وقولُ الراجزِ (١):
بَدَّلْتُ (٢) بِالْجُمَّةِ رَأْسًا أَزْعَرَا وَبِالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَّرْدَرَا (٣)
.................... (٤) كَمَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا
أي: كما اسْتَبْدَلَ.
و (الثمنُ) تُطْلِقُهُ العربُ على كُلِّ عِوَضٍ مبذولٍ في شيءٍ تُسَمِّيهِ العربُ ثَمَنًا، ومنه بيتُ علقمةَ المذكورُ آنِفًا في قولِه:
وَالْحَمْدُ لاَ يُشْتَرَى إِلاَّ لَهُ ثَمَنٌ............................
وقولُ عمرَ بنِ أَبِي ربيعةَ (٥):
إِنْ كُنْتَ حَاوَلْتَ دُنْيَا أَوْ أَقَمْتَ لَهَا مَاذَا أَخَذْتَ بِتَرْكِ الْحَمْدِ مِنْ ثَمَنِ
ومعنى الآيةِ الكريمةِ: أنهم يُغَيِّرُونَ كلامَ اللَّهِ، ويكتبونَ على اللَّهِ ما لم يَقُلْ، ويقولونَ: إنه من عِنْدِ اللَّهِ، وما هو من عند اللَّهِ، ويقولون على اللَّهِ الكذبَ وهم يعلمونَ؛ لأجلِ أن يَعْتَاضُوا بذلك ثَمَنًا قليلاً من عرضِ الدنيا، وهو ما يَنَالُونَهُ من المالِ على رئاستِهم الدينيةِ.
_________
(١) انظر: مشاهد الإنصاف (ملحق في آخر الكشاف) (٤/ ٤٠).
(٢) في شواهد الإنصاف: (أخذت).
(٣) في شواهد الإنصاف: (دردرا).
(٤) لم يذكر الشيخ (رحمه الله) صدر هذا البيت وهو في شواهد الإنصاف، ونصه:
(وبالطويل العمر عمرًا حيدرا).
وهو في الدر المصون (٣/ ١٧٧)، (٧/ ٦٧)، (٩/ ٢٢٩).
(٥) ديوان عمر بن أبي ربيعة ص٢١٧، ورواية الديوان:
إن كنت حاولت دنيا أو نعمت بها | فماذا أخذت بترك الحج من ثمن |
وقولُه: ﴿الْمُمْتَرِينَ (٩٤)﴾ هو جمعُ الْمُمْتَرِي. والممتريُ: اسمُ فاعلِ امْتَرَى، يَمْتَرِي، فهو مُمْتَري: إذا كان شَاكًّا (١). وأصلُه: (ممتريُ) من المِرْيَة، والمِرْيَةُ: الشكُّ.
[ومعلومٌ أن النبيَّ - ﷺ - لم يَكُنْ شَاكًّا فيما أَوْحَى اللَّهُ إليه، وإنما هذا كقولِه: ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (٢٤)﴾ [الإنسان: آية ٢٤] وكقولِه: ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (١٤)﴾ [الأنعام: آية ١٤] وكقولِه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب: آية ١] ولاَ يَخْفَى أن رسولَ اللَّهِ صلواتُ اللَّهِ] (٢) وسلامُه عليه أنه مُتَّقٍ لله وأنه لا يطيعُ منهم آثِمًا ولا كَفُورًا، وأنه لا يشركُ. وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا (٣)
أنه جَرَتَ العادةُ في القرآنِ أن اللَّهَ (جل وعلا) يأمرُ نَبِيَّهُ - ﷺ - وَيَنْهَاهُ ليُشرِّعَ ذلك الأمرَ والنهيَ لأُمَّتِهِ على لسانِه - ﷺ -؛ لأنه هو القدوةُ لَهُمْ، المُشَرِّعُ لهم بقولِه وفعلِه وتقريرِه، وَمِنْ أَكْبَرِ الأدلةِ على ذلك: هو ما قَدَّمْنَا في آيةِ بنِي إسرائيلَ، وهي قولُه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء: آية ٢٣] هذا خطابٌ للنبيِّ - ﷺ - على التحقيقِ؛ لأن كُلَّ الخطاباتِ في الآياتِ له، يقولُ له اللَّهُ: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾ يعني: إِنْ يَبْلُغْ عندَك والداك الكبرَ أو أحدُ وَالِدَيْكَ ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ﴾ ومعلومٌ أن وقتَ نُزُولِهَا أن وَالِدَيْهِ قد مَاتَا مِنْ زَمَانٍ؛ لأن أباه مَاتَ وهو حَمْلٌ، وأمُّه مَاتَتْ وهو (صلواتُ الله عليه
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: مرى) ص ٧٦٦.
(٢) في هذا الموضع انقطاع في التسجل وما بين المعقوفين [ | ] زيادة يتم بها الكلام. |
وهنالك تفسيرٌ غير ظاهر قال به جماعات من علماء التفسير: أن معنى كونها خالصة للمؤمنين أنَّ الله ينعِّمهم بها في الدنيا، وينعِّمهم في الآخرة أيضاً، ولم يحسبها عليهم، ولم ينقص أجورهم بتلك اللذات والطيبات من الرزق التي أكلوها في الدنيا (١)، وهذا مستبعد، والقول الأول هو الذي عليه الجمهور وهو معنى الآية إن شاء الله.
وهذا معنى قوله: ﴿هِيَ﴾ أي: الطيبات من الرزق والزينة ﴿لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي ويشاركهم فيها غيرهم من الكفار، لكنها يوم القيامة خالصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها أحد، ويوضح هذا أن نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما قال الله له: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ فلما قال الله له: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ طلب الإمامة لذريته ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ فبين له الله أن الظالمين من ذريته غير المستقيمين المطيعين لا يعهد الله لهم بالإمامة، لأنهم لا يستحقونها حيث قال مجيباً له: ﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: آية ١٢٤] فعرف إبراهيم أَنَّ ربَّه كأنه لامه في الجملة حيث طلب الإمامة لناس منهم من لا يصلح لها، كما قال الله لإبراهيم وإسحاق: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات: آية ١١٣] ثم بعد ذلك لما أراد إبراهيم طلب الرزق خصه بالمؤمنين خوف أن يلام كالملامة الأولى وقال: ﴿اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ ثم قيَّد وقال: ﴿مَنْءَامَنَ مِنْهُم بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ فربه قال له: هذه في الدنيا لا تحتاج إلى القيد ﴿قَالَ وَمَن كَفَرَ﴾ فيأكل من الدنيا أيضاً مع المؤمن ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: آية ١٢٦] وهذا معنى قوله:
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤٠١).
المعنى قوله: ﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: آية ٢٤] وقوله: ﴿أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ﴾ [السجدة: آية ١٠] يعنون: إذا ضلت عظامهم في الأرض؛ أي: أكلها التراب واختلطت به وغابت واضمحلت فيه. ومن أجل هذا كانت العَرَبُ تسمِّي الدَّفْنَ (إضْلالاً) لأنَّ مَنْ دُفِنَ يَضِلّ في التّراب، وتأكل الأرض عِظَامَهُ ويختلط بها؛ ولذا كانوا يسمون الدفن إضلالاً، ومنه قول نابغة ذبيان (١):
فَجَاءَ مُضلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ... وغُودِرَ بالجولانِ حزمٌ ونَائِلُ
مضلوه: يعني دافنيه. وقول المخبَّل السَّعْدِي يرثي قيس بن عاصم المنقري التميمي (٢):
أَضَلَّتْ بَنُو قَيْسِ بْن سَعْدٍ عَمِيدهَا... وفَارِسَهَا في الدَّهْرِ قيسَ بْنَ عَاصِمِ
ومن إطلاق العرب الضلال على الغيبة والاضمحلال قول النَّصْرَانيّ الشَّاعر الأخطل (٣):
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبدِ... قَذَفَ الأَتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلاَلاً
أي: إذا غاب غيبوبة واضْمَحَلّ اضْمِحْلالاً، ومنه بهذا المعْنَى قول الآخر (٤):
أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الدِّيَارُ... عَنِ الحَيِّ المُضَلّلِ أَيْنَ سَارُوا
أي: المغيب.
_________
(١) مضت عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام، وصدر بيت النابغة كما في الديوان: «فآب... ».
(٢) مضت عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام، وصدر بيت النابغة كما في الديوان: «فآب... ».
(٣) مضت عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام، وصدر بيت النابغة كما في الديوان: «فآب... ».
(٤) مضت عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام، وصدر بيت النابغة كما في الديوان: «فآب... ».
هذا هو التحقيق - إن شاء الله - أن المعنى: يكفيك الله ويكفي جميع أتباعك.
وفي هذين ترغيب عظيم في الإسلام؛ لأَنَّ مَنِ اتَّبَع النَّبِيَّ ﷺ كَفَاهُ الله كما كفى نبيّه صلى الله عليه وسلم.
وهذا التفسير هو الذي عليه جُمْهُور عُلَماء المفَسِّرِين، وهو الذي دل عليه استقراء القرآن كما بيّنّا، إلا أنه يَرِدُ عليه سؤال عربي نحوي: وهو أن يقول طالب العلم: قررتم أن التحقيق أن (من) من قوله: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ معطوفة على الكاف في قوله: ﴿حَسْبُكَ﴾ (١) أي: حَسْبُكَ اللهُ وَحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ. والمقرَّر عند جماعة من علماء العربية أن الضمير المخْفُوض لا يجوز العطف عليه إلا بإعادة الخَافِض، وهنا لم يُعد الخافض.
وأُجيب عن هذا السؤال من أربعة أوْجُه (٢):
أحدها: أن هذه القضية غير مسلَّمة (٣)، وأن جماعة من علماء العربية أصحاب علم وتحقيق قالوا: لا مانع مِنَ العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض. وهو رأي ابن مالك - رحمه الله - لأنه لما ذكر المذهب الأول بقوله في خلاصته (٤):
وعَوْدُ خَافضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى | ضَميرِ خَفْضٍ لاَزِماً قد جُعِلاَ |
وَلَيْسَ عندي لازماً إذْ قَدْ أَتَى | فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ الصَّحِيحِ مُثْبَتَا |
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٩) من هذه السورة.
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٥١٥)، الدر المصون (٥/ ٦٣١)، الأضواء (٢/ ٤١٧).
(٣) أطال ابن مالك (رحمه الله) في إبطالها. انظر شرح الكافية (٣/ ١٢٤٦ - ١٢٥٥).
(٤) الخلاصة ص٤٨.