﴿وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ يعني: رَجَعُوا إلى أصحابِهم وكان الموضعُ خَالِيًا من المؤمنين بأن كان الموجودُ فيه هم فيما بينهم.
﴿قَالُوا﴾ يعني: أصحابُهم الذين لم يُنَافِقُوا. قالوا مُنْكِرِينَ على الذين نَافَقُوا وَمُوَبِّخِينَ لهم: ﴿أَتُحَدِّثُونَهُم﴾ أي: أتحدِّثون المؤمنين - النبيَّ - ﷺ - وأصحابَه - ﴿بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ يعني: بما فَتَحَ عليكم عِلْمَهُ في التوراةِ من أن هذا هو النبيُّ المنتظرُ، وأن هذه صفاتُه، أنها متطبِّقةٌ، وأنه هو لاَ
شَكَّ فيه، وأنكم مؤمنون به لِمَا علمتم من أنه هو النبيُّ الموعودُ به المنتظرُ.
﴿لِيُحَآجُّوكُم﴾ بهذا الإقرارِ ﴿عِندَ رَبِّكُمْ﴾ أَنَّكُمْ أقررتم بأنكم تعرفونَ أنه الحقُّ، وأن صفاتِه متطبقةٌ على صفاتِ النبيِّ المنتظرِ، فإن هذا يُحَاجُّونَكُمْ به يومَ القيامةِ، أنكم عرفتُم الحقَّ وتركتموه.
وهذا يدلُّ على أنهم في غايةِ الجهلِ؛ لأنهم لو كَتَمُوهُ أَلَيْسَ اللَّهُ عَالِمًا بما في ضمائرِهم؟ وما الفرقُ بين ما لو أَقَرُّوا بأنهم عرفوا الحقَّ وكتموه، أو كتموه ولم يقولوا؟ ولذا وَبَّخَهُمُ اللَّهُ بقولِه: ﴿أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: الآية ٧٧] أيقولونَ مثلَ هذا ولا يعلمونَ أن اللَّهَ يعلمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ؟ ﴿يُسِرُّونَ﴾ هو المضارعُ من الإسرارِ، و ﴿يُعْلِنُونَ﴾ المضارعُ من الإعلانِ، والفعلُ إذا كان مَاضِيهِ على وزنِ (أَفْعَل) تُحْذَفُ همزتُه في المضارعِ، واسمِ الفاعلِ، واسمِ المفعولِ، بقياسٍ مُطَّردٍ. فالأصلُ: (يُؤَسْرِرُون) و (يُؤَعْلِنُون) إلا أن حَذْفَ همزةِ (أَفْعَل) يَطَّرِدُ في المضارعِ وفي اسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ، كما عَقَدَهُ في
الميتةِ حَرَّمَهَا اللَّهُ على لسانِ نَبِيِّهِ، صَرَّحَ اللَّهُ بأنه مشركٌ حيث قال: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: آية ١٢١] وهذا شِرْكُ ربوبيةٍ حيث اتبعتُم تشريعَ الشيطانِ، والتشريعُ من خصوصِ الربوبيةِ، فقد جعلتُم الشيطانَ هو رَبُّكُمْ - والعياذُ بالله - وهؤلاء الذين يتبعونَ تشريعَ إبليسَ وقانونَ الشيطانِ ونظامَه الذي يشرعُ على ألسنةِ أوليائِه من الكفرةِ الفجرةِ، هم الذين يُوَبِّخُهُمُ اللَّهُ يومَ القيامةِ في السورةِ الكريمةِ سورةِ يس، ويبينُ مصيرَهم كما بَيَّنَهُ في قولِه: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ يعنِي: أَلَمْ أُوصِيكُمْ في دارِ الدنيا أن لا تعبدُوا الشيطانَ؟ وعبادةُ الشيطانِ الذي عَهِدَ إليهم فيها: ألاَّ يَتَّبِعُوا نظامَه وقانونَه في تحليلِ المعاصِي والكفرِ، والعياذُ بالله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُّبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ واتبعوا تَشْرِيعِي الذي أنزلتُه على ألسنةِ أنبيائي ﴿هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيْمٌ﴾.
ثُمَّ بَيَّنَ للذين اتبعوا طرقَ الشيطانِ ونظامَه وشرعَه فاتبعوا المعاصيَ والكفرَ في تحليلِ الشيطانِ وتزيينِه، قال اللَّهُ فيهم: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ ثم بَيَّنَ المصيرَ النهائيَّ لِمُتَّبِعِي نظامَ الشيطانِ وتشريعَ إبليسَ بقولِه: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُنَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: الآيات ٦٠ - ٦٥]، وَلِذَا قال نَبِيُّ اللَّهُ إبراهيمُ الخليلُ - عليه وعلى نَبِيِّنَا الصلاةُ والسلامُ -: ﴿يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾] مريم: آية ٤٤ [، يعني: لا تعبدِ الشيطانَ، لا تَتَّبِعْ النظامَ الذي يُزَيِّنُهُ لكَ ويزخرفُه من زخرفِ القولِ غُرُورًا، من عبادةِ الأوثانِ،
أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠)} [الأعراف: الآيات ١٤٨ - ١٥٠].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ (١٤٨)﴾.
﴿قَوْمُ مُوسَى﴾ هم بنو إسرائيل، أي: واتخذ بنو إسرائيل ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾ أصل هذا الحلي للقبط استعاره منهم الإسرائيليون لعُرس أو ليوم زينة عندهم كانوا يَتَزَيَّنُون فيه، وأُمر موسى أن يسري ببني إسرائيل قبل أن يردوا الحلي للقبط، فسافروا به، وأهلك الله فرعون وقومه، وبقي ذلك الحلي المستعار منهم عند الإسرائيليين، فاتخذ السامري العجل من ذلك الحلي. وهنا قال: ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾ قال بعض العلماء: لأن الله أَوْرَثَهُمْ أموالهم بعدهم كما في قوله: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩)﴾ [الشعراء: آية ٥٩] ولذا أضافه إليهم بعد هلاك فرعون وقومه. وقال بعض العلماء: الإضافة تقع بأدنى ملابسة، فلما كان تحت أيديهم عاريةً عندهم أضافه إليهم بهذه الملابسة، وقد بيَّن في «طه» أنه من زينة قوم آخرين كما ذكر عن الإسرائيليين أنهم قالوا: ﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ﴾ [طه: آية ٨٧] وهي حلي القبط. هذا وضابط ذلك أن السامري -قبّحه الله- موسى بن ظفر رأى جبريل لما جاء على فرس
واعلم أن جماعة من العلماء من الصحابة فمن بعدهم زعموا أن هذه الآية من سورة الأنفال منسوخة بآية السيف النازلة في براءة (١)؛ لأنها نازلة بعدها؛ لأن براءة نزلت في رجوع النبي ﷺ من غزوة تبوك، وذلك العام عام تسع بلا خلاف، لم يعش النبي ﷺ بعده إلا سنة واحدة، وسورة الأنفال هذه نزلت في وقعة بدر، وكانت في العام الثاني من الهجرة كما أوضحناه. قالوا: فهي منسوخة بآية السيف، كقوله: ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة: الآية ٥].
والتحقيق أن هذه الآية ليست منسوخة، وأن المصالحة والمهادنة لم تنسخ، وأن الإمام يخير وينظر في مصالح المسلمين، فإن رأى المصلحة في الصلح حتى يتقوّى المسلمون فيجتمع شملهم ويقدروا على القتال صالح، وإن رأى المصلحة في عدم الصلح لم يصالح، فالكل واسع وجائز إن شاء الله. وهذا معنى قوله: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)﴾ [الأنفال: الآية ٦١].
﴿وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ﴾ [الأنفال: الآية ٦٢] ﴿وَإِن يُرِيدُواْ﴾ أي: الكفار الجانحون للسلم الطالبون للصُّلْحِ ﴿أَن يَخْدَعُوكَ﴾ بذلك الصُّلْحِ ويَتَمَكَّنُوا في مُدَّةِ المُصَالَحَةِ مِنْ تَدْبير المكر والمكائد ليضروك بها؛ لأن بعض الكفار يصالح غدراً ومكيدة، لا محبة في المصالحة. وكانت قريظة بعد أن أعانوا كفار مكة بالسلاح وصالحوه المرة الأخرى ليس في نيتهم الدَّوَام على المصالحة، بل يتربصون به الدوائر،
_________
(١) راجع المصادر في الحاشية قبل السابقة.