ففعلنا، واليومَ يقولون: مِنَّا نبيٌّ! فَمَنْ لنا بهذه؟ وَاللَّهِ لا نعترفُ بنبوتِه أبدًا (١)!!
ولا شكَّ أن هنالك قومًا من الجهلةِ يسمعونَ كلامَ الرؤساءِ فَيَظُنُّونَ أنه كاذبٌ، ويعتقدون كذبَه. إذا عرفتُم هذا فقولُه: ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾ راجعٌ إلى الذين عَلِمُوا صِدْقَهُ. وكثيرٌ من عقلائِهم عَالِمٌ في قرارةِ نفسِه أن النبيَّ - ﷺ - نَبِيٌّ، وأنه رسولٌ، وهم يَجْحَدُونَ ذلك ظُلْمًا. وعليه فالمعنَى: ﴿لاَ يُكَذِّبُونَكَ﴾ في الحقيقةِ، فيما بينهم وبينَ أنفسهم، ولكن الظالمين يَجْحَدُونَ آياتِ اللَّهِ التي أُنْزِلَتْ عليه، فلم يعترفوا بأنها من اللَّهِ، كما قال له أبو جهلٍ: أنتَ عندنا صادقٌ، ولا نُكَذِّبُكَ، ولكن نُكَذِّبُ هذا الذي جئتَ به (٢).
أما على قراءةِ: ﴿فإنهم لا يُكْذِبُونَك﴾ فـ (أَكْذَبَ) بصيغةِ (الإفعالِ) تفترقُ مع (كذَّب) بمعنيين (٣):
أحدُهما: أن الفرقَ بينَ (كذَّب) و (أَكْذَبَ): أنكَ إذا كَذَّبْتَ إِنْسَانًا، معناه قلتَ له: كَذَبْتَ، وَنَسَبْتَهُ إلى افتراءِ الكذبِ. وإذا قيلَ: أَكْذَبَ إنسانٌ إنسانًا، معناه: أن كلامَه يعتقدُ أنه كَذِبٌ، ولا يُنْسَبُ ذلك الإنسانُ إلى الكذبِ، بل يقولُ: لعله أَخْطَأَ، أو نَسِيَ، أو سَهَا وهو لا يقصدُ الكذبَ أو تَخَيَّلُ له غيرُ الْحَقِّ. فمعنى «أَكْذَبَ» على هذا: أنه لا يتعمدُ الكذبَ، وأنه
_________
(١) أخرجه ابن جرير (١١/ ٣٣٣)، والواحدي في أسباب النزول ص (٢١٦) عن السدي مرسلا. على أن ذلك كان في يوم بدر.
وروى ابن إسحاق نحوه عن الزهري مرسلا. على أن ذلك كان في مكة قبل الهجرة.
انظر: السيرة لابن هشام (١/ ٣٢٨ - ٣٢٩)، تفسير ابن كثير (٢/ ١٢٩).
(٢) مضى قريبا.
(٣) انظر: حجة القراءات ص (٢٤٧)، القرطبي (٦/ ٤١٦)، البحر المحيط (٤/ ١١١).
[الحجرات: آية ١١] ﴿لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ﴾ [الحجرات: آية ١١] ثم إنه أوجب حد القذف ثمانين جلدة؛ زجراً ومحافظة على أعراض الناس، وهو قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤)﴾ [النور: آية ٤] ثم جاء بالمحافظة على العقول فَحَرَّم شرب المسكر ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: آية ٩٠] وقال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» (١) «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» (٢) وأوجب حد شارب الخمر محافظة على العقول وصيانةً لها. وكذلك منع من انتهاك المال، واحترام الملكية الفردية حيث قال: ﴿لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: آية ٢٩] وفي الحديث «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ» (٣).
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) ورد في هذا المعنى عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة بألفاظ متقاربة، منها:
١ - حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه: أخرجه أحمد (٥/ ٧٢)، وأبو يعلى (٣/ ١٣٩)، والدارقطني (٣/ ٢٦)، والبيهقي في السنن (٦/ ١٠٠)، وفي الشعب (١٠/ ١١٩ - ١٢٠)، والبزار (كشف الأستار ٢/ ٢٠٤)، وذكره الحافظ في الإصابة (١/ ٣٦٢)، والهيثمي في المجمع (٤/ ١٧٢)، وقال: «رواه أبو يعلى، وأبو حُرَّة وثقه أبو داود وضعفه ابن معين» اهـ. وانظر: الإرواء (٥/ ٢٧٩)، صحيح الجامع (٧٥٣٩).
٢ - حديث أبي حميد الساعدي: أخرجه أحمد (٥/ ٤٢٥)، والبيهقي في السنن (٦/ ١٠٠)، وفي الشعب (١٠/ ١٢٠)، والبزار (كشف الأستار ٢/ ١٣٤)، وابن حبان (الإحسان ٧/ ٥٨٧)، والطحاوي في شرح المعاني (٤/ ٢٤١)، ومشكل الآثار (٤/ ٤١)، وذكره الهيثمي في المجمع (٤/ ١٧١)، وقال: «رواه أحمد والبزار ورجال الجميع رجال الصحيح» اهـ وانظر الإرواء (٥/ ٢٧٩).
٣ - عمرو بن يثربي: رواه أحمد (٣/ ٤٢٣)، (٥/ ١١٣)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (١/ ٣٣٢)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (٩٧٩)، (٢/ ٢٨٧)، والدارقطني (٣/ ٢٥، ٢٦)، والطحاوي في المشكل (٤/ ٤٢)، وفي شرح المعاني (٤/ ٢٤١)، والبيهقي في السنن (٦/ ٩٧)، وذكره الهيثمي في المجمع (٤/ ١٧١)، وقال: «رواه أحمد وابنه من زياداته أيضاً، والطبراني في الكبير والأوسط... ورجال أحمد ثقات» اهـ وانظر: الإرواء (٥/ ٢٨٠ - ٢٨١).
٤ - ابن عباس: أخرجه الدارقطني (٣/ ٢٥)، والبيهقي (٦/ ٩٧)، وانظر: الإرواء (٥/ ٢٨١).
٥ - ابن عمر: أخرجه البيهقي (٦/ ٩٧).
٦ - أنس: أخرجه الدارقطني (٣/ ٢٥، ٢٦)، وانظر الإرواء (٥/ ٢٨٢).
عظيمٌ من الله، كما أشار له في قوله: ﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ [طه: آية ٨٠] على أحد التفسيرين. فلما وعدكم الله هذا الوعد العظيم الذي فيه كل هذا من الخير عَجِلْتُمْ أمْرَ رَبِّكُم بِذَلِكَ الوعد، أي: عجلتم عنه، وسبقتموه، وعبدتم العجل، ولم تنتظروا الخير الذي وعدكم الله به، وجئتم قبله بكل شر وسوء وخبث. والدليل على أنّ هذا هو تفسير الآية الصحيح: أنّ الله قال في سورة طه: ﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي﴾ [طه: آية ٨٦] هذا هو الأظهر في معنى الآية الكريمة: ﴿بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ أعجلتم عن أمر ربكم بانتظار موسى، وانتهاء الوعد، وإتيانكم بكل خير تصلح به دنياكم وآخرتكم، عجلتم عن هذا كله، وعبدتم العجل، وكفرتم بالله والعياذ بالله.
﴿وَأَلْقَى الألْوَاحَ﴾ جاء في حديث رواه ابن أبي حاتم وغيره أن النبي ﷺ قال: «لَيْسَ الخَبَرُ كالمُعَايَنَةِ» (١)
واستدل لهذا بأن موسى
_________
(١) روى هذا الحديث جماعة من الصحابة منهم:
١ - ابن عباس عند أحمد (١/ ٢٧١)، والحاكم (٢/ ٣٢١، ٣٨٠)، وابن حبان (الإحسان ٨/ ٣٢)، والطبراني في الأوسط (١/ ١٢)، (٧/ ١٠٤)، وابن أبي حاتم (٥/ ١٥٧٠)، والخطيب في تاريخه (٦/ ٥٦)، (٨/ ١٢)، وابن عديّ (٤/ ١٥٨٠)، (٧/ ٢٥٩٦)، وذكره السيوطي في الدر (٢/ ١٢٧)، وعزاه لعبد بن حميد وأحمد البزار وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه. وهو في المشكاة (٥٧٣٨)، وصححه الألباني، وهو في الكنز (٤٤١١١)، (٤٤١٢٦).
٢ - أنس عند الطبراني في الأوسط (٧/ ٩٠) والخطيب في تاريخه (٣/ ٣٦٠)، وابن عدي (١/ ٢٠٣)، وقال: «هذا حديث باطل بهذا الإسناد» اهـ. وفي (٤/ ١٥٨٠)، وذكره الهيثمي في المجمع (١/ ١٥٣)، وقال: «رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات» اهـ. وهو في الكنز (٤٤١١٠)، (٤٤١٢٦).
٣ - ابن عمر عند ابن عدي (٧/ ٢٤٩٣)، وذكره الهيثمي في المجمع (١/ ١٥٣)، وقال: «رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح، وصَحَّحَهُ ابن حبان» اهـ.
٤ - أبو هريرة عند الخطيب في تاريخه (٨/ ٢٨)، هو في الكنز (٤٤١١٠)، (٤٤١٢٦)، وانظر في الكلام على هذا الحديث: كشف الخفاء (٢/ ٢١٨)، تذكرة الموضوعات (٢٠٤)، إتحاف السادة المتقين (٦/ ٣٦٣).
لهم في قوله: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً﴾ [الأنفال: الآية ٦٩] ويدخل فيه فداء الأُسارى.
ومعنى قوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾ [الأنفال: الآية ٦٧] أن يأسر الرجال ويستعين بالمال بفدائهم حتى يثخن في الأرض. الإثخان: معناه الإيجاع في الأرض قتلاً، حتى يوجع في الأرض قتلاً، ويقتل الصناديد الكفرة والرؤساء العظام التي تضعف بهم شوكة الكفر وأهله. والإثخان: أصل الإثخان شدة الإيجاع في الأرض بالقتل (١). وقالوا: أثخنوهم أي: أوجعوا فيهم قتلاً شديداً ذريعاً، وأثخنته الجراحة: اشتدت عليه حتى أثبتته. وهذا الذي لامهم عليه هنا وبيّن لهم أنه ما كان هو الصواب، ولا هو الأولى أوضحه وشرحه في سورة القتال في قوله: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ﴾ [محمد: الآية ٤] أي: أوجعتموهم قتلاً، قتلاً يضعف شوكة الكفر ويذل أهله، بعد ذلك ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾ وهو الأسر ﴿فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء﴾ ولذا قال هنا: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ يعني ما كان ينبغي لكم ولا يصح منكم أولاً أن تلتزموا أول وقعة نصركم الله فيها بالأسرى تريدون المال، لا ينبغي هذا منكم، وما كان هو الأولى لكم، كان الأولى لكم قتلهم وحصدهم حتى يذل الكفر ويستكين أهله، وتقوى شوكة الإسلام ويعز أهله. وهذا معنى قوله: ﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ أي: يوجع فيها قتلاً؛ لأن ذلك القتل الوجيع هو الذي يذل الكفر ويكسر شوكته، ويعز الإسلام ويرفع كلمة الله (جل وعلا). وهذا معنى قوله: ﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾.
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ٤٨)، الدر المصون (٥/ ٦٣٧).


الصفحة التالية
Icon