ينبغي، فَهُدَاهُمْ ليسَ عليكَ، وحسابُهم ليسَ عليكَ، فَرَبُّهُمْ أعلمُ بِهِمْ، هو الذي يُشْقِي وَيَهْدِي، وهو الذي إليه مَرْجِعُهُمْ وَحِسَابُهُمْ، فَهَوِّنْ عليكَ، فقد قمتَ بما عليكَ: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾؛ ولذا شَدَّدَ عليه هنا في هذه الآيةِ، قال له: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ أي شَقَّ وَعَظُمَ عليكَ ﴿إِعْرَاضُهُمْ﴾ أي: صُدُودُهُمْ وَتَوَلِّيهِمْ عَمَّا جئتَ به، وقد أَمَرْتُكَ مرارًا أن تتركَ عنكَ هذا الحزنَ، وتعلم أنَّ ما عليك قد أَدَّيْتَهُ، بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ، وأن هُدَاهُمْ ليس بِيَدِكَ ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [البقرة: آية ٢٧٢] ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [المائدة: آية ٤١] ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾ [النحل: آية ٣٧] قال له هنا: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ أي: شَقَّ وَعَظُمَ عليكَ وَأَحْزَنَكَ (١) ﴿إِعْرَاضُهُمْ﴾ أي: صدودُهم عَمَّا جئتَ به. و (الإعراضُ) مصدرُ أعرضَ يُعْرِضُ إِعْرَاضًا، إذا صدَّ وَتَوَلَّى عن الشيءِ.
فكأن اللَّهَ يقولُ له: إن عَظُمَ وَشَقَّ عليكَ وأحزنكَ صدودُهم وتوليهم، وقد نهيتُكَ مرارًا عن هذا الحزنِ، فإن كانت لكَ طاقةٌ أو قدرةٌ فَأْتِ بها، وإن عجزتَ عن ذلك فَاعْلَمْ أن ذلك بِيَدِ اللَّهِ، فَكِلْ الأَمْرَ إليه، وَهَوِّنْ عليكَ؛ ولذا قال: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ﴾ الاستطاعةُ على الشيء: القدرةُ عليه.
﴿أَنْ تَبْتَغِيَ﴾ تَطْلُبَ.
﴿نَفَقًا فِي الأَرْضِ﴾ النفقُ: السَّرَبُ في بطنِ الأرضِ، الذي يكونُ له وجهٌ من جهةٍ أخرى ينفذُ منه الإنسانُ (٢)، أن تبتغيَ سَرَبًا في الأرضِ
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤١٧).
(٢) انظر: القرطبي (٦/ ٤١٧)، الدر المصون (٤/ ٦٠٩).
وماتَ في الطريقِ. وإن شَرِبَ السمَّ وتركَ الماءَ فهذا رجلٌ أحمقُ أهوجُ لا يُبَيِّنُ نَافِعًا من ضَارٍّ، وإن كان رجلاً عاقلاً شَرِبَ الماءَ وتركَ السُّمَّ.
فالحضارةُ الغربيةُ فيها ماءٌ عذبٌ زُلاَلٌ، وفيها سُمٌّ فَاتِكٌ قَتَّالٌ. أما ما فيها من الماءِ الزلالِ: فهو ما أَنْتَجَتْهُ من القوةِ الماديةِ؛ والقوةِ التنظيميةِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ. وأما ما فيها من السمِّ الفاتكِ القتَّالِ: فهو التمردُ على نظامِ السماءِ، والطغيانُ والعصيانُ لخالقِ هذا الكونِ (جل وعلا)، والإفلاسُ الكليُّ في الآدابِ الروحيةِ السماويةِ.
فعلينا معاشرَ المؤمنين أن نَتَنَبَّهَ لهذا، ونفرقَ بين السمِّ والماءِ، فنأخذ من الحضارةِ الغربيةِ ما اسْتَطَعْنَا من قوتِها الماديةِ، ونجتنبَ كُلَّ التَّجَنُّبِ، ونتباعد كُلَّ البعدِ عن سُمِّهَا الفتاكِ القتَّالِ، مما جَنَتْهُ من التمردِ على نظامِ السماءِ، ومعصيةُ خالقِ هذا الكونِ، والانحطاطُ الخلقيُّ، وضياعُ الأخلاقِ والقيمِ الروحيةِ الإنسانيةِ.
والذي يُؤْسِفُ كُلَّ الأسفِ أن أغلبَ - إلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ - مَنْ يُحَرِّكُونَ الدَّفَّاتِ ربما أخذوا منها ضَارَّهَا من الانحطاطِ الخلقيِّ؛ والزهد في الإسلامِ، وقطع الصلةِ بالله، وعدم صلةِ السماءِ بالأرضِ، في الوقتِ الذي هم فيه مفلسونَ كُلَّ الإفلاسِ من مائِها الزلالِ، ومنافعِها الدنيويةِ، فَعَكَسُوا القضيةَ والعياذُ بالله.

مَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالإِفْلاَسَ بِالرَّجُلِ (١)
فَعَلَى المسلمِ أن يفرقَ بين ما يَضُرُّ وما ينفعُ، ويفرقُ بين ضارِّ الحضارةِ الغربيةِ ونافعِها، ويستفيدُ من نافعِها من القوةِ الماديةِ
_________
(١) هذا البيت يُنسب لأبي دلامة الأسدي، وهو في ديوانه ص٧٧.
أُطلقت الأمة في القرآن على الطائفة المجتمعة في دين أو نِحْلَة. وهذا أكثر إطلاقاتها، نحو: ﴿كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾ [المؤمنون: آية ٤٤] ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: آية ٢١٣] ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ [الأعراف: آية ٣٤].
وأُطلقت الأمة في آية من كتاب الله على الرجل المُقْتَدى به الذي هو إمام؛ لأن إبراهيم قال الله له: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ [البقرة: آية ١٢٤] ولذا سمَّاه أمة في قوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لله﴾.
وأُطلقت الأمة في القرآن على البُرهة من الزمن، والقطعة من الدهر. ومنه بهذا المعنى قوله في أوّل سورة هود: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ﴾ [هود: آية ٨] إلى مدة معينة من الدهر. وقوله في سورة يوسف: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: آية ٤٥] أي: تذكَّر بعد برهة من الزمن.
وأُطلقت الأمة في القرآن - وهو كثير في كلام العرب - على نفس الشريعة والملة. وإطلاق الأمة على الدين والطريقة الذي هو الشريعة والملة متعدد جدّاً في القرآن، ومنه قوله تعالى عن الكفار: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: آية ٢٣] أي: على مِلَّةٍ وشَرِيعَة ودين ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الأنبياء: آية ٩٢] أي: دينكم وشريعتكم وملتكم طريقة واحدة، وهذا المعنى مشهور في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان (١):
حَلَفْتُ فلم أتْرك لنَفْسِكَ رِيْبَةً وَهَلْ يَأْثَمنْ ذُو أمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ؟
_________
(١) السابق.
الانفعالات والتأثرات النفسية لا من الأفعال الاختيارية كما هو معروف، فترى البائع المغبون يندم وهو يحاول أن يطرد عنه الندم فلا يستطيع؛ لأن الندم انفعال وتوتر نفساني لا فعل اختياري، ومعروف أن الانفعالات والتأثرات النفسانية ليست تحت قدرة العبد، وقد أجمع العلماء أن الله لا يكلف عبده إلا بفعل اختياري هو في طاقة العبد، ولذلك كان في التكليف بالندم هنا الإشكال المعروف. هذا السؤال الأول في الندم، وأجاب بعض العلماء عن هذا، قالوا: نعم إن الندم انفعال وتأثر نفساني ليس تحت طاقة العبد؛ لأنَّا نرى الإنسان يحاول أن يندم فلا يندم، ويحاول أن يطرد الندم فلا يطرده، يُشاهَد البائع المغبون يحاول أن يطرد الندم عن نفسه، والندم يضعه على الأرض من شدته، وهو لا يقدر أن يدفعه عن نفسه، وكذلك بعض عوام المسلمين قد ينال الواحد منهم قُبْلةً -مثلاً- من امرأةٍ بارعةٍ في الجمال يعشقها غاية العشق، فإذا أراد أن يندم على ذلك دعاه خيال ذلك الجمال ولذة ذلك الشيء القبيح فلا يستطيع أن يندم كما هو مشاهد، وإذا كان انفعالاً لا قدرة للعبد عليه فما وجه التكليف به؟!
أجيب عن هذا: بأن المراد بالتكليف بالندم: التكليف بأسبابه الموصلة إليه، ومَنْ تَعَاطَى أسْبَابَهُ الموصّلة إليه تعاطيًا حقًّا لم يُحابِ فيه نفسه لا بد أن يَنْدَمَ، وَضَرَبَ العلماء لذلك مثلاً، قالوا: كل العقلاء إذا قَدَّمت إلى واحدٍ منهم شرابًا لذيذًا ولكنه فيه السم القَاتل الفتَّاك، فجميع العقلاء لا يستلذُّون ذلك الشراب ولا يعدّون لذته لذة؛ لأن السم القاتل الذي هو فيه يبطل لذته وينفِّر منها، ولا شك أن حلاوات المعاصي -قبّحها الله- ولذاتها تتضمن سمًّا قاتلاً فتَّاكًا
الصحيح أنه أيقظ فاطمة وعليّاً (رضي الله عنهما) ليصليا بالليل، فقال له علي (رضي الله عنه): إن أرواحنا بيد الله إنْ شَاءَ بَعَثَنَا. فَوَلّى ﷺ يَضْرِبُ فَخِذَهُ ويقول: ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ [الكهف: الآية ٥٤] (١).
مع أن قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ نزلت في الكفار الذين يجادلون في كتاب الله، فاعتبر النبي عمومها حتى جعله شاملاً لخصام علي له ومجادلته له؛ بأن أرواحهم بيد الله؛ لأن الله قال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ﴾ الكافر مع وضوح القرآن وأدلته وتصريف أساليبه ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ [الكهف: الآية ٥٤] وخصاماً بالباطل.
ومما يدل على هذا مِنَ اللّغة: إِجْمَاعُ أهْلِ اللِّسَان العربي أن الرَّجُلَ لو كان له أربع زوجات فَقَامَتْ إِحْدَاهُنَّ وَسَبَّتْ هذا الرجل وأغضبته فقال: أنتن كلكن طوالق. فإنهن كلهنّ يطلقن بحسب المدلول العربي ولا يختص بالمرأة التي أغضبته فاستوجبت الطلاق كما لا يخفى. وهذه الآية الكريمة نزلت في العباس بن عبد المطلب، وحكمها عام لمن معه، وظاهرها يشمل جميع الأسرى؛ لأنه قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى﴾ [الأنفال: الآية ٧٠] قرأ هذا الحرف عامّة القراء غير نافع: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم﴾ بالإدغام.
وقرأه نافع وحده من السبعة: ﴿يا أيها النبيء﴾ بالهمزة من غير إدغام، ونافع قرأ لفظ النبيء والأنبئاء في جميع القرآن بالهمزة
_________
(١) السابق.


الصفحة التالية
Icon