١ - المسجدُ النبويُّ، وقد أَتَمَّ فيه تفسيرَ القرآنِ كاملاً، وَتُوُفِّيَ ولم يُتِمَّ الثانيةَ، وهي هذه (١).
وقد كان هذا الدرسُ يُعْقَدُ في كُلِّ يومٍ على مدارِ العَامِ. كما ذَكَرَ ذلك بعضُ تلامذتِه الذين لاَزَمُوا دَرْسَهُ في التفسيرِ منذ عامِ (١٣٦٩ هـ).
ثم صَارَ الدرسُ مُقْتَصِرًا على الإجازةِ الصيفيةِ منذ سنةِ (١٣٧١ هـ) حينَ انتقلَ الشيخُ (رحمه الله) إلى الرياضِ في ذلك العامِ. فكان الشيخُ (رحمه الله) يعودُ إلى المدينةِ المنورةِ - في الإجازةِ - ويواصلُ هذا الدرسَ في مسجدِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد استمرَّ الأمرُ على ذلك إلى أن انتقلَ الشيخُ (رحمه الله) إلى المدينةِ النبويةِ مرةً ثانيةً عامَ (١٣٨١ هـ) لِيُدَرِّسَ في الجامعةِ الإسلاميةِ.
وفي سنةِ (١٣٨٥ هـ) صارَ وقتُ الدرسِ مُقْتَصِرًا على شهرِ رمضانَ فقط؛ فكان يتوقفُ سائرَ العامِ، فإذا جاءَ رمضانُ أَكْمَلَ التفسيرَ من حيثُ وَقَفَ في العامِ قَبْلَهُ وهكذا.
وقد استمرَّ الأمرُ على هذا الحالِ إلى وفاةِ الشيخِ (رحمه الله) عامَ (١٣٩٣ هـ).
وكان دَرْسُهُ في رمضانَ يَبْدَأُ بَعْدَ صلاةِ العصرِ مباشرةً ويستمرُّ إلى قُرْبِ أذانِ المغربِ، وربما كان وقتُ الدرسِ قصيرًا لِعَارِضٍ، كما وقعَ للشيخِ (رحمه الله) عندَ تفسيرِه لسورةِ الأعرافِ، فبعدَ أن فرغَ من الكلامِ على الآيةِ رَقْمِ (٩٧) منها تَوَقَّفَ مُعْتَذِرًا بقولِه: «وقد نقتصرُ
_________
(١)
بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١)} [ق: الآيات ٩ - ١١] أي: كخروجِ النباتِ الذي تُشَاهِدُونَ: ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ أي: خروجُكم من قبورِكم أحياءً بعدَ الموتِ.
والآياتُ الدالةُ على هذا كثيرةٌ جِدًّا كما قال جل وعلا: ﴿سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى﴾ [الأعراف: آية ٥٧]، كذلك الإخراجُ نُخْرِجُ الْمَوْتَى؛ وَلِذَا قال (جل وعلا) هنا: ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [الأنعام: آية ٩٩]، الله (جل وعلا) يُنْزِلُ الماءَ من السماءِ؛ لأَنَّ إنزالَ الماءِ من السماءِ فيه غرائبُ وعجائبُ، يجبُ على الإنسانِ تَأَمُّلُهَا؛ لأَنَّ اللَّهَ قال: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (٢٤)﴾ [عبس: آية ٢٤]، وقوله: ﴿فَلْيَنظُرِ﴾ صيغةُ أمرٍ تَدُلُّ على الوجوبِ، فإذا لم يَنْظُرِ الإنسانُ إلى طعامِه كان مُخَالِفًا للأمرِ السماويِّ من خالقِ السماواتِ والأرضِ. وما يُدْرِيهِ أن اللَّهَ يقولُ له كما قال لإبليسَ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: آية ١٢]، ما مَنَعَكَ ألا تنظرَ إلى طعامِك إِذْ أَمَرْتُكَ؟
وهذا النظرُ المأمورُ به إلى الطعامِ كأن اللَّهَ يقولُ لكَ: انْظُرْ يا عَبْدِي لتعلمَ عَظَمَتِي وَقُدْرَتِي، وتعرفَ قَدْرَكَ، وَضَعْفَكَ وَعَجْزَكَ، انْظُرْ إلى الخبزِ الذي تَأْكُلُهُ، وتُقِيمُ به أَوَدَكَ، مَنْ هو الذي خَلَقَ الماءَ الذي نَبَتَ بِسَبِبِهِ؟ أيقدرُ أحدٌ غير اللَّهِ أن يخلقَ هذا الجرمَ اللطيفَ الذي يُحْيِي به اللَّهُ الأجسامَ، وينبتُ به النباتاتِ؟ لاَ وَاللَّهِ لاَ يَقْدِرُ على خَلْقِهِ إِلاَّ اللَّهُ.
هَبْ أَنَّ الماءَ خُلِقَ، فَمَنْ يَقْدِرُ على إنزالِه، وَسَقْيِ الأرضِ به مع سعةِ رقعتِها؟ مَنْ يَقْدِرُ على إنزالِه على هذا الأسلوبِ الغريبِ
إذا سخط عاقب العقوبة المهلكة المستأصلة. فبهذا يجب علينا أن نتأمل في معاني القرآن، ونعرف أوامر ربنا التي أمرنا بها فيه، ونواهيه التي نهانا عنها، ونخاف من هذا الإنذار والتهديد الذي أُنزل هذا القرآن على الرسول ليفعله بمن لم يعمل بهذا القرآن العظيم. فالإنسان يجب عليه أن يتدبّر هذا القرآن العظيم، وينظر أوامره، وينظر نواهيه، ويعمل بما فيه من الحلال والحرام، فالحلال ما أحله الله في هذا القرآن وبينته السنة الكريمة، والدين ما شرعه الله؛ لأنه لا حكم إلا لله، فكل الأحكام هي لله، والتشريع لله، والتحليل والتحريم لله، وقد أنزل علينا هذا الكتاب ليخوفنا إذا لم نعمل بما فيه من العبر والآيات، فَنُحل حلاله، ونُحرِّم حَرَامَه، ونعتقد عقائده، ونعمل بمحْكَمه، ونؤمن بمتشابهه، ونعتبر بما فيه من الأمثال، وتلين قلوبنا لما فيه من المواعظ وضروب الأمثال. فهذا الإنذار لا ينبغي للمسلم أن يهمله ويعرض عنه صفحاً.
وقوله: ﴿وَذِكْرَى لِلمُؤْمِنِينَ (٢)﴾ الذكرى هنا مصدر مؤنَّث تأنيثاً لفظيّاً بألف التأنيث المقصورة، وأصله بمعنى: التذكير، أي: لأجل الإنذار لمن عَتَى وتمرد، وللتذكير للمؤمنين العاملين به. والذكرى: هي الاتِّعَاظ؛ لأن المؤمنين يذكرهم فتنفعهم الذكرى ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)﴾ [الذاريات: آية ٥٥].
وقوله: ﴿وَذِكْرَى﴾ في محل إعرابه ثلاثة أوجه معروفة (١): أظهرها: أنه في محل خفض معطوف على ﴿لِيُندرَ بِهِ﴾ أي: للإنذار وللتذكير، ويجوز أن يكون منصوباً عطفاً على محل ﴿لِيُندرَ بِهِ﴾ لأنه
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٢٤٤).
الاستيلاء الذي جاء به قوم غير مستند لآية من كتاب الله، ولا حديث من سنة رسول الله، ولا لغة صحيحة معروفة من لغة العرب؟! الجواب: الاستواء أحق بالتنزيه؛ لأنه كلام رب العالمين، وصفات رب العالمين أحق بالتنزيه كما بيناه في الأساس الأول في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: آية ١١] فعلينا -أيها الإخوان- أن لا نمشي مع مَنْ تَكَلَّمَ فِي آيَاتِ الصفات بما لا يليق بالله، وحَمَلَها على محامل غير طيبة وغير لائقة ثم نفاها على ذلك الأساس، كل هذا لا ينبغي لنا، والذي ينبغي لنا أن نجزم ونعتقد أن الوصف الذي مَدَحَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ أنه بالغ من غايات الكَمَال والجلال ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فهو في غاية التنزيه وغاية القداسة والكمال والجلال والتباعد عن شبه صفات الخلق، وعلى هذا الأساس الكريم نؤمن بتلك الصفة على أساس قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ هذا هو الذي ينبغي لنا، ومَنْ مَاتَ مِنَّا عَلَيْهِ مات على طريق واضحة لا لبس فيها ولا إشكال. مات غير مشبِّه ربه بأحد، ولا بقلبه قذر من أنجاس التشبيه، ولا في قلبه تعطيل، ولا جحود بشيء من الصفات، ولا بليّة من البلايا.
فنحن في هذه السور الماضية في تفسير آي هذا القرآن -المرة الأولى والثانية التي نحن فيها- بالغنا في بيان هذا جدًّا، ومرارًا نذكر مذاهب المتكلمين في الصفات، وما يسمون به كل صفة منها، وتقاسيمهم لها، ونبين أنها جميعها جاءت في كتاب الله موصوفًا بها الخلق من جهة، وموصوفًا بها الخالق من جهة، وأن صفة الخالق حق، وهي لائقة بالخالق، وصفة المخلوق حق، وهي لائقة
وعيينة بن حصن الفزارِي على العباس بن مرداس السلمي وهو حسن الإسلام جدّاً؟! وقد غار منهم العباس بن مرْدَاس حتى قال شِعْرَهُ المشهور، قاله أمام النبي ﷺ لما أعطى عُيينة مئة، والأقرع مئة، وأعطى العباس بن مرداس قليلاً، قال مخاطباً لرسول الله ﷺ (١):
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ العُبَيْـ... ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ...
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلاَ حَابِسٌ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ...
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا... وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لاَ يُرْفَعِ...
وَقَدْ كُنْتُ فِي الحَرْبِ ذَا تُدْرأ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئاً وَلَمْ أُمْنَعِ...
وَإِلاَّ أَبَاعِيرَ أُعْطِيتُهَا... عَدِيدَ قَوَائِمِهِ الأَرْبَعِ...
وَكَانَتْ نِهَاباً تَلاَفَيْتُهَا... بِكَرِّي عَلَى المُهْرِ في الأَجْرَعِ...

وَإِيقَاظِيَ القَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ
إلى آخر شعره. قالوا: لو كانت الغنيمة للغانمين لما فضل الأقرع وعيينة على العباس بن مرداس وهو أحسن منهما إسلاماً، ولما
_________
(١) جاءت هذه الأبيات في روايات متعددة على تفاوت بينها في بعض الألفاظ مع زيادة في بعض الأبيات، ففي صحيح مسلم (١٠٦٠) وغيره الاقتصار على الأبيات الثلاثة الأولى، وبعضهم يزيد رابعاً، وأكثر ما وقفت عليه سبعة أبيات وهي عند ابن هشام في السيرة، وفي سُبل الهدى والرشاد (٥/ ٣٩٩) هكذا:
كانَتْ نِهاباً تلاَفَيْتُهَا... بِكَرِّي عَلى المُهْرِ في الأَجْرَعِ...
وَإيْقَاظِيَ الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا... إِذا أهجَعَ النّاسُ لَم أَهجَعِ...
فَأصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ العُبَيْـ... دِ بيْنَ عُيَيْنَة وَالأَقْرَعِ...
وَقَدْ كُنْتُ فِي الحَرْبِ ذَا تُدْرَأ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئاً وَلَمْ أُمْنَعِ...
وإلاَّ أَفَائِلَ أعْطيتهَا... عَدِيدَ قَوَائِمها الأَرْبَعِ...
وَما كَانَ حِصْنٌ وَلاَ حَابِسٌ... يَفُوقَانِ مِرْداسَ فِي المَجْمَعِ...


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وَمَا كنْتُ دونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَضَعِ اليوْمَ لاَ يُرْفَعِ