والتحقيقُ: أن العقلَ في القلبِ (١) كما دَلَّ عليه الوحيُ (٢) [والذين قالوا: إن العقلَ في] الدماغِ استدلوا: بأن كُلَّ ما يؤثرُ على الدماغِ يؤثرُ على العقلِ. وهذا لا دليلَ فيه، لإمكانِ أن يكونَ العقلُ في القلبِ - كما هو الحقُّ - وسلامتُه مشروطةٌ بسلامةِ الدماغِ، وهذا لا إشكالَ فيه.
والعقلُ الصحيحُ هو الذي يعْقِلُ صاحبَه عن الوقوعِ فيما لا يَنْبَغِي، كما قال (جل وعلا) عن الكفارِ: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: آية ١٠] أما العقلُ الذي لا يَزْجُرُ عمَّا لا ينبغي فهو عقلٌ دنيويٌّ يعيشُ به صاحبُه، وليس هو العقلَ بمعنى الكلمةِ.
وقولُه جل وعلا: ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جملةٌ حاليةٌ يعني: أنهم سَمِعُوا كلامَ اللَّهِ فحرَّفُوه بعدَ أن أَدْرَكُوهُ بعقولِهم وَفَهِمُوهُ، والحالُ أنهم يعلمونَ أنهم حَرَّفُوهُ وافتروا على اللَّهِ، فَمَنْ (٣) [كان] بهذه المثابةِ لا يطمعُ أحدٌ في إِيمانِه.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ (جل وعلا) ذكرَ طائفةً أُخْرَى من اليهودِ هم منافقونَ،
_________
(١) في هذه المسألة راجع: مجموع الفتاوى (٩/ ٣٠٣)، أقسام القرآن لابن القيم (٤٠٤ - ٤٠٥)، أضواء البيان (٥/ ٧١٥)، وللشيخ (رحمه الله) رسالة لا تزال مخطوطة، وهي تقع في إحدى عشرة صفحة، وهي متضمنة أجوبة لسؤالات ثلاثة بعث بها إليه الشيخ محمد الأمين ابن الشيخ محمد الخضر، والأول من تلك السؤالات: مقر العقل من الإنسان.
(٢) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل. وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام.
(٣) في الأصل كلمة ممسوحة وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام.
لهذا في سورةِ المؤمنِ حيث قالَ: ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا﴾، ثم قال: ﴿فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ﴾ [غافر: آية ١٢]، فمن لم يكن بهذه المثابةِ مِنَ الْعُلُوِّ والكِبَرِ فهو ضعيفٌ مخلوقٌ محتاجٌ محكومٌ عليه مأمورٌ مَنْهِيٌّ، ليس له الحكمُ، قد بَيَّنَّا ذلك مرارًا، وَعَرَّفْنَا أنه يجبُ على سائرِ الناسِ أن يعرفوا أن الحكمَ لله وحدَه: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ﴾ [الأنعام: آية ٥٧]، ﴿وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: آية ٢٦]، وفي قراءةِ ابنِ عامرٍ (١):
﴿ولا تُشْركْ في حكمه أحدًا﴾ بصيغةِ النهيِ، فالحكمُ له (جل وعلا) وحدَه، فهو الذي يُحَلِّلُ، وهو الذي يُحَرِّمُ، وهو الذي يُشرِّع، فالحلالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ ما حرمه الله، والدينُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، فليس لأحدٍ تشريعٌ مع اللَّهِ، وقد قَدَّمْنَا مرارًا (٢) أن الآياتِ القرآنيةَ بكثرةٍ دَلَّتْ دلالةً واضحةً على أن كُلَّ مَنْ يُحَكِّمُ غيرَ حكمِ اللَّهِ ويتحاكم إلى غيرِ شَرْعِ اللَّهِ معتقدًا أن ذلك بمثابةِ حكمِ اللَّهِ أو أنه خيرٌ من حكمِ الله، كالذين يقولونَ: إن القرآنَ لا يَصْلُحُ لهذا الزمنِ، ولا ينظمُ علاقاتِ الدنيا بحسبِ التطورِ الحادثِ!! مَنْ يقولُ هذا وَيَدَّعِيهِ فهو كافرٌ كُفْرًا مُخْرِجًا عن الملةِ بإجماعِ المسلمين وشهادةِ القرآنِ، وَرَبُّهُ الذي جَعَلَهُ ربه هو الذي اتبعَ تشريعَه؛ فإن التشريعَ وَوَضْعَ النظامِ مِنْ حَقِّ الربوبيةِ، وَكُلُّ مَنِ اتبعَ نظامَ أحدٍ فقد جَعَلَهُ رَبًّا، والآياتُ القرآنيةُ الدالةُ على هذا الموضوعِ لا تكادُ أن تُحْصَرَ في المصحفِ، وقد جاءَ مُوَضَّحًا
_________
(١) تقدمت عند تفسير الآية (١٠٦) من سورة الأنعام..
(٢) سيأتي عند تفسير الآية (١٥٨) من سورة الأعراف.
الحلال كفارة يمين. ومالك وأصحابه قالوا: إن لم يكن الذي حَرَّمَه حلالاً غير الزوجة والأمة لا تلزمه يمين ولا يلزمه شيء.
وحجة من قال: إنه تلزمه يمين: أن الله لمَّا قال لنبينا ﷺ وهو قدوتنا صلوات الله وسلامه عليه: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ﴾ [التحريم: آية ١] وأصح الروايات أنه العسل، وإن جاء في روايات أخرى أنه جاريته (١). قال الله له بعد تحريم هذا الحلال: ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم: آية ٢] فعُلم أن في تحريم الحلال كفارة يمين؛ لأن تحلة اليمين هي كفارته، وذلك يدل على أنَّ فيه كفارة يمين، خلافاً لمالك وأصحابه (٢). أما إذا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ بأن قال: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَام، أو علَّق تحريمها على شيءٍ ووقع. فللعلماء فيه اختلافات واضطربات كثيرة تزيد على ثلاثة عشر مذهباً معروفة في كلام العلماء (٣)، أجراها عندي على القياس هو قول مَنْ قَال: إنه تلزمه كفَّارَة ظِهَار، هذا القول هو أقْرَبُهَا للقياس وظاهر القرآن العظيم؛ لأن الله نص في محكم كتابه في سورة المجادلة في امرأة أوس بن الصامت التي قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي - (أنت عليَّ كظهر أمِّي) معناه بالحرف الواحد: أنْتِ حَرَامٌ- وقد جاء القرآن بأن في هذا اللفظ كفارة ظهار حيث قال: ﴿والذين يظَّهَّرونَ من نسائهم﴾
_________
(١) انظر: ابن جرير (٢٨/ ١٥٥ - ١٥٩)، القرطبي (١٨/ ١٧٧ - ١٧٩ - ١٨٥)، ابن كثير (٤/ ٣٨٦)، فتح الباري (٩/ ٢٨٩، ٣٧٦)، أضواء البيان (٦/ ٥٢٩).
(٢) انظر: القرطبي (١٨/ ١٧٩ - ١٨٠).
(٣) انظر: ابن أبي شيبة (٥/ ٧٢)، مصنف عبد الرزاق (٦/ ٣٩٩)، الاستذكار (١٧/ ٣٦ - ٤٨)، القرطبي (١٨/ ١٨٠ - ١٨٦)، أضواء البيان (٦/ ٥٢٣، ٥٣١ - ٥٣٩).
استقر هذا الأساس الأعظم في القلوب وطهرت من أقذار التشبيه، وغلب عليها تنزيه خالق السماوات والأرض عن مشابهة خلقه سهل عليها.
الأساس الثاني: وهو أن تؤمن بصفات الله الثابتة في كتابه وسنة رسوله الصحيحة ﷺ إيمانًا مبنيًّا على أساس ذلك التنزيه. ونحن نكرر لكم مرارًا أن هذا التعليم ما قلناه من تلقاء أنفسنا، لا والله وكلا، ولكنا نقوله في ضوء المحكم المُنَزَّل، كلام رب العالمين؛ لأنه أوضح هذا إيضاحًا شافيًا لا يترك في الحق لبسًا، وذلك أنه لما قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ أتبعه بقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ فجميع الحيوانات تبصر -ولله المثل الأعلى- فكأن الله يقول لك في هذه الآية: يا عبدي لا تتنطع وكن عاقلاً، ولا تذهب بصفتي إلى صفة خلقي فتكون مشبهًا، وتضطر إلى التأويلات والبلايا، بل لاحظ في إثبات الصفات أني لا مثيل لي ولا نظير، وأَثْبِتْ لِي صِفَاتِي عَلَى ذلك الشَّرْط المُعَيَّن؛ ولذا جاء بقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ بعد: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: آية ١١] أي: أثبت لي سمعي وبصري، ولا تذهب بهما إلى مشابهة أسماع الخلق وأبصارهم، بل أثبتهما على أساس ما ذكرتُ قبلهما، وهو: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فتثبت له سمعه وبصره على أساس التنزيه والتقديس والتكريم عن مشابهة صفات المخلوقين، فتكون أولاً مُنزّهًا، وثانيًا مُثْبِتًا على أساس التنزيه، وإن جئت يوم القيامة لا يأتيك لوم ولا توبيخ من أنك نزهت الله، والله لا يقول لك الله: لِمَ كنت تنزهني في دار الدنيا عن مشابهة خلقي؟ لا، أبدًا. هذا طريق سلامة محقق. ولا يقول لك: لِمَ كنت تصدقني في صفاتي التي مدحت بها نفسي وأثنى عليَّ بها
والجنوح في لغة العرب: الميل، تقول العرب: جنح فلان إلى كذا، وجنح له. أي: مال إليه، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول غيلان ذي الرمة (١):

إِذَا مَاتَ فَوْقَ الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ رُوحَهُ بِذِكْرَاكِ والعِيسُ المَراسيلُ جُنَّحُ
أي مائلات الأعناق في السير.
معناها: إن مال الكفار يا نبي الله إلى السِّلم وودّوها وطلبوها فاجنح لها؛ أي: وافقهم في ذلك، وملْ إلى السلم وصالحهم وسالمهم كما طلبوا ذلك منك.
و (السلم) مؤنَّثة في اللغة الفصحى، كالحَرب فهي مؤنثة أيضاً؟ ومنه قول العبّاس بن مرداس (٢):
السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضيتَ بِهِ والحَرْبُ تَكْفِيكَ مِنْ أَنفَاسِهَا جُرَعُ
والمعنى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ﴾: أي الكفار ﴿إِلَى السَّلْمِ﴾ إلى الصلح، أي: مالوا إلى المصالحة، وأحبوا أن تكون معهم في صلح ﴿فَاجْنَحْ﴾ يا نبي الله إليها، أي: إلى الصلح، فَمِل إلى الصلح وسالمهم.
وكان بعض العلماء يزعم أن هذه الآية من سورة الأنفال بينها وبين آية القتال تعارُضٌ أو إشكال (٣)، والحق أنه لا تعارض بينهما؛ لأن آية الأنفال هذه قيدت أمر النبي ﷺ بجنوحه إلى السلم بأن يكون الكفار هم الذين جنحوا إليه أولاً وطلبوه ومالوا إليه. أما آية
_________
(١) البيت في القرطبي (٨/ ٣٩)، الدر المصون (٥/ ٦٣٠).
(٢) البيت في الدر المصون (٢/ ٣٥٩)، (٥/ ٦٣١).
(٣) انظر: ابن جرير (١٤/ ٤١)، القرطبي (٨/ ٣٩).


الصفحة التالية
Icon