وعلى هذا فقولُه: ﴿وَأُوذُوا﴾ معطوفٌ على قوله: ﴿كُذِّبُوا﴾ فصبروا على ما كُذبوا، وصبروا على ما أُوذوا. و (ما) مصدريةٌ، أي: صَبَرُوا على التكذيبِ والإيذاءِ حتى جاءهم نصرُنا، وهنالك قومٌ قالوا: الإيذاءُ لم يتقدم له ذِكْرٌ حتى يكونَ الصبرُ عليه مذكورًا؛ ولذا قالوا: ﴿وَأُوذُوا﴾ عُطِفَ على قولِه: ﴿كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِكَ﴾ يعني: لقد كُذِّبَ الرسلُ وَأُوذُوا فصبروا على ذلك.
وقوله: ﴿وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ يعني: أن اللَّهَ من كلماتِه (جل وعلا) نصرُه لِرُسُلِهِ، وأن العاقبةَ الحميدةَ كائنةٌ لهم (١)، كما قال: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)﴾ [الصافات: الآيات ١٧١ - ١٧٣] ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: آية ٢١] وقوله جل وعلا: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [غافر: آية ٥١] مثل هذه الكلماتِ من الوعدِ الصادقِ بنصرِ الرسلِ، وأن العاقبةَ لهم، كما قال عن مجموعِ الرسلِ: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [إبراهيم: الآيتان ١٣، ١٤] هذه الكلماتُ - وغيرُها من سائرِ كلماتِ اللَّهِ التي لاَ نهايةَ لها كما قال: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ [الكهف: آية ١٠٩]- لا مُبَدِّلَ لها. والمعنى قال اللَّهُ: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)﴾ [الصافات: الآيات ١٧١ - ١٧٣]، فليس يمكنُ لأحدٍ أن يُبَدِّلَ هذا الخبرَ ويجعلَ إيجابَه سَلْبًا، فيجعلَ الرسلَ مَقْهُورِينَ غيرَ منصورين، لا أبدًا، وَقِسْ على ذلك.
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤١٧)، البحر المحيط (٤/ ١١٢ - ١١٣).
وأنسابَهم وأعراضَهم وأموالَهم، كُلُّ هذا تشريعُ رَبِّ العالمينَ، ينظمُ فيه علاقاتِ الدنيا على أكملِ الوجوهِ، ويهذبُ أرواحَها لِتَتَّقِيَ. والقرآنُ العظيمُ اعْتَنَى بالإنسانِ من نَاحِيَتَيْهِ: من ناحيتِه الجسديةِ، وناحيتِه الروحيةِ؛ لأن هذا الحيوانَ المسمَّى بالإنسانِ هو مركبٌ من عُنْصُرَيْنِ مختلفين في الحقيقةِ أشدَّ الاختلافِ، أحدُهما: يُسَمَّى الروحَ.
والثاني: يُسَمَّى الجسدَ. ولابدَّ لكلٍّ منهما من متطلباتٍ، فللروحِ متطلباتٌ لاَ تكفي عنها متطلباتُ الجسدِ، وللجسدِ متطلباتٌ لا تكفي عنها متطلباتُ الروحِ. فالقرآنُ العظيمُ جاء للإنسانِ بمتطلباتِه الجسديةِ، ومتطلباتِه الروحيةِ، فَنَظَّمَ له جميعَ العلاقاتِ التي بها تَقَدُّمُهُ وقوتُه في الدنيا في جميعِ الميادينِ من حيثُ إنه جسدٌ حَيَوَانِيٌّ، وَبَيَّنَ له طرقَ الصلةِ بالله لتتهذبَ روحُه على ضوءِ النورِ السماويِّ؛ لأن الروحَ هي التي لها الأهميةُ، والمادةُ إذا طَغَتْ وَقَوِيَتْ وَلَمْ تقدها روحٌ مهذبةٌ كانت ويلةً عُظْمَى على البشريةِ.
وَأَنْتُمْ تشاهدونَ هذا في الدنيا، تشاهدونَ الكتلةَ الشرقيةَ والغربيةَ، كِلْتَاهُمَا نَجَحَتْ غايةَ النجاحِ في خدمةِ الإنسانِ من حيث إنه جسدٌ حَيَوَانِيٌّ، وَأَفْلَسَتَا كُلَّ الإفلاسِ في خدمةِ الإنسانِ من ناحيتِه الروحيةِ، وَصَارَتْ هذه المادةُ لم تَقُدْهَا روحٌ مرباةٌ مهذبةٌ على ضوءِ تعليمٍ سماويٍّ، فكانت ويلةً عُظْمَى على البشريةِ، وخطرًا داهمًا يهددُ الإنسانَ، ولذلك تجدونَهم يعقدونَ المؤتمرَ بعدَ المؤتمرِ، والمجلسَ بعدَ المجلسِ لِيُدَمِّرُوا القوةَ التي بذلوا فيها النفسَ والنفيسَ خَوْفًا منها، وَكُلٌّ منهم يبيتُ في قلقٍ وخوفٍ من القوةِ التي بذلوا فيها النفسَ والنفيسَ!!.
كُلُّ ذلك إنما جاءَهم من إهمالِهم الناحيةَ الروحيةَ؛ لأَنَّ أرواحَهم لو كانت مرباةً على ضوءِ نورٍ سماويٍّ من تعاليمِ ربِّ
ولكن البلاد التي تحكم بما أنزل الله، وتقطع يد السارق، وترجم الزاني المحصن، وتجلد الزاني تراها دائماً لأجل ذلك التشريع السماوي تقل فيها الجرائم الأخلاقية. ومعلوم أن هذه البلاد - التي هي وحدها التي بقيت في الدنيا تعلن أنها تحكم بما أنزل الله على ما كان منها - أنها أقل البلاد في الإحصائيات العامة جرائم وفضائح وعظائم ذنوب؛ لأجل التشريع السماوي. فتشريع رب العالمين هو التشريع الصحيح الذي يصون الأنفس، ويصون الأموال، ويصون الأعراض، ويصون العقول، ويصون الأنساب، إلى غير ذلك من المقومات الإنسانية. ومعلوم أنه ليس قصدنا أن نثني على أحدٍ كائناً ما كان، كل الناس يعرف ذلك، وإنما قصدنا أن نثني على دين الإسلام، ونبين محاسنه، وأن تشريع رب العالمين لا يدانيه غيره، ولا يماثله غيره، وأنَّ مَنْ حَكَّمَ شَرْعَ اللهِ كانت العدالة في بلاده أكثر، وكانت الطمأنينة أكثر، وكان الرخاء أكثر.
وهذه البلاد عليها - على ما كان منها - أن تحْمد نعم الله، فهي في رفاهية، وطمأنينة على الأنفس والأموال والأعراض لا تكاد توجد في بلد من بلاد الله، يعلم ذلك كل من سافر وذهب إلى البلاد الخارجية، وكل ذلك ليس إلا لأجل أنها تقطع يد السارق، وترجم الزاني، وتحكم بحدود الله.
قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢)﴾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ﴾ إلهًا فعبدوه من دون الله ﴿سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ الغضب صفة وصف الله بها نفسه إذا انتُهكت حرماته، فنحن نصفه بها كما وصف بها نفسه، وننزه خالقنا أتمَّ التنزيه وأكمله عن مشابهة صفات المخلوقين؛ لأن جميع الصفات من بابِ واحد، فكما أنه (جل وعلا) ذات لا تشبهها شيء من الذوات فكذلك لها صفات لا يشبهها شيء من صفات خلقه، أي: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ﴾ إلهًا فعبدوه من دون الله ﴿سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ﴾ هذا الغضب كائنٌ ﴿مِّن رَّبِّهِمْ﴾ معناه: يغضب الله عليهم، ومن غَضِبَ الله عليه فقد هلك.
﴿وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا﴾ الذلة: الصغار والهوان.
قال جماعة من العلماء (١): هذه الآية من سورة الأعراف في طائفة من بني إسرائيل أُشربت قلوبهم حُبّ العجل، ولم يتوبوا فيمن تاب، بل بقوا غير تائبين، وعدهم الله هذا الوعيد، وهددهم هذا التهديد، وهذا هو الأظهر؛ لأن المعروف أن أكثر الإسرائيليين تاب من عبادة العجل تلك التوبة العظيمة التي بيّناها مفصَّلة في سورة البقرة؛ حيث قدموا أنفسهم للقتل تائبين إلى الله، الواحد منهم يجود بنفسه فيُقتل مرضاة لله وإنابةً إليه، كما تقدم إيضاحه في قوله: ﴿فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: آية ٥٤] فمن تاب هذه التوبة النصوح
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٢٩٢)، ولابن جرير (رحمه الله) تحقيق جيد في معنى الآية فراجعه في تفسيره (١٣/ ١٣٤).
بَعْضَ مَنْ يلقُونَكم في هذا الجَيْش خرجُوا مُسْتَكْرَهِين، فَمَنْ لقَي منكم العبَّاسَ فلا يَقْتُلْهُ؛ لأنَّهُ أَكْرَهَهُ قَوْمُهُ على الخُرُوج، ومَنْ لَقِيَ أبَا البَخْتَرِيِّ فلا يَقْتُلْهُ».
وكان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة (رضي الله عنه) وقعت منه زلّة يوم بدر، وكان يقول: منذ سقطت مني تلك الكلمة وأنا أخافها لا آمن منها أبداً حتى يكفّرها الله عني بالشهادة. فقُتل شهيداً أيام اليمامة (رضي الله عنه). وذلك أن النبي ﷺ لما قال: «مَنْ لَقِيَ مِنْكُم العَبَّاسَ فَلا يقْتُلْهُ فإنَّهُ خَرَج مُسْتَكْرَهاً». قال أبو حذيفة بن عتبه (رضي الله عنه): أنقتل آباءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس؟! والله إن لقيته لألجمنَّه السيف. فسمع بها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا أنه قال لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «يا أبا حفص» - قال عمر: ما كنّاني أبا حفص قبل ذلك اليوم - «أيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ»؟ فقال: إنه نافق دعني أقتله (١).
وكان أبو حذيفة (رضي الله عنه) يتخوّف من كلمته هذه حتى رَزَقَهُ اللهُ المَوْتَ شهيداً أيام اليمامة. وكذلك نهى عن أبي البختري؛ لأنه كان يُحْسِن إلى بَنِي هاشم أيام كونهم في الشِّعب لما قاطعهم قريش، وكان يعاملهم معاملة حسنة ولم يؤْذِهِمْ، فجاءه المُجَذَّر بن زياد البلوي (رضي الله عنه) فقال: أما أنت فقد نهانا عنك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وكان له زميل، فقال له: وزميلي؟ فقال: أما زميلك فلم ينهنا عنه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وأراد المجذّر أن يقتل زميله، فتعرّض دونه وقال (٢):
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.


الصفحة التالية
Icon