التَّوَلِّي والصدودِ عن دينِ اللَّهِ (جل وعلا) وَآذَوْهُ - ﷺ -، فَبَيَّنَ في هذه الآيةِ أن مِنْ أَسْوَإِ ما يسوؤه، وأحزن ما يحزنه، ويضيقُ به صدرُه إعراضُهم وتوليهم عن الحقِّ؛ لِمَا جُبِلَ عليه من الشفقةِ والرحمةِ؛ وَلِذَا نَهَاهُ اللَّهُ مرارًا عن شدةِ أَسَفِهِ وحزنِه عليهم (١)، قال له: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: آية ٨] لأجلِ أن لم يؤمنوا فَهَوِّنْ عليكَ، وقال له: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: آية ٣] ومعنَى ﴿بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ مهلكٌ نَفْسَكَ بالأسفِ والحزنِ؛ لأجلِ عدمِ إيمانِهم.
و (الباخعُ) في لغةِ العربِ: الْمُهْلِكُ (٢)، ومنه قولُ غيلان ذي الرمة (٣):
أَلاَ أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ
«الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ» أي: المهلكُ الوجدُ نفسَه.
﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ أي: مُهْلِكُهَا.
﴿أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ لأجلِ عدمِ إيمانِهم، فَهَوِّنْ عليكَ، وقال له: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: آية ٦] وهو شدةُ الحزنِ، أي: لشدةِ الحزنِ عليهم أن لم يؤمنوا، وقال له: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: آية ٨] مِنْ شِدَّةِ التأسفِ على عدمِ إيمانِهم، فَهَوِّنْ عليكَ. واللَّهُ يعني بهذا: يعني أنتَ رسولٌ مُهِمَّتُكَ الرسالةُ، وقد بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ وَأَدَّيْتَ كما
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ١٨٩).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٣) من سورة الأنعام.
(٣) البيت في معاني القرآن للزجاج (٣/ ٢٦٨)، الدر المصون (٧/ ٤٤٢).
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا} إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ [النساء: الآيتان ١٠٢، ١٠٣] هذا وقتُ التحامِ الكفاحِ المُسَلَّحِ، والرؤوسُ تنزلُ عن الأعناقِ، وفي هذا الوقتِ الحَرِجِ نظامُ السماءِ والقرآنُ العظيمُ يدبرُ الخطةَ العسكريةَ على أكملِ الوجوهِ، في الوقتِ الذي يُحَافِظُ فيه على الاتصالِ بخالقِ هذا الكونِ، وتربيةِ الروحِ بأدبٍ سَمَاوِيٍّ من آدابِ السماءِ، وهو الصلاةُ في الجماعةِ، واللَّهُ (جل وعلا) يقولُ في سورةِ الأنفالِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾ [الأنفال: آية ٤٥] وقوله: ﴿فَاثْبُتُوا﴾ تعليمٌ عسكريٌّ سماويٌّ، يأمرُ به خالقُ السماواتِ والأرضِ بالصمودِ في الميدانِ في خطوطِ النارِ الأماميةِ. وفي هذا الوقتِ الضنكِ يقولُ اللَّهُ (جل وعلا): ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ هكذا فَلْيَكُنِ المؤمنُ، قَوِيًّا في جميعِ الميادينِ، مُحَافِظًا على آدابِه الروحيةِ متصلاً بربِّه صلةً روحيةً؛ لأَنَّ الروحَ المهذبةَ على ضوءِ التعليمِ السماويِّ تقودُ المادةَ والقوةَ قيادةً طبيعيةً حكيمةً، ليس بها ويلةٌ على البشرِ.
وما أَنْتَجَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ من المنافعِ، وما جَنَتْهُ من المضارِّ نضربُ له في المناسباتِ مثلاً يصيرُ به المعقولُ كالمحسوسِ، مثالُ ذلك (١): هو أن رَجُلاً بَعِيدًا من العمرانِ، مُنْقَطِعًا في آخِرِ رَمَقٍ من الحياةٍ وَجَدَ ماءً عَذْبًا زُلاَلاً وَسُمًّا قاتلاً فَتَّاكًا، فحالُه مع هذا السمِ القاتلِ والماءِ العذبِ الزلالِ، حالُه لابدَّ أن تكونَ واحدةً من أربعِ حالاتٍ: إما أن يَشْرَبَهُمَا معًا، وإن شربهما معًا لم ينتفع بالماءِ الزلالِ؛ لأن السمَّ الفتاكَ يقتلُه، وإن تَرَكَهُمَا معًا انقطعَ عن الركبِ،
_________
(١) انظر: الأضواء (٤/ ٣٨١).
ربه -والعياذ بالله- فعلى كل مسلم أن يلاحظ هذا، ويحسن عمله خوفاً من أن يكون الأجل المحدد له أوشك على الانتهاء. وهذه موعظة يجب على كل مسلم أن يعتبر بها، والأمم منهم من يكون أجلها المضروب لها واحداً، كالأمَّة التي يأتيها الهلاك في وقت واحدٍ، كقوم نوح الذين اجترفهم الطوفان في وقت واحد، وكقوم هود الذين أهلكتهم الريح العقيم في وقتٍ واحدٍ، وكقوم صالح الذين أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، إلى غير ذلك من القصص المبينة في القرآن، وقد يموت من الأمة أفراد، وأفراد، وأفراد من غير استئصال في وقت واحد. والأمة المهلكة في وقت واحد، والأفراد التي تموت، كلّ منها بأجل محدد له، ووقت معلوم عند الله، لا يتقدمه ولا يتأخَّر عنه، فمن قتل فقد مات بأجله الذي قدره الله عليه، خلافاً للمعتزلة القدرية الذين يزعمون أن أعمال العباد لا مشيئة فيها لله، فيقولون: عمره كان أكثر من هذا، ولكن القاتل نقص عمره فقتله قبل أجله! فهذا جَهْلٌ بالله، وقدح في علم الله؛ لأن الله عالم بكل ما كان وما سيكون، وعالم بكل وقت يموت فيه الإنسان، فلا بد أن يموت في الوقت المعين الذي سبق علم الله أنه يموت فيه، فمن مات فقد انقضى أجله المحدد له عند الله، الذي كان الله يعلم سابقاً أنه عند انقضائه سيموت كما هو مذهب أهل السنة والجماعة (١).
والأمة أُطلقت في القرآن العظيم أربعة إطلاقات، كلها عربية فصحى (٢): وهي معنى آيات من كتاب الله.
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٢٠٢)، شرح الطحاوية (١٢٧، ١٢٨).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٢) من سورة الأنعام.
وهذه الآية الكريمة تدل على أنَّ مَنِ ارْتَكَبَ السيئات العظام ثم تاب إلى الله تاب الله عليه، والله يقول: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [طه: آية ٨٢] ويقول للذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة -يستعطفهم ليتوب عليهم مع شناعة كفرهم حيث يقول لهم -: ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٧٤)﴾ [المائدة: آية ٧٤] والتوبة واجبة على كل مسلم ومسلمة من كل ذنب كائنًا ما كان (١)، ولا يجوز تأخيرها، فإذا اقترف ذنبًا وأَخَّر التوبة منه كان تأخير التوبة ذنبًا يستوجب توبة أخرى.
وقد أجمع العلماء على أن التوبة تتركب من ثلاثة أركان (٢):
أحدها: الإقلاع عن الذنب إن كان متلبسًا به.
والثاني: الندم على ما صدر منه من الذنب (الندم الشديد).
والثالث: النية ألا يعود إلى الذنب أبدًا.
هذه أركان التوبة التي أجمع عليها العلماء. وفي اثنين من أركانها في كلِّ واحد منهما إشكالٌ معروف (٣):
أحدهما: الندم، فالندم أجمع العلماء على أنه ركن التوبة، والتوبة واجبة بالإجماع، كما أوجبها الله بقوله: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: آية ٣١] وركن الواجب واجب إجماعًا، فلا خلاف بين العلماء أن الندم ركنٌ من أركان التوبة واجب. وفي هذا إشكالٌ معروف شديد، وهو أن الندم من
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.
عامة، ولا تخصّص بأسبابها (١)، ومن المشهور في أمثلتها: المثال لها بهذه الآية من أخريات سورة الأنفال، أنها نزلت في العباس بن عبد المطلب وحكمها عام.
ومن الأدلّة الدالة على هذه القاعدة الأصولية المهِمَّة المُعِينَة في التفسير -وهي أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب- دلّ عليها الحديث الصحيح واللغة، أما ما دلّ على ذلك من الأحاديث فهو ما سيأتي في سورة هود -إن شاء الله- من أن سورة هود نزلت فيها آيات مَدَنِيَّة وهي سورة مكية كما قال غير واحد من العلماء أن قوله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤)﴾ [هود: الآية ١١٤] نزلت في الأنصاري الذي جاءته المرأة تبتاع تمراً فأعجب بجمالها، وكان زوجها غائباً في الجهاد، فقال لها: إن في البيت تمراً أحسن من هذا. فلما دخلت البيت كان بينه وبينها بعض ما لا يليق من صغائر الذنوب، ثم إنّه ندم وأخبر النبي ﷺ بذلك، فأنزل الله فيه: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ تعني: فصلواتك الخمس تذهب عنك هذه السيئة التي اقترفت من هذه المرأة. فقال الرجل -كما في صحيح البخاري وغيره- ألي هذا وحدي يا رَسُول الله؟ وسؤال هذا الأنصاري هو سؤال عن هذه النازلة، كأنه يقول: آلعبرة بي لأنني سبب النزول، أو العبرة بعموم لفظ: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ فأجابه صلى الله عليه وسلم: «بَلْ لأُمَّتِي كُلِّهِمْ» (٢). فَدَلّ على أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ومن النصوص الدالة على هذه القاعدة: هو ما ثبت عن النبي ﷺ في
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣١) من سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon