وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ قرأه عامةُ القراءِ ما عدا نافعًا والكسائيَّ: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ بصيغةِ (التفعيلِ). وقرأه نافعٌ والكسائيُّ من بين القُراءِ ﴿فإنهم لا يُكْذِبُونَك﴾ بصيغةِ (الإفعالِ) لا بصيغةِ (التفعيلِ) (١).
وَسَبَبُ نزولِ هذه الآيةِ كما ثبتَ عن عَلِيٍّ (رضي الله عنه) أن الكفارَ - كفارَ مكةَ - كَأَبِي جهلٍ ونظرائِه قالوا للنبيِّ - ﷺ -: نحنُ لاَ نُكَذِّبُكَ، ونعلمُ أنك صادقٌ أمينٌ، ولكن هذا الذي جئتَ به هو الذي نُكَذِّبُهُ، فأنزلَ اللَّهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (٢).
_________
(١) المصدر السابق ص (١٩٣).
(٢) أخرجه الترمذي في السنن، كتاب تفسير القرآن، باب (٧)، حديث رقم: (٣٠٦٤) (٥/ ٢٦١)، والحاكم (٢/ ٣١٥) عن علي رضي الله عنه. وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ. وعقبه الذهبي بقوله: «قلت: ما خرجا لناجية شيئا» اهـ. كما أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (٤/ ١٢٨٢)، والدارقطني في العلل (٤/ ١٤٣)، وأورده السيوطي في الدر (٣/ ٩) وعزاه للترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، والضياء.
وأخرجه الترمذي (٥/ ٢٦١)، وابن جرير (١١/ ٣٣٤)، والواحدي في أسباب النزول (٢١٦) وابن أبي حاتم في التفسير (٤/ ١٢٨٢)، والدارقطني في العلل (٤/ ١٤٣). عن ناجية بن كعب مرسلا. قال الترمذي: (وهذا أصح) اهـ.
وجميع طرق هذا الحديث - بالوصل والإرسال - تدور على أبي إسحاق السبيعي الذي يرويه عن ناجية بن كعب. وأبو إسحاق السبيعي (رحمه الله) قد رُمي بالاختلاط والتدليس كما في التهذيب (٨/ ٥٧ - ٥٩) وقد عنعنه عن ناجية. وقد ضعف الألباني هذا الحديث (موصولا ومرسلا) انظر: ضعيف سنن الترمذي ص (٣٧٤) وصححه أحمد شاكر والأرنؤوط. انظر: عمدة التفسير (٥/ ٢٤ - ٢٥)، جامع الأصول (٢/ ١٣٢).
بالإفرادِ (١). ومعنَى القراءتين واحدٌ؛ لأَنَّ (الكلمةَ) أُضِيفَتْ إلى معرفةٍ فتعمُّ، كقولِه: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: آية ٣٤] أي: نِعَمَ اللَّهِ ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: آية ٦٣] أي: أوامره ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أي: كلماتُ رَبِّكَ. وقد بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في آياتٍ من كتابِه أن كلماتِه (جل وعلا) لا حصرَ لها ولا نهايةَ، كما قال في قولِه جل وعلا: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: آية ٢٧]، وكقولِه: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩)﴾ [الكهف: آية ١٠٩] والمرادُ بالتمامِ هنا: الكمالُ التامُّ من جميعِ الجهاتِ، والمعنَى: أن كلماتِ الله - ومنها هذا القرآنُ العظيمُ - أنها بالغةٌ غايةَ الكمالِ والتمامِ.
وقولُه: ﴿صِدْقًا وَعَدْلاً﴾ قال بعضُهم (٢): هما تمييزٌ مُحوَّلٌ عن الفاعلِ. أي: تَمَّ صِدْقُهَا وَعَدْلُهَا.
وقال بعضُ العلماءِ (٣): هما مصدرانِ حالانِ. أي: تَمَّتْ في حالِ كونِها صادقةً عادلةً.
وأعربهما بعضُ العلماءِ بأن كِلَيْهِمَا ما نَابَ عن الْمُطْلَقِ؛ لأن التمامَ يتضمنُ معنَى الصدقِ والعدالةِ، أي: تَمَّتْ، أي: صَدَقَتْ وعَدَلَتْ. ﴿صِدْقًا وَعَدْلاً﴾ والمعنَى أنها كاملةٌ صِدْقًا فِي أخبارِها، وَعَدْلاً في أحكامِها. وقولُه: ﴿صِدْقًا﴾ أي: في جميعِ الأخبارِ ﴿وَعَدْلاً﴾ أي: في جميعِ الأحكامِ. فما في القرآنِ من أحكامٍ فهو في
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢١٠.
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ١٢٤).
(٣) انظر: الدر المصون (٥/ ١٢٤).
والفواحش الباطنة هي الزنا مع الخليلات والصديقات التي يُزنى بهن سرّاً في البيوت. وقال بعض العلماء: ما ظهر من الفواحش: كنكاح زوجات الآباء، كما تقدَّم في قوله: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً (٢٢)﴾ [النساء: آية ٢٢] وأن ما بطن منها هو الزنا. والتحقيق: أنّ الآية الكريمة تشمل جميع المعاصي والذنوب، لا تفعلوا شيئاً منها ظاهراً علناً بين الناس، ولا شيئاً باطناً في خفية لا يطلع عليه أحد، وهو يشمل جميع التفسيرات الواردة عن الصحابة وغيرهم.
والفواحش ظاهرها وباطنها تشمل جميع الذنوب؛ إلا أن الله عطف بعضها على بعض عطف خاصٍّ على عام. وقد تقرر في المعاني: أن عطف الخاص على العام، وعطف العام على الخاص، إن كان في كل منهما في الخاص أهمية لا تكون في غَيْرِهِ من أفراد العام أنه سائغ، وأنه من الإطناب المقبول لأجل الخصوصية التي في الخاص، فكأن تميزه بخصوصيته جعله كأنه قسم آخر غير أقسام العام فحسن عطفه عليه (١). وهنا عطف الخاص على العام لأن المعطوفات الآتية كلها داخلة في الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وقول من قال: إن ﴿مَا ظَهَرَ﴾ هو الزنا مع البغايا ذوات الرايات، و ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ الزنا مع الخليلات الصديقات التي يُزنى بهن سرّاً. أو أن ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ هو نكاح زوجات الآباء، وأن ﴿وَمَا بَطَنَ﴾ هو الزنا، إلى غير ذلك من الأقوال كله يشمله التفسير العام الذي هو الصواب، وأن الله نهى عن ارتكاب جميع
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٠) من سورة الأنعام.
هذا رأس مالك أيها الإنسان، وأنت مأمور بتحريكه والتجارة فيه مع خالق السَّمَاوات والأرض، فإن كنت رجلاً عاقلاً يُقَدِّرُ الأمُورَ ويَخَافُ العَوَاقِبَ
فحسْبُهُم الله أيضاً. وهذا معنى قوله: ﴿حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: الآية ٦٤].
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ [الأنفال: الآية ٦٥] التحريض: هو الحَضُّ على الشَّيْءِ والحَثّ عَلَيْهِ بشدّة. حرّضهم على القتال، أي: حَثَّهُمْ وحرّصَهم عليه بشدّة؛ لأنّ القتال فيه خير الدنيا والآخرة، ثم إنه كان في أول الأمر يجب على المسلمين لقلّتهم أن يصابر الرجل الواحد منهم عشرة من الكفار، كان الرجل الواحد من المسلمين يجب عليه أن يصبر أمام عشرة مقاتلين من الكفار، فلذا قال: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ [الأنفال: الآية ٦٥] فإذا قابلت العشرين بالمائتين كان كل رجل مقابل لعشرة كاملة ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ صابرون محتسبون لله في ميدان الحرب.
ثم قال: ﴿وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر: ﴿وإن تكن منكم مائة﴾ بالتاء الفوقية. وقرأه العراقيون، أعني: أبا عمرو البصري والكوفيين الثلاثة -عاصماً وحمزة والكسائي- قرؤوه كلهم: ﴿وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً﴾ بالياء التحتية كما قبله (١)؛ لأن المائة إذا قابلت ألفاً فكل واحد بعشرة.
وكأن قائلاً قال: لِمَ كان الواحد من المسلمين يغلب العشرة من الكفار، ويجب عليه أن يصبر لها، والله لم يوجب عليه ذلك إلا لعلمه بأنه قِرْنٌ لها وكُفْؤٌ لها عند الضرورة قبل أن يكثر المُسْلِمُون،
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٢٢.


الصفحة التالية
Icon