[فَتَغُوصَ] (١) به في بطنِ الأرضِ؛ لتُخْرِجَ آيةً تَقْهَرُهُمْ بها، ﴿أَوْ سُلَّمًا﴾ أو مصعدًا تصعدُ به إلى السماءِ (٢)، حتى تُحَصِّلَ من الأسفلِ أو من الأعلى آيةً تَقْهَرُهُمْ بها؛ إِنْ قدرتَ على هذا فَافْعَلْ. فجوابُ ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ﴾ محذوفٌ، وتقديرُه: فَافْعَلْ. إن قدرتَ على ذلك فَافْعَلْ (٣)، وإن كنتَ عاجزًا عن ذلك - كما هو الحقُّ - فَهَوِّنْ عليكَ، وَاعْلَمْ أن أمرَهم إلى اللَّهِ، ومصيرَهم إلى اللَّهِ، فَهَوِّنْ عليكَ.
وقولُه في صدرِ هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ﴾ المعروفُ في فَنِّ العربيةِ: أن مادةَ (الكافِ والباءِ والراءِ) تُسْتَعْمَلُ فِي القرآنِ العظيمِ وفي لغةِ العربِ اسْتِعْمَالَيْنِ، ويتغيرُ شَكْلُهَا بحسبِ الاستعمالين (٤)، إن كانت (كَبُرَ) معناه: أنه عَظُمَ وكبر، فهي مضمومةُ الباءِ في مُضَارِعِهَا وماضيها، تقول: «كَبُرَ عَلَيْهِ الأَمْرُ»، إذا عَظُمَ وَشَقَّ. ومنه قولُه هنا: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾، وقولُه: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ [الكهف: آية ٥] ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الصف: آية ٣] ومضارعُ هذه أيضا: (يكبُر) بضمِّ الباءِ على القياسِ، كما في قولِه: ﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ [الإسراء: الآيتان ٥٠، ٥١] فهذه كبُر يكبُر. أما معناها الآخَرُ، وهو (الكِبَر في السِّنِّ)، بأن تقولَ: «كَبِرَ هذا الغلامُ في سِنِّهِ»، فهي مكسورةُ الباءِ في الماضي، تقول: (كَبِرَ)، بكسرِ الباءِ. ولا تقول: (كَبُرَ)، وتقول في مضارعها: (يَكْبَر) بفتحِ الباءِ،
_________
(١) في الأصل: فتغيص.
(٢) انظر: القرطبي (٦/ ٤١٧)، الدر المصون (٤/ ٦١٠).
(٣) انظر: الدر المصون (٤/ ٦٠٧)، ضياء السالك (٤/ ٥١ - ٥٢).
(٤) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
والتنظيميةِ، ويحذرُ كُلَّ الحذرِ من ضارِّها من الانحطاطِ الخلقيِّ، والتمردِ على نظامِ السماءِ، ومعصيةِ خالقِ هذا الكونِ؛ لأنَّ الإنسانَ في هذه الدنيا إذا فَقَدَ صلتَه بخالقِ السماءِ الذي فَتَحَ عَيْنَيْهِ، وجعلَ له فيها النورَ، وأبدعَه من غرائبِ صنعِه وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ، مَنْ خَسِرَ صلتَه بالله خَسِرَ كُلَّ شيءٍ، ولم يَبْقَ له في الدنيا شيءٌ، فَعَلَى المسلمين أن يحافظوا على تراثِهم الروحيِّ، وآدابِهم السماويةِ من طاعةِ خالقِ هذا الكونِ، في الوقتِ الذي هم فيه ينتفعونَ بالمادةِ والقوةِ.
ونحنُ نُبَيِّنُ لإخوانِنا مِرَارًا أن دينَ الإسلامِ يأمرُ بالمحافظةِ على التعاليمِ السماويةِ والآدابِ الروحيةِ، ويأمرُ بالتقدمِ الدنيويِّ في جميعِ الميادينِ، حتى ولو كان ذلك التقدمُ الدنيويُّ العقولُ الذي أَنْتَجَتْهُ: عقولُ كفرةٍ فجرةٍ، وكذلك كان سيدُ البشرِ، مُرَبِّي هذا الْخَلْقِ، ومبينُ الطريقِ له- نبينا - ﷺ - كان كذلك يفعلُ (١).
أنتم تعلمونَ في التاريخِ أنه لَمَّا حاصرَه الأحزابُ في غزوةِ الخندقِ ذلك الحصارَ العسكريَّ التاريخيَّ العظيمَ المنصوصَ في قولِه: ﴿إِذْ جَاؤُوكُم مِّنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: الآيتان ١٠، ١١] لَمَّا وَقَعَ هذا قال له سلمانُ الفارسيُّ (رضي الله عنه): كُنَّا إذا خِفْنَا خَنْدَقْنَا (٢). فالخندقُ خطةٌ عسكريةٌ، العقولُ التي ابْتَكَرَتْهَا عقولُ فارسَ، وهم مجوسٌ يعبدونَ النارَ، فالنبيُّ - ﷺ - لم يَقُلْ: هذه الخطةُ العسكريةُ نجسةٌ قذرةٌ؛ لأن
_________
(١) انظر: الأضواء (٤/ ٣٨٣).
(٢) تاريخ الطبري (٣/ ٤٤).
يقول: وهل يأثمن صاحب دين فيرتكب ما يخالف دينه وهو طائع؟ يقول هذا وهو كافر.
وقوله: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الأمم ﴿أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾ أي: جاء الوقت المعين المحدد لإهلاكهم هلكوا. كقوم نوح لمّا جاء الوقت المحدد لهم - المشار إليه بقوله: ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [هود: آية ٤٠]- أُهلكوا، وقوم هود لمّا جاء الوقت المحدد لإهلاكهم أرسل الله عليهم الرِّيحَ العقيم ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)﴾ [الذاريات: آية ٤٢] ﴿فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ [الحاقة: آية ٦] وكذلك قوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه، كل أمة من الأمم جاء الوقت المحدد لها وأراد الله إهلاكها أهلكها عند الوقت المعين؛ لأن قريشاً استعجلوا بالعذاب فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿مَا يَحْبِسُهُ﴾ [هود: آية ٨] ما يحبس العذاب؟ ﴿عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [ص: آية ١٦] وأصل (القِط) في لغة العرب: هو الصك الذي يكتب به الملك الجوائز للزائرين، لأنه يكتب أوراقاً كل واحدة فيها عطاء فلان، فتلك الورقة المكتوب فيها جائزة كل إنسان ممن زار الملك هي قِطُّه، وهو معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:

وَلاَ المَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيْتَهُ عَلَى مُلْكِه يُعْطِي القُطُوطَ وَيأْفِقُ (١)
ومعنى (يأفق): يفضل بعضاً على بعض في العطاء، فقوله: ﴿عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا﴾ أي: نصيبنا من العذاب الذي تزعم، فاستعجلوا بالعذاب، والله يقول ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ [الحج: آية ٤٧] وقد
_________
(١) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.
هو سخط رب العالمين، وغضبه والخوف من عقابه العاجل والآجل، فإذا أخذ الإنسان نفسه أخذًا حقًّا، وعَرَفَ أنَّ حَلاوَةَ المعاصي يضاف فيها السم القاتل الفتَّاك من سخط رب العالمين فلا بد أن يَنْدَمَ، والذي لا يندم إنما جاءه ذلك من أنه يحابي نفسه، وينجرف معها بالمعاصي، فلا يأخذها بالأسباب أخْذًا حقًّا، ولمَّا كان الندم أسبابه مُتَيَسَّرة ومن تعاطاها حقًّا حصل عليه، صار كأنه فعلٌ في طاقة المخلوق فكُلّف به.
وأما الإشكال الثاني: فهو في الإقلاع؛ لأن بعض الناس قد يتوب ويندم ولا يقدر على إكمال الإقلاع، كالذي بث بدعةً وعمل بها الناس في مشارق الأرض ومغاربها، والنبي يقول: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» (١) إذا تاب هذا الإنسان وبدعته متمادية يُعمل بها في مشارق الأرض ومغاربها، هل نقول: هو مقلع؛ لأنه فعل طاقته وما يقدر عليه؟ أو نقول: ركن التوبة هنا معدوم؛ لأن الإقلاع معدوم؛ لأن ذنبه متمادٍ جار في أقطار الدنيا؟! وكذلك الإنسان إذا رمى إنسانًا من بعيد بسهم أو رصاصة ثم بعد أن زايل السهم تاب ذلك الإنسان قبل أن يصل السهم إلى المرمى، هل نقول: هو تائب؛ لأنه فعل قدر طاقته؟ أو نقول: لا تقبل توبته؛ لأن الإقلاع ركن في التوبة، ولم يتحصَّل؛ لأن فساده متمادي، وسهمه رائحٌ إلى المسلم ليقتله؟ وكذلك من غصب - مثلاً - أرضًا عشرين كيلاً، ثم إنه ندم وخرج منها، هل هو في أثناء الخروج قبل أن ينفصل عن الأرض لو أدركه الموت نقول: أدركه الموت تائبًا؛ لأنه فعل قدر طاقته؟
_________
(١) مضى تخريجه عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأعراف.
المحقّقة في رواية ورش في جميع القرآن، وفي رواية قالون عنه في جميع القرآن إلا في حرفين من سورة الأحزاب فقط، وهما قوله: ﴿إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ﴾ [الأحزاب: الآية ٥٠] وقوله: ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ [الأحزاب: الآية ٥٣] فهذان الحرفان قرأهما عنه قالون كقراءة الجمهور، وقرأهما عنه ورش بالهمزة المحققة كغيرهما في سائر القرآن (١).
وقوله ﴿قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى﴾ قرأه عامّة السبعة غير أبي عمرو: ﴿قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى﴾ وقرأه أبو عمرو وحده من السبعة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسارَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً﴾ (٢) ومعنى الآية الكريمة: أن الله (جلّ وعلا) أمر نبيّه أن يقول لمن في أيدي المسلمين من أسارى بدر يقول لهم هذا الكلام.
(الأسارى) جمع أسير، و (الأسرى) جمع أسير، إلاّ أنّ (الأسير) يُجمع على (أسرى) قياساً مطّرداً، وقاعدة معروفة؛ لأن (الفَعِيل) المتّصف بما يُرثى له به يطرد جمعه تكسيراً على (فَعْلَى) (٣) كمريض ومرضى، وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، وصريع وصرعى، وأسير وأسرى (٤).
أما على قراءة ﴿أُسَارَى﴾ فهو جمعٌ مسموع، وإتيان الجموع على (فُعَالى) أو (فَعَالى) مسموع ولا يطرد منه شيء قياساً، ككسالى،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٢٣.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٣٦) من سورة الأنعام.
(٤) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٣٦) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon