وقال الزبيدي (رحمه الله) في مُقَدِّمَتِهِ لشرحِ القاموسِ: «وكأني بالعالِم المصنفِ قد اطَّلَعَ عليه فَارْتَضَاهُ، وأَجَالَ فيه نَظْرةَ ذِي عَلَقٍ فَاجْتَبَاهُ، ولم يَلْتَفِتْ إلى حُدوثِ عهدِه وقربِ ميلادِه؛ لأنه إنما يُستجَاد الشيء ويُستَرذل لجودته ورداءتِه في ذاته لا لِقِدَمِه وحُدُوثِهِ، وبالجاهلِ المُشِطِّ قد سَمِعَ به فَسَارَعَ إلى تمزيقِ فروتِه وتوجيهِ المَعَابِ إليه... والذي غَرَّهُ أنه عَمَلٌ مُحْدَثٌ ولا عملٌ قديمٌ، وَحَسْبُكَ أن الأشياءَ تُنْتَقَدُ أو تُبَهرجُ؛ لأنها تَليدةٌ أو طَارِفَةٌ» اهـ (١).
وقد أحسنَ القائلُ (٢):

قُلْ لِمَنْ لاَ يَرَى الْمُعَاصِرَ شَيْئًا وَيَرَى لِلأَوَائِلِ التَّقْدِيمَا
إِنَّ ذَاكَ الْقَدِيمَ كَانَ حَدِيثًا وَسَيُمْسِي هَذَا الْحَدِيثُ قَدِيمَا
والشيخُ الأمينُ (رحمه الله) عَالِمٌ متضلعٌ في فنونٍ عِدَّةٍ مِنْ أَبْرَزِهَا التفسيرُ. وسيأتي قولُه في سياقِ ترجمتِه: «لاَ توجدُ آيةٌ في القرآنِ إلاَّ دَرَسْتُهَا عَلَى حِدَةٍ» اهـ.
وللشيخِ (رحمه الله) كتابٌ في تفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ يُعَدُّ مِنْ أَحْسَنِ التفاسيرِ وَأَجْوَدِهَا.
وإذا كان عِلْمُ التفسيرِ مَعْدُودًا في جملةِ العلومِ الضروريةِ، وكان الشيخُ الأمينُ بهذه المنزلةِ من الرسوخِ فيه، فَحُقَّ على طلبةِ العلمِ أن يُعْنَوْا بما تَرَكَهُ الشيخُ (رحمه الله) في هذا البابِ.
وإن من هذه التركةِ النفيسةِ: عشراتٌ من الأشرطةِ الصوتيةِ التي تَحْوِي كثيرًا من دروسِ الشيخِ (رحمه الله) في التفسيرِ.
_________
(١) تاج العروس (١/ ٥).
(٢) البيتان لابن شرف القيرواني، كما في مسائل الانتقاد ص٥.
لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلاَ يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (٦٧) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: الآيات ٦٦ - ٦٨]، وهذا كثيرٌ. وهذا البرهانُ القطعيُّ على البعثِ أشارَ له بقولِه هنا: ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ [الأنعام: آية ٩٨].
البرهانُ الثاني: خلقُه السماواتِ، وَتَزْيِينُهَا بالنجومِ، وخلقُه الأرضَ، وأشار له هنا بقولِه: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا﴾ [الأنعام: آية ٩٧]، والنجومُ زُيِّنَتْ بها السماءُ. وَمَنْ خَلَقَ هذا العالمَ العلويَّ والسفليَّ فهو قادرٌ على بعثِ الإنسانِ الصغيرِ المسكينِ؛ لأَنَّ مَنْ خلقَ الأكبرَ الأعظمَ فهو قادرٌ على خلقِ الأصغرِ من بابِ أَوْلَى؛ ولأَجْلِ هذا كَثُرَ في القرآنِ العظيمِ الاستدلالُ على البعثِ بإيجادِ السماواتِ والأرضِ المشارِ لها بإيجادِ النجومِ والاهتداءِ بها في العالَم العلويِّ، كقولِه تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر: آية ٥٧]، أي: وَمَنْ قَدَرَ على خلقِ الأكبرِ فهو قَادِرٌ على خلقِ الناسِ الذين هم أَصْغَرُ. وكقولِه تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى﴾ [الأحقاف: آية ٣٣]، وكقولِه: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ [الإسراء: آية ٩٩]، وكقولِه جل وعلا: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢)﴾ [النازعات: الآيات ٢٧ - ٣٢]، والجوابُ: السماءُ أشدُّ خَلْقًا مِنَّا، أي: فَمَنْ قَدَرَ على خلقِ الأَشَدِّ فهو قادرٌ على خلقِ الأضعفِ الأصغرِ. والآياتُ في مثلِ هذا كثيرةٌ.
البرهانُ الثالثُ: إحياءُ الأرضِ بعدَ موتِها، المشارُ إليه بقولِه
فقال: «لاَ يَرِيبُهُ أَحَدٌ» (١) يعني: لا تزعجوه، ولا تُقْلِقُوه، ولا تنفروه؛ لأنَّكم مُحْرِمُون لا يجوز لكم إزعاج الصيد. ومن هذا المعنى قول توبة بن الحُمَيِّر (٢):
وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تَبرقَعَت فقد رابني منها الغَدَاة سفُورُها
رابني: يعني أزعجني وأقلقني؛ لأن أهلها كانوا شَكَوه إلى الوالي فأهدر دَمَهُ إنْ زارها، وكان إذا جاءها لبست برقعها عنه، فأنذروها وأنها إن أعلمته فعلوا بها وفعلوا، فلما زارها سفرت وكشفت عن وجهها، فشرد توبة بن الحُميِّر هارباً وقال:
وكنتُ إذا ما جئت ليلى تَبرقَعَت فقد رابني منها الغَدَاة سفُورُها
فعلم أنها ما كشفت عن وجهها إلا لأن النار تحت الرماد. والشاهد أن قوله: (فقد رابني منها) أزعجني وأقلقني، وأن الريب أصله الإزعاج والإقلاق، وهو في القرآن يطلق على الشك؛ لأن نفس الشاك غير مطمئِنَّة، بل هي قلقة مضطربة لا تدري أتميل إلى طرف النفي أو إلى طرف الثبوت. وهذا معنى قوله: ﴿فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَج مِّنْهُ﴾.
وقوله: ﴿لِتُنذِرَ بِهِ﴾ التحقيق أنها لام كي المعروفة بلام التعليل، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، وهي تتعلق بقوله: ﴿أُنزِلَ﴾ (٣) يعني: أُنزل إليك هذا الكتاب لأي حكمة أُنزل إليك؟
_________
(١) أخرجه مالك في الموطأ ص٢٤١، حديث رقم (٧٨٥)، والنسائي في الحج، باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد. حديث رقم (٢٨١٨)، (٥/ ١٨٢ - ١٨٣) وانظر: صحيح النسائي (٢/ ٥٩٤).
(٢) البيت في اللسان (مادة: برقع) (١/ ٢٠٠).
(٣) انظر: الدر المصون (٥/ ٢٤٢).
رَامَ نَفْعًا فَضَرّ من غير قَصْدِ ومن البرِ ما يكونُ عُقُوقَا (١)
فيقول أولاً: الاستواء معناه: انتصاب المخلوق هذا الانتصاب المعروف، وهذا لا يليق بالله. فكان مبتدأ قضيته بتشبيه صفة الله التي مَدَحَ بها نفسه بصفة الخلق، وهذا منشأ الغلط وسبب البلية، فلما وقع في ذهنه شيء من أنجاس التشبيه، وأقذار تشبيه الخالق بخلقه سبَّب له بليّة عظمى، ومشكلة كبرى، قال: إذًا لما كان الاستواء غير لائق بالله لا بد أن ننفيه ونؤوله بغيره من صفة لائقة، فقال: إذًا معنى الاستواء: الاستيلاء. والعرب تطلق (استوى) -كما يزعم- وتريد (استولى) ويستدل ببيت الرجز المشهور (٢):
قَدِ اسْتَوى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مهْراقِ
يقول: «قد استوى بشر» معناه: قد استولى، وإذًا: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الرعد: آية ٢] ثم استولى على العرش. وهذا - أيها الإخوان - غَلَطٌ فاحِشٌ، وإن قال به من قال به، واعتقده من اعتَقَدَهُ، إلا أن المُسْلِمَ يجب عليه الإنصاف والنظر في آيات الله، ولا سيما في صفات خالق السماوات والأرض، فلْيَحْذَرْ مِنَ التعصب. وأنا أوَضِّحُ لكم هذا غاية الإيضاح: فنحن مثلاً لو قلنا لمن قال: استوى معناه: استولى. و «قد استوى بشر على العراق». قلنا له: أيها الإنسان أما تخاف الله؟! أما تستحيي من الله؟ في أي مسوِّغ من كتاب أو سنة، أو أي نقل أو عقل سوَّغت لنفسك أن تُشَبِّه استيلاء الله على عرشه -الذي زعمت- باستيلاء بشر بن مروان على العراق؟! هل يُعْقَل في
_________
(١) مضى قريبًا.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٥٨) من سورة الأنعام.
وهذه الآيَةُ الكَرِيمَةُ دَلَّت على أن أربعة أخماس الغنيمة [أنه] (١) للمجاهدين الغانمين الذين غنموها؛ لأن قوله: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ... ﴾ الآية، يدل على أن المعنى: وأما الأخْمَاس الأربعة فَهِيَ لِلْغَانِمِينَ المجاهدين، ويدل على ذلك إِسْنَادُهُ غَنِيمَتَه إليهم في قوله: ﴿أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ﴾ وهذا هو التحقيق وعليه جماهير العلماء أن أربع أخماس الغنيمة للمسلمين المجاهدين الذين غنموها، تُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ بالسَّوَاءِ، وأن خمُس الغنيمة هو يُصرف في هذه المصارف المذكورة وسَنُوَضِّحُها -إن شاء الله- واحداً واحداً. هذا هو المذهب الحق وعليه جماهير العلماء، وخالف في هذا قوم من العلماء -منهم طائفة من علماء المالكية وغيرهم (٢) - قالوا: إن الغَنَائِمَ كلها والفيء شيء واحد، وأن التصرف فيه كله لرسول الله ﷺ يعطي الغانمين ما شاء ويمنعهم ما شاء. وهذا القول وإن قال به جماعة من المالكية وغيرهم من العلماء فهو خلاف التحقيق.
والذين قالوا هذا القول استدلوا بأدلة كلها مردودة مجاب عنها، قالوا: مِنْ أَدِلَّتِهِ أن الغَنَائِمَ هِيَ الأَنْفَالُ، وقد تَقَدَّمَ في أول السورة قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [الأنفال: الآية ١] فَصَرَّحَ بِأَنَّهَا لله وللرسول ﷺ ولم يجعل للغانمين فيها حقّاً مستقلاًّ إذا لَمْ يَشَأ الرَّسول ﷺ أن يعطيهم. قالوا: ويَتَأَيَّدُ هَذَا بأمور، منها: أن النبي ﷺ لم يقسم مكة حين افْتَتَحَها عنوة، وأنه (صلوات الله وسلامه عليه) في غزوة حنين لما أخذ غنائم هوازن أعطى صفوان بن أمية ما ملأ بين جبلين من الغنم، وأعطى عيينة بن حصن مائة من
_________
(١) في الأصل: «أنهم».
(٢) انظر: المغني (٩/ ٣٠٤) القرطبي (٨/ ٢)، الأضواء (٢/ ٣٥٤).


الصفحة التالية
Icon