وهذا معنى قولِه: ﴿وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ ومعنى التبديلِ هو إذهابُ هذا والإتيانُ ببدلٍ غيرِها.
﴿لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ وَعْدُهُ رُسُلَهُ بالنصرِ والعاقبةِ المحمودةِ، فتبديلُ هذا أن ينزعَ النصرَ عنهم، ويجعلَ مكانَه غلبتَهم وإذلالَهم. لا أحدَ يستطيعُ هذا التبديلَ لكلماتِ اللَّهِ.
ثم قال: ﴿وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ فاعل (جاء) هنا محذوفٌ دَلَّ عليه المقامُ (١). و (مِنْ) في قولِه: ﴿مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ تبعيضيةٌ، أي: ولقد جاءَك بعضُ أنباءِ المرسلينَ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: ﴿مِنْهُم مَّنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: آية ٧٨]، وفي هذا البعضِ الذي جاءَك مِنْ أنبائهم تسليةٌ لكَ، وتثبيتٌ لكَ، كما قال: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود: آية ١٢٠]، ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [فصلت: آية ٤٣]، ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: آية ٣٥].
﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام: آية ٣٥].
﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ كان النبيُّ - ﷺ - إذا دَعَا قومَه إلى الإسلامِ، وَعَرَضَ عليهم هذا القرآنَ العظيمَ بما فيه من الآياتِ البيناتِ التي لا تَتْرُكُ في الحقِّ لَبْسًا قَابَلُوهُ بالردِّ القبيحِ والإعراضِ، أي:
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤١٧)، البحر المحيط (٤/ ١١٣)، الدر المصون (٤/ ٦٠٦).
العالمين كان البشرُ في أمنٍ وطمأنينةٍ أن تلك الروحَ المهذبةَ المرباةَ لا تقودُ تلك المادةَ الطاغيةَ والقوةَ الهائلةَ إلا قيادةً طبيعيةً لخيرِ البشريةِ وخيرِ الدنيا والآخرةِ؛ فإهمالُ الناحيةِ الروحيةِ هو مِنْ أعظمُ البلايا والويلاتِ.
ونحن دائمًا نُنَبِّهُ أبناءَنا معاشرَ المسلمين؛ لأنا نأسفُ كُلَّ الأسفِ أنهم أَضَلَّتْهُمُ الحضارةُ الغربيةُ، فَانْفَصَلُوا عن تعاليمِ السماءِ، وَقَطَعُوا الصلةَ بينَهم وبينَ مَنْ فَتَحَ أعينَهم، ونحن نبينُ لهم الحقائقَ، ونضربُ لهم الأمثالَ؛ لأن الحضارةَ الغربيةَ بالاستقراءِ التامِّ الذي لا يمكنُ أن يُكَابِرَ فيه إلا مكابرٌ جاحدٌ للمحسوسِ جَمَعَتْ بينَ نافعٍ لا مِثَالَ لنفعِه، وبين ضارِّ لاَ مِثَالَ لضرِّه.
أما الذي حصلته من النفعِ: فهو ما حَصَلَتْ عليه من التقدمِ الماديِّ، والتقدمِ التنظيميِّ في جميعِ ميادينِ الحياةِ، فهذا الأمرُ كماءِ الْمُزْنِ، والتواكلُ عنه عَجْزٌ وَضَعْفٌ وَتَمَرُّدٌ على نظامِ السماءِ؛ لأَنَّ نظامَ السماءِ يأمرُ المسلمَ أن يكونَ قَوِيًّا مُتَقَدِّمًا في جميعِ الميادينِ العمليةِ، سَابِحًا في جميعِ الميادينِ العمليةِ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: آية ٦٠] هذا الأمرُ كأنه يقولُ: أَعِدُّوا ما يكونُ في المستطاعِ من القوةِ كَائِنًا ما كَانَ، مَهْمَا تَطَوَّرَتِ القوةُ، ومهما بَلَغَتْ، فالمتواكلونَ العَجَزَةُ الذين لا يُعِدُّونَ القوةَ متمردونَ على نظامِ السماءِ، مخالفونَ لأَمْرِ خالقِ السماواتِ والأرضِ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: آية ٦٣] وَمَنْ نَظَرَ في القرآنِ وجدَه جَامِعًا بَيْنَ الأمرين: الأمرِ بالقوةِ والتقدمِ، مع المحافظةِ على الآدابِ الروحيةِ.
وَنَحْنُ دَائِمًا نضربُ بعضَ الأمثالِ: اقرؤوا آيَتَيْنِ من سورةِ النساءِ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ
كَافِرِينَ (٣٧)} [الأعراف: الآيات ٣٤ - ٣٧].
يقول جلَّ وعلا: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)﴾ [الأعراف: آية ٣٤] لمّا أمر الله (جلَّ وعلا) ونهى هدد الأمة التي بعث بها نبيه ﷺ أن كل أمة لها وقت محدد وأجل معين، إذا انتهى ذلك الأجل جاء أمر الله. وهذا تهديد لكفار قريش الذين كذَّبوه صلى الله عليه وسلم، والموعظة بالحكم عامة.
ويجب على كل إنسان أن يعلم أنَّ كل إنسان من أفراد كل أمة؛ وأن كل أمة - الجميع محدود له أجل معين لا يتقدمه بلحظة ولا يتأخر عنه بلحظة، كما ذكره هنا في الأمم، وبينه أيضاً في الأشخاص في آيات متعددة، كقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً﴾ [آل عمران: آية ١٤] أي: شيئاً مكتوباً محدداً بأجل معين ووقت محتوم لا يتقدَّم عنه ولا يتأخَّر، وإذا كان عمر الإنسان محدَّداً عند الله بوقت معين لا يتقدَّم عنه ولا يَتَأَخَّر، وهو لا يدري أذلك الوقت قريب أو بعيد أو متوسط، قد يمكن أن يكون موته قريباً وهو لاهٍ يضحك، أكفانه تنسج - وهي حاضرة موجودة - وهو لاهٍ يضحك ويلعب ويعصي الله!!
فعلى كل عاقل أن يبادر بغتة الموت، وأن يخاف أن يكون الوقت المحدد لعمره قد انتهى أو قارب الانتهاء، فيحمله ذلك على أن يشتغل بما يرضي ربه لتكون خواتيم عمله طيبة، فعلى كل إنسان أن يعتبر أن له أجلاً محدداً ووقتاً معيناً لا يتقدم عنه ولا يتأخَّر، وإذا كان لا يدري هل ذلك الوقت قريب جدّاً فعليه أن يعمل بعمل من هو عالم أنه يموت قريباً لئلا يعاجله الموت وهو مقيم على معاصي الله وما يسخط ربه، فيموت شر ميتة، فيجر إلى القبر مغضوباً عليه من
العظيمة لا يُعقل أن الله يهدده هذا التهديد، ويتوعده هذا الوعيد؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فيظهر هنا ما ذكره جماعة أنها في طائفة أُشربت قلوبهم حب العجل ولم يتوبوا -والعياذ بالله- ووعدهم الله هذا الوعيد: ﴿سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ﴾ الجزاء الذي جزينا به هؤلاء الذين عبدوا العجل: ﴿نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ كان العلماء يقولون: كل من افترى في الدين وابتدع في الدين سلط الله عليه الذلة، وكان الحسن يقول في المبتدعين المفترين في دين الله: والله إن الذلة على أكتافهم ولو هملجت بهم البَغْلاَتُ، وطقطقت بهم البراذين (١). وقال هذا غير واحدٍ من العلماء، أن كل مبتدع في الدين مفتر فيه آتٍ بِنِحْلَة ليست بحق لا بد أن يسلط الله عليه الذلة ولو بلغ ما بلغ، كما صرح بذلك في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ فعلى المسلم أن يخاف من الذلة والغضب، ولا يفتري في دين الله، ولا ينتحل ولا يبتدع، بل يبقى على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. وهذا معنى قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ﴾ كالذين عبدوا العجل، ﴿ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا﴾ أي: من بعد تلك السيئات، ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ﴾ يعني من بعد ذلك الذي ارتكبوه من السيئات ﴿وَآمَنُواْ﴾ داموا على إيمانهم، أو أخلصوا في إيمانهم، ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾ أي: تلك السيئات والفعلات، وقال بعضهم: ﴿مِن بَعْدِهَا﴾ أي: التوبة المفهومة من قوله: ﴿تَابُواْ﴾ ﴿لَغَفُورٌ﴾ أي: كثير المغفرة والرحمة لعباده.
_________
(١) أورده ابن كثير في التفسير (٢/ ٢٤٨).
لا يُسْلِمُ ابْنُ حُرَّةٍ زَمِيلَهُ... حتَّى يمُوتَ أوْ يَرَى سَبِيلَهُ...
لاَ يُفارِقْ جَزَعاً أكِيلَهُ
وتراجز هو والمجذّر (رضي الله عنه) وكان ذلك يقول (١):

أَنَا الَّذِي أَزْعُمُ أَصْلِي مِنْ بَلِي أَضرِبُ بالحربة حتى تَنْثَني
فقتله المجذر لما جاء دون زميله. وكان العباس (رضي الله عنه) أسَرَهُ رَجُلٌ قَصِير ليس بالقوي من الأنصار هو كعب بن عمرو (رضي الله عنه) وهو المشهور بكنيته أبي اليسر، وهو أخو بني سلمة. ذكر بعض أصْحَابِ المَغَازِي (٢) أن العباس كان يَئِنّ أنيناً في الأسر، فسمع رَسُول الله ﷺ أنينه فلم يَسْتَطِعْ أَنْ يَنَام حتى خففوا عليه الوثاق فَسَكَت، فلما سكت نام صلى الله عليه وسلم. وعلى كل حال فالعباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه) لما أرسل قريش في فداء أسراهم كان الأسير يُفْدَى بأربعين أوقية، قال أصحاب المغازي: أمرهم النبي ﷺ أن يُضعفوا الفداء على العبّاس فأخذوا منه ثمانين أوقية، وضاعت له عشرون أوقية أخذوها منه لما أسروه، وفدى ابني أخويه عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وفدى حليفه عتبة بن عمرو أخا بني الحارث بن فهر، فصار دفع مالاً كثيراً لم يدفعه غيره، فمن هنا قالوا: نزلت فيه هذه الآية الكريمة مع أنها نازلة في جميع أسرى بدر، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فلَفْظُ الآية عام، وهذه القاعدة قاعدة معروفة قويَّة يستدل بها علماء الأصول على أنَّ الآيَات النازلة في أسباب خاصة أحكامها
_________
(١) السابق.
(٢) أخرجه البيهقي في الدلائل (٣/ ١٤١) من طريق ابن إسحاق، وعنهما أورده ابن كثير في تاريخه (٣/ ٢٩٩).


الصفحة التالية
Icon