في عصرِه، وَكُلَّ شَرَفٍ خارجيَّةً (١) فِي أوَّله، فقد كان جَرِيرٌ، والفرزدقُ، والأخطلُ... وأمثالهم يُعَدُّون مُحْدَثِينَ... ، ثم صار هؤلاء قدماءَ عندنا بِبُعْدِ العهدِ منهم، وكذلك يكونُ مَنْ بعدهم لِمَنْ بَعْدَنَا، فكلُّ مَنْ أتى بحَسَنٍ مِنْ قولٍ أو فِعْلٍ ذكرناه له وَأَثْنَيْنَا به عليه، ولم يضعه عندنا تأخرُ قائلِه أو فاعلِه، ولا حداثةُ سِنِّهِ؛ كما أن الرديءَ إذا وَرَدَ علينا للمتقدمِ أو الشريفِ لم يَرْفَعْهُ عندنا شرفُ صاحبِه ولا تَقَدُّمُهُ» اهـ (٢).
وقال في مقدمةِ (عُيُونِ الأَخْبَارِ): «وكذلك مَذْهَبُنَا فيما نختاره من كلامِ المتأخرين وأشعارِ الْمُحْدَثِينَ، إذا كان متخيَّرَ اللفظِ، لطيفَ المعنى، لم يُزْرِ به عندنا تَأَخُّرُ قائِله، كما أنه إذا كان بخلافِ ذلك لم يَرْفَعْهُ تقدُّمُه، فكلُّ قديمٍ حديثٌ في عصرِه، وكلُّ شرفٍ فَأَوَّلُهُ خارجيةٌ، وَمِنْ شأنِ عوامِّ الناسِ رفعُ المعدومِ، ووضعُ الموجودِ، ورفضُ المبذولِ، وَحُبُّ الممنوعِ، وتعظيمُ المتقدمِ وغفرانُ زَلَّتِهِ، وبخسُ المتأخرِ والتَّجَنِّي عليه، والعاقلُ منهم ينظرُ بعينِ العدلِ لا بعينِ الرِّضَا، ويزنُ الأمورَ بالقسطاسِ المستقيمِ» اهـ (٣).
وقال ابنُ مالكٍ (رحمه الله) في مقدمةِ التسهيلِ: «وإذا كانتِ العلومُ مِنَحًا إلهيةً، ومواهبَ اختصاصيةً، فغيرُ مُسْتَبْعَدٍ أن يُدَّخَرَ لبعضِ المتأخرين ما عَسُرَ على كثير من المتقدمين» اهـ (٤).
_________
(١) الخارجيَّة: خيل لا عِرقَ لها في الجودة، فتُخرَّج سوابق، والخارجي: الذي يخرج ويشرف بنفسه من غير أن يكون له قديم، وتقول: «خرجت خوارج فلان» إذا ظهرت نجابته. انظر: اللسان (مادة: خرج) (١/ ٨٠٨)، القاموس (مادة: خرج) ص ٢٣٧.
(٢) الشعر والشعراء ٢٣ - ٢٤.
(٣) عيون الأخبار (١/م - ن).
(٤) المساعد على تسهيل الفوائد (١/ ٣).
٦، ٧]، بهذه الدلائلِ العظيمةِ؛ لأَنَّ البعثَ والإيجادَ بعدَ عدمٍ لاَ يمكنُ أن يكونَ أعظمَ من الإيجادِ الأولِ من الترابِ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُرَابٍ﴾ [الحج: آية ٥]، فَعَيْنُ المقدمةِ التي تُنْكِرُونَ: هي المقدمةُ التي أنتم موجودونَ بها، مُقِرُّونَ بها، وكقولِه: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الآيتان ٧٨، ٧٩]، وكقولِه جل وعلا: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ تُمْنَى﴾ (١)
وفي القراءةِ الأُخْرَى: ﴿مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (٣٩) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (٤٠)﴾ [القيامة: الآيات ٣٧ - ٤٠] بَلَى وَاللَّهِ هو قادرٌ على ذلك. وهذا كثيرٌ في القرآنِ؟ ولأَجْلِ هذا قال الله جل وعلاَ: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)﴾ [الآيات ١ - ٤]، ثم بَيَّنَ أن مرادَه بالقَسَمِ على أنه خلقَ الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ ليقيمَ بذلك البرهانَ القاطعَ على البعثِ بعد الموتِ. وَلِذَا أَتْبَعَهُ بقولِه: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧)﴾ [التين: آية ٧]، أَيُّ شيءٍ يَحْمِلُكَ على التكذيبِ بالبعثِ والجزاءِ، وقد علمتَ أني أَوْجَدْتُكَ أولاً، وليس الإيجادُ الأخيرُ بأصعبَ من الإيجادِ الأولِ؟ ولأجلِ هذا بَيَّنَ اللَّهُ تعالى أنه لا يُنْكِرُ الإيجادَ الثانيَ - الذي هو البعثُ بعدَ الموتِ - إلا مَنْ نَسِيَ الإيجادَ الأولَ حيث قال: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ [يس: آية ٧٨]؛ إذ لو تَذَكَّر خَلْقَهُ الأولَ لَمَا أَمْكَنَهُ أن ينكرَ خلقَه الثانيَ. وكما قال تعالى: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ
_________
(١) وهي قراءة أكثر السبعة: انظر: المبسوط لابن مهران ٤٥٣..

عُوجِي عَلَيْنَا رَبَّةَ الهَوْدَجِ إِنَّكِ إِلاَّ تَفْعَلِي تُحْرَجِي
يرويه كثير ممن رواه: (إنك إلاَّ تفعلي تَحْرجي) أي: تقعي في الحرج الذي هو الإثم والضيق بالذنوب، والأظهر أن أصله (تُحْرِجِي) أي: توقعي صاحبك في حرج وضيق، حيث هجرتِهِ، هذا أصل الحرج في لغة العرب. وعليه فالآية كقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُك أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ﴾ [هود: آية ١٢] وكقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦)﴾ [الكهف: آية ٦] وروي هنا عن جماعة من كبار المفسرين أن الحرج في هذه الآية: الشك (١) أي: فلا يكن في صدرك شك منه أنه مُنَزَّلٌ من الله (جل وعلا). وعلى هذا فالآية كقوله: ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [البقرة: آية ١٤٧] أي: من الشاكين، وقوله: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ﴾ [يونس: آية ٩٤]. وتفسير الحرج في آية الأعراف بالشك في هذا الموضع قال به جماعة من أجلاء المفسرين. وعلماء العربية يقولون: إنه -مع أنه رُوي عن بعض أجلاء أهل التفسير أنه- سائغ في اللغة العربية؛ لأن الشاك قلق صدره ضَيِّق لا يميل إلى طرف الإثبات ولا إلى طرف النفي، وِمما يؤيد هذا: أن الريب في جميع القرآن معناه: الشك. كقوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: آية ٢] أي: لا شك فيه. مع أن أصل الريب في لغة العرب: مصدر رابه، يريبه، ريباً إذا أزعجه وأقلقه. وفي حديث: أن النبي ﷺ وهو محرم رأى ظبياً حاقفاً (٢)
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ١٠٣ - ١٠٧)، (٢٩٥ - ٢٩٦)، الأضواء (٢/ ٢٨٥ - ٢٨٦).
(٢) أي: نائماً قد انحنى في نومه.
منزهة كل التَّنْزِيه، مُقَدَّسة كل التقديس عن مشابهة استواء المخلوقين بجميع أنواعه، فكانت أرض قلبه طيبة طاهرة، وعلى أساس هذا التنزيه العظيم وتنزيل صفات الله بما يليق بالله سهُل عليه أن يؤمن بها إيمانًا مبنيًّا على أساس ذلك التنزيه على غِرار: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: آية ١١] لأن الاستواء ليس أوغل في صفات المخلوقين من السمع والبصر، فيكون هذا السلفي أولاً: مُنَزِّهًا صفة الله عن مشابهة صفات المخلوقين. وثانيًا: مؤمنًا بها على أساس ذلك التنزيه في ضوء: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ عالمًا بأنه عاجز عن إدراك الكيفية والإحاطة بالكلّ، فهو مُنَزِّهٌ أولاً، مؤمِنٌ مُصَدِّقٌ ثَانِيًا على أساس التَّنْزِيهِ، واقف عند حَدِّهِ وعِلْمِهِ، فلا يأتيه خطر، ولا يحول حوله غلط.
أما من غلط من النُظَّار -مثلاً- فإن بَلِيَّةَ الغَلَطِ جَاءَتْهُ أولاً من تفسير صفات الله بما لا يليق بالله، فصار مبتدئًا بنوع من التشبيه، فجاءته القلاقل والبلابل من التشبيه؛ لأن أقذر قذر عرفه الإنسان: هو تشبيه خالق السماوات والأرض بخلقه -سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا- فيقول مثلاً: ﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: آية ٥] الاستواء: معناه الانتصاب المعروف كانتصاب المخلوقين، وهذا مستحيل في حق الله! فجاءته البلية من أنه حمل استواء الله على مشابهة استواء الخلق، وهذا رأس الغلط ومَنْشَأُ البَلِيَّةِ، وليس له فيه حق، كان حقه أن ينزه استواء الله، ويعلم أنه صفة الخالِق، والخَلْق صَنْعَة، فصفة الصانع لا تشبه صفة صنعته، وأنها صفة كمال وجلال منزهة عن جميع أنواع التشبيه. فلما حصل في ذهنه التشبيه أولاً وقع في بلايا لا يقصدها، وشر عظيم لا يريد الوقوع فيه، كما قلنا:
مشهور عن قتادة وطائفة من العلماء، وهو قول وإن كانت تساعده اللغة فالشَّرع والحقيقة الشرعية لا تساعده؛ لأن العَرَبَ تطلِقُ في لُغَتِهَا الفيء على جميع ما يُغنم، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التَّغْلِبي أخي كليب (١):
فَلاَ وَأَبِي جليلَةَ مَا أَفَأْنَا مِنَ النعم المؤَبَّلِ مِنْ بَعِيرِ
وَلَكِنَّا نَهَكْنَا الْقَوْمَ ضَرْباً عَلَى الأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنّحُورِ
يعني: لم نشتغل بالغنائم، وإنما اشتغلنا بقتل الرجال.
وربما أُطلق الفيء في القرآن مراداً به كل غنيمة، كقول قتادة، وذلك في قوله: ﴿وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ [الأحزاب: الآية ٥٠] لأن المسبيات حكمها في هذا سواء، سواء كانت فيئاً أو غنيمة، إلا أن الاصطلاح المعروف هو التَّفْرِقَة بين ما أوجف عَلَيْهِ بالخَيْلِ والرِّكَابِ، وبَيْنَ مَا أُخِذَ عَفْواً من غير انتزاع بالقوة، كما قال هنا: ﴿أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ﴾ فبيّن أنهم غَنِمُوهُ وانْتَزَعُوهُ مِنْهُمْ قَهْراً، وقال في الآخر الذي هو الفيء: ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ﴾ [الحشر: الآية ٦] فكيف تستحقونه ولم تنتزعوه بالقوة، ولم تُوجِفُوا عليه بالخيل ولا الإبل؟!
والإيجاف: الإسراع كما هو معروف.
_________
(١) البيتان من قصيدة يرثي فيها أخاه كليباً، ونص البيتين كما في ديوانه ص٤١، وفي «شعراء النصرانية قبل الإسلام» ص١٧٠ هكذا:
فَلاَ وَأَبِي أُمَيْمَةَ مَا أبُوها مِنَ النعم المؤَثَّلِ والجَزُورِ
وَلَكِنَّا طَعَنَّا الْقَوْمَ طَعْنًا عَلَى الأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنُّحُورِ
والبيتان ذكرهما الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (٢/ ٣٥٣) كما هنا.


الصفحة التالية
Icon