحم، فأُمروا أيضاً أن لا يحرِّموا هذه الطيبات التي أحلَّ الله، كما قال لهم: البسوا الثياب، ولا تتجرَّدوا في الإحرام، فكذلك كلوا طيبات الرزق ولا تحرموها على أنفسكم؛ أي: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ﴾ حتى ولو كان من الودك، ولو كان من اللبن مما يحرمه الجاهلية؛ لأن الجاهلية كانوا في الموسم بعضهم يحرم على نفسه الدسم، وبعضهم يُحَرِّم شرب اللبن واللحوم، ويزعمون أن هذا أتم لحجهم، وأنه أرضى لله (١)، فقال الله فيهم: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ﴾ ولا تحرموا شيئاً من طيبات الله؛ لأن ذلك تشريع الشيطان ككشف العورات.
وهذا يدل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يحرِّم شيئاً حلله الله كما قدمنا في سورة المائدة في قوله: ﴿لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلا تَعْتَدُواْ﴾ [المائدة: آية ٨٧] وعليه فليس للإنسان أن يقول: هذا الطعام أو هذا الشراب حرامٌ عليَّ، فإن حرَّم على نفسه حلالاً كطعام أو شراب فإنه لا يحرم عليه، وبعض العلماء يقول: تلزمه في تحريم
_________
(١) انظر: السيرة لابن هشام (١/ ٢١٩ - ٢٢١)، المُفَصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام (٦/ ٣٦٢، ٣٧١).
وقول الله في هذه الآية: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾ [الأعراف: آية ١٤٤] صفة الكلام هي التي جاء بها الذين يبحثون عن الكلام (١)، وجاءوا ببلايا، وجاءوا بعلم الكلام، وغيّروا عقائد الناس، وجاءت البلايا من ذلك الوقت لما دخل علم الكلام في المسلمين، وصاروا يحكِّمون العقل في صفات الله تعالى، وينفون الصفات بالتأويلات، بزعمهم أن العقل يمنعها، جاء من ذلك شر كبير، ومصدر هذا الشر الكبير، عسى الله أن يعفو عن المأمون فيه؛ لأنه هو أول من ترجم الكتب اليونانية، وكان منها هذه المقاييس المنطقية، وقد قدمنا لكم مرارًا (٢) أن الطريق الأحوط الذي يُنجي المسلم ويخلصه من القيل والقال والبلايا كلها حتى يلقى الله سالمًا على أساس صحيح في نور القرآن العظيم هو أن يلتزم الأسس الثلاثة التي أكثرنا من تكرارها في هذه الدروس، ونحن كررناها قصدًا لشدة الحاجة إليها، وكثرة من غفل عنها من المتعلِّمين، وقد بيّنا لكم مرارًا أَنَّ مَنْ أرَادَ مِنْكُمْ أن يلقى الله سالمًا ويتخلص من هذا المأزق في آيات الصفات؛ كصفة الكلام، وصفه اليد، والاستواء وجميع الصفات أن يبنيه على ثلاثة أُسس:
أولها: وهو أساس العقيدة الصحيحة: تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة خلقه في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم. والخلق صنعة، وهو (جل وعلا) صانعها، والصنعة لا تشبه صانعها لا في ذاته، ولا في فعله، ولا في صفته. فإذا
_________
(١) يريد أنهم جاءوا فيها بالخوض في الباطل، وإلا فمن المعلوم أن صفة الكلام ثابتة في الكتاب والسنة.
(٢) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٢) من سورة الأنعام.
﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (٦٥) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٦٩)﴾ [الأنفال: الآيات ٦١ - ٦٩].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)﴾ [الأنفال: الآيات ٦١ - ٦٣].
قرأ هذا الحرف عامّة القراء السبعة غير عاصم في رواية شعبة أبي بكر: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ﴾ بفتح السين. وقرأه شعبة عن عاصم: ﴿وإن جنحوا لِلسِّلْم﴾ (١).
و (السَّلم) بفتح السين و (السِّلْم) بِكَسْرِهَا لُغَتَان فَصِيحَتَانِ، وقراءتان سَبْعِيَّتَانِ صحيحَتَانِ، والمراد بالسَّلم: الصُّلْح. العرب تسمي الصلح: سَلماً، وسِلماً. وربما سمّتها: (سلاماً).
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٢٢.


الصفحة التالية
Icon