وقد كنتُ أَعْجَبُ من إغفالِ كِتَابَتِهَا وإخراجِها للناسِ مقروءةً كي يَعُمَّ الانتفاعُ بها؛ ذلك أن تلكَ الأشرطةَ يَصْعُبُ الانتفاعُ بها بسببِ عدمِ وضوحِها في الغالبِ، سواءً من جهةِ ضَعْفِ التسجيلِ آنذَاك، أو من جهةِ سرعةِ الشيخِ (رحمه الله) في الإلقاءِ. فصحَّ العزمُ على إخراجِ ذلك خدمةً لكتابِ اللَّهِ (تعالى)، ووفاءً للشيخِ الْمُفَسِّرِ (رحمه الله تعالى).
ولا يَخْفَى أن مثلَ هذا الأمرِ يتطلبُ جُهْدًا كبيرًا من نَاحِيَتَيْنِ:
الناحيةُ الأُولَى: صعوبةُ كتابةِ محتوياتِ الأشرطةِ لِمَا سَبَقَ.
الناحيةُ الثانيةُ: صعوبةُ توثيقِ المادةِ العلميةِ التي يُورِدُهَا الشيخُ (رحمه الله)؛ ذلك أن دَرْسَهُ حافلٌ بالمعلوماتِ المختلفةِ من شَتَّى الفنونِ، من تفسيرٍ، ولغةٍ، وإعرابٍ، وسيرةٍ، وتاريخٍ، وأصولٍ، وقراءاتٍ، وغيرِ ذلك.
ومما يزيدُ التوثيقَ صعوبةً أن الشيخَ (رحمه الله) لا يُعْنَى بالعَزْوِ إلى كتبِ التفسيرِ أو أعلامِه، الأمرُ الذي قَدْ لا يتميزُ معه بعضُ ما أخذَه من غيرِه مما فَتَحَ اللَّهُ به عليه.
لَمْحَةٌ عن دروسِ الشيخِ (رحمه الله) فِي التَّفْسِيرِ (١):
دَرَّسَ الشيخُ (رحمه الله تعالى) التفسيرَ في أماكنَ متعددةٍ، منها:
_________
(١) انظر: ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، للسديس ص٦٩، ترجمة الشيخ (رحمه الله) الملحقة في آخر الأضواء ص٣٩ - ٤٨.
(٢) تجد ذلك صريحا عند تفسير الآية رقم (٩٩) من سورة الأعراف.
هنا: ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: آية ٩٩]، لأَنَّ مَنْ يُحْيِي الأرضَ، ويُخرجُ النباتَ بعد الانعدامِ قَادِرٌ - بِلاَ شَكٍّ - على أن يُحْيِيَ الأنفسَ الإنسانيةَ بعدَ العدمِ؛ لأَنَّ الكلَّ من بابٍ واحدٍ، كُلُّهُ جرمٌ خَلَقَهُ اللَّهُ أولاً وانقرضَ وَانْمَحَى. وقد عَايَنَّا أنه يُعيدُ النباتاتِ، فتجدُ الأرضَ بِحُلِيِّهَا وَحُلَلِهَا من أنواعِ النباتِ، ثم يَيْبَسُ، وَتَذْرُوهُ الريحُ، ويصيرُ هَشِيمًا، ثم إن الله يُوجِدُ في الأرضِ شَيْئًا كثيرًا بعد فنائِه. فَمَنْ أَحْيَا الأرضَ وأنبتَ النباتَ بعدَ أَنِ انْعَدَمَ: فلا شَكَّ أنه قادرٌ على خلقِ الإنسانِ، وإنباتِ الآدميين بعدَ أن أَكَلَتْهُمُ الأرضُ.
والآياتُ الدالةُ على هذا البرهانِ كثيرةٌ، كقولِه تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)﴾ [فصلت: آية ٣٩]، وكقولِه جل وعلا: ﴿حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)﴾ [الأعراف: آية ٥٧]، أي: فَإِخْرَاجُنَا للنباتِ بعدَ الانعدامِ كذلك إِخْرَاجُنَا لِلْمَوْتَى بعدَ أن أَكَلَتْهُمُ الأرضُ. وكقولِه جل وعلا: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)﴾ [الروم: آية ٥٠] وكقولِه تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)﴾ [الروم: الآيات ١٧ - ١٩]، أي: مِنْ قبورِكم أحياءً بعد الموتِ، وكقولِه تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ
﴿لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلمُؤْمِنِين (٢)﴾.
وقوله: ﴿لِتُنذِرَ﴾ أصله مضارع أنذره ينذره إنذاراً، والإنذار في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو خصوص الإعلام المقترن بتهديد خاصة وتخويف، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً؛ لأن الإنذار: الإعلام المقترن بتخويف وتهديد خاصة (١). وأصل ماضي هذا الفعل: (أنذر) بالهمزة، وكان لو جرى على الأصل لقيل: «لِتُؤَنْذِرَ به» لكن (٢) القاعدة المقررة في فن التصريف أن كل فعل بُني ماضيه على (أَفْعَل) أن همزة (أَفْعَل) تحذف وجوباً بقياس مطرد في مضارعه، واسم فاعله، واسم مفعوله. ومفعول الإنذار هنا محذوف، وقد دل عليه التفصيل؛ أي: لتنذر به الكفار المتمرِّدين العاتين، وتذكر به المؤمنين (٣). فالقرآن إنذار لقوم تمرّدوا وعتوا، وتذكرة وبشرى لقوم آخرين كقوله: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً (٩٧)﴾ [مريم: آية ٩٧] والمعنى: أنزلنا إليك هذا الكتاب لتخوف به الخلق الذين كذّبوه ولم يتبعوه.
وفي هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات زواجر عظيمة ينبغي لنا أن نعتبرها؛ لأن خالقنا (جل وعلا) بَيَّن لنا في أول هذه السورة الكريمة -سورة الأعراف من هذا المحكم المنزل الذي هو آخر كتاب نزل من السماء على آخر نبي بعثه الله في أرضه (صلوات الله وسلامه عليه) - قال: إنه أنزل عليه هذا الكتاب ليخوف به الخلق من عقوبات خالق السماوات والأرض وسخطه، فإنه الجبار الأعظم الذي
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٣٠) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٧٦ - ٧٧) من سورة البقرة.
(٣) انظر: أضواء البيان (٢/ ٢٨٦).
الدنيا تشبيه أخس وأنتن وأوضع من تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء بشر بن مروان على العراق؟! هذا أخسّ تشبيه عرفه التاريخ وأدناه [١٥/أ] / وأسفهه وأسحقه، فمن أين سوَّغت لنفسك تشبيه العرش بالعراق، وتشبيه الله ببشر بن مروان؟! ومَنْ بشر بن مروان حتى تشبِّه استيلاء الله باستيلائه على العراق؟! وما هو العراق حتى تشبهه بالعَرْش؟! فأنت أعظم المشبهين نصيبًا في التشبيه، وأكثرهم تشبيهًا، وهذا الباب الذي فتحت، فتحت فيه عن بحور من أنواع التشبيه لا سواحل لها؛ لأنك كنت مشبهًا استيلاء الله على عرشه -الذي زعمت- بكل مخلوق قهر مخلوقًا فغلبه فاستولى عليه، صرت تشبه استيلاء الله باستيلاء كل مخلوق قهر مخلوقًا فغلبه فاستولى عليه!! وهذا تحته من بحور التشبيه بحور لا سواحل لها، وهذا لا ينبغي أيها الإخوان. ولا شك أن هذا الذي حمل الاستواء على مَحْمَلٍ غير لائق، ثم اضطره ذلك إلى أن نَفَى الاستواء، وجاء بدله بالاستيلاء، هو مضطر أن يُنَزِّهَ أحد اثنين: إما أن ينزه الاستواء الذي نَصَّ اللهُ عَلَيْهِ أوَّلاً، أو ينزه الاستيلاء الذي فَسَّرَهُ به.
فنقول: الاستيلاء الذي ذكرت استيلاء منزه عن استيلاء المخلوقين، وكيف ينزه عن استيلاء المخلوقين وأنت تسميه استيلاء بشر بن مروان على العراق؟ أليس بشر بن مروان من المخلوقين؟ واستيلاؤه من استيلاء المخلوقين؟ ولكن نحن نقول: هب أنك تقول: إنك لا بد أن تنزه أحدهما فهو الاستواء الذي نص الله عليه في كتابه، أو الاستيلاء الذي جئت به من قِبَل نفسك؟ ونحن نقول: أيهما أحق بالتنزيه؟ الاستواء الذي نص الله عليه في كتابه، وأنزل به ملكًا من فوق سبع سماوات قرآنًا يُتلى بكل حرف منه عشر حسنات، وهو قرآن يتلى، أهذا أحق بأن ينزه أم
الإبل، والأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عطايا كثيرة، ولم يعط الأنصار منها شيئاً، حتى غضب الأنصار وقالوا: يعطي الغنائم عنا لقريش وسيوفنا تقطر من دمائهم!! فعلم النبي ﷺ بما قالوا فَأَرْسَلَ مَنْ جَمَعَهُمْ وقال: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ مُتَعَادِينَ فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِي؟!» قالوا: بلى. قال: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ اللهُ مِنْهَا بِي؟» قالوا: بلى يا رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلما عدَّد عليهم بعض النِّعَمِ التي أنْعَمَ الله عليهم بسبب رَسُول ﷺ اعْتَرَفُوا بذلك كله وسكتوا، قال لهم: «أَلاَ تُجِيبونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟!» قالوا: وكيف نجيب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: «قُولُوا: ألمْ يُكَذِّبْكَ النَّاسُ فَصَدَّقْنَاكَ؟ أَلمْ يُعادِكَ الناسُ فآوَيْنَاكَ ونَصَرْنَاك؟!» ثم قال: «يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ أَلاَ تَرْضَوْنَ بأَنْ يَرْجِعَ النّاسُ إِلَى بُيُوتِهِمْ بِالشَّاةِ والبَعِيرِ، وتَرْجِعُونَ إِلَى بُيُوتِكُمْ بِرَسُولِ صَلَّى الله عليه وسَلَّم؟» قالوا: رضينا برسول الله ﷺ قسمة.
وطابت نفُوسهم (١). قال قائل هذا القول من المالكية وغيرهم من العلماء كقتادة: لو كانت الغنيمة مُسْتَحَقَّة لِلْغَانِمين ولم يكن للإمام أن يفعل فيها كيف يشاء، كيف يُفَضِّل النبي ﷺ المؤلَّفَةِ قلوبهم كالأَقْرَعِ بن حابس، وعُيَيْنَةَ بن حِصْن، وصَفْوان بن أمية ويمنع الأنصار، والأنصار أحَقّ؟! وكيف يفضل الأقرع بن حابس التميمي،
_________
(١) أصل هذا الخبر في البخاري (من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه) كتاب المغازي، باب: غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، حديث رقم: (٤٣٣٠) (٨/ ٤٧)، وأخْرَجَ بَعْضَهُ بِرَقَم (٧٢٤٥). ومُسْلِم في الزَّكَاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام... ، حديث رقم: (١٠٦١) (٢/ ٧٣٨)، ومِنْ حديث أنَس عند مسلم في نفس الكتاب والباب، حديث رقم: (١٠٥٩) (٢/ ٧٣٣ - ٧٣٧). وأخرجه أحمد (٣/ ٧٦) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.


الصفحة التالية
Icon