ولا تقول: (يكبُر)، على القياسِ، ومنه بهذا المعنى قولُه تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ [النساء: آية ٦] لأنه هنا مضارعُ (كبِر) بكسرِ الباءِ، (يَكْبَر) بفتحِها على القياسِ، ومنه بهذا المعنى الأخيرِ قولُ مجنونِ بَنِي عامر (١):

تَعَشَّقْتُ لَيْلَى وَهْيَ ذَاتُ ذَوَائِبٍ وَلَمْ يَبْدُ لِلْعَيْنَيْنِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ
صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبُهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا إِلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ الْبُهْمُ
هذان معنى (كَبُرَ) و (كَبِرَ)؛ لأنهما معنيانِ مختلفانِ يتغيرُ المعنى بهما. وهذا معنى قولِه: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي
الأَرْضِ﴾
النفقُ: السَّرَبُ في داخلِ الأرضِ (٢)، وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (٣):
وَلاَ لَكُمَا مَنْجًى مِنَ الأَرْضِ فَابْغِيَا بِهَا نَفَقًا أَوْ فِي السَّمَوَاتِ سُلَّمَا
وَيُجْمَعُ النفقُ على أنفاقٍ، ومنه قولُ امرئِ القيسِ (٤):
خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلِّبِ
_________
(١) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة.
(٢) مضى قريبا.
(٣) البيت لكعب بن زهير. وهو في البحر المحيط (٤/ ١١٤)، الدر المصون (٤/ ٦١٠).
(٤) ديوان امرئ القيس ص (٣٦). وقبله:
ترى الفأر في مستنقع القاع لاحبا على جدَد الصحراء من شد مُلهبِ
والمعنى: خفاهن: أظهرهن، يعني الفئران. أنفاقهن: أجحارهن. الودق: المطر. فهو يقول: إن شدة وقع حوافر هذا الجواد على الأرض أوهم الفئران في أجحارهن بأنه وقع مطر شديد فتركت أنفاقها، وخرجت ناجية بأرواحها إلى مرتفعات الأرض.
العقولَ التي ابْتَكَرَتْهَا عقولُ كفرةٍ. لاَ، بل أخذَ الخطةَ الكافريةَ التي مبدؤها من الكفارِ، واستعانَ بها في دُنْيَاهُ، وهو مُرْضٍ رَبَّهُ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ، متمسكٌ بالآدابِ السماويةِ والتصفيةِ الروحيةِ.
وكذلك لَمَّا تَكَالَبَتْ عليه قُوَى الشَّرِّ، وَاضْطُرَّ إلى أن يخرجَ من وطنِه مُهَاجِرًا إلى هذه المدينةِ حَرَسَهَا اللَّهُ، والناسُ كُلُّهُمْ حربٌ عليه، واضطر إلى أن يدخلَ هو وصاحبُه الصِّدِّيقُ (رضي الله عنه) إلى أن يدخلاَ في غَارٍ خَوْفًا من المشركين، كما بينه اللَّهُ في سورةِ براءةِ: ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ﴾ [التوبة: آية ٤٠] وَجَدَ رجلاً كافرًا يُسَمَّى عبدَ اللَّهِ بنَ الأُريقط الدؤلي (١)، ولكنه عندَه خبرةٌ دنيويةٌ، فهو خبيرٌ دنيويٌّ كافرٌ، يعرفُ الطرقَ، والطرقُ المعهودةُ بينَ مكةَ والمدينةِ جعلَ الكفارَ عليها الرَّصَدَ والعيونَ، إذا سَلَكُوهَا أخذوا، فصارَ هذا الخبيرُ الكافرُ- عبدُ اللَّهُ بنُ الأُريقط الدؤليُّ- يعلمُ طُرُقًا غيرَ معهودةٍ. سَاحَلَ به إلى جهةِ البحرِ، وجاء به من طرقٍ غيرِ معهودةٍ، حتى أَوْصَلَهُ المدينةَ بسلامٍ (٢) [فلم يَمْنَعْهُ كفرُه من الانتفاعِ بخبرتِه الدنيويةِ] (٣).
على حَدِّ قولِهم: (اجْتَنِ الثمارَ، وَأَلْقِ الخشبةَ في النارِ). لم يمنعه من ذلك كونُه كافرًا، وهو فيما بينَه وبينَ رَبِّهِ مُرْضٍ رَبَّهُ، محافظٌ على الآدابِ السماويةِ، والتهذيبِ الروحيِّ على ضوءِ تعليمِ السماءِ.
_________
(١) هناك بعض الاختلاف في اسمه انظر: الفتح (٧/ ٢٣٧ - ٢٣٨).
(٢) انظر: البخاري، كتاب مناقب الأنصار باب: هجرة النبي - ﷺ - وأصحابه إلى المدينة. حديث رقم (٣٩٠٥)، (٧/ ٢٣٠).
(٣) وقع في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
جاء استعجالهم به في آيات كثيرة، فبين لهم في هذه الآية من سورة الأعراف أن الله إن أراد إهلاك أمة أو عذابها فلذلك وقت معين محدَّد عنده لا يتقدَّمه ولا يتأخره ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ﴾ المعين لإهلاكهم والقضاء عليهم ﴿لاَ يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عن ذلك الأجل ﴿سَاعَةً﴾ بل يهلكون عند وقت مجيء الأجل ولا يتقدمون عنه، ولا يمكن أن يهلكوا قبله ولا أن يتأخروا عنه؛ لأنها مواقيت معينة لا يسبقها ما عُيِّن لها ولا يتأخر عنها.
وقوله في هذه الآية الكريمة: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ﴾ قرأ هذا الحرف ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُم﴾ بتحقيق الهمزتين، وقرأه أبو عمرو، وقالون عن نافع، والبزِّي عن ابن كثير: ﴿فإذا جا أجلهم﴾ بإسقاط إحدى الهمزتين. والقرّاء مختلفون: هل الهمزة الساقطة هي الأولى أو الثانية؟ وقرأه ورش عن نافع، وقنبل عن ابن كثير: ﴿فإذا جاآجلهم﴾ [الأعراف: آية ٣٤] بإبدال الهمزة الثانية مدّاً للأولى (١).
وقوله: ﴿لاَ يَسْتَأْخِرُونَ﴾ قرأه عامة القراء: ﴿لاَ يَسْتَأْخِرُونَ﴾ بتحقيق الهمزة، إلا أن ورشاً قرأه عن نافع، والسوسي عن أبي عمرو: ﴿لا يستاخرون﴾ بإبدال الهمزة ألفاً (٢)، والكل قراءات صحيحة، ولغات عربية فصيحة.
ومعنى: ﴿لاَ يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عنه، أي: عن ذلك الأجل ﴿وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ أي: لا يتقدمون عنه.
_________
(١) انظر: النشر (١/ ٣٨٢ - ٣٨٣)، البدور الزاهرة ص٧٨، ص١١٤.
(٢) انظر: النشر (١/ ٣٩٠ - ٣٩٣)، البدور الزاهرة ص ١١٤.
أو نقول: لم تحصل توبته؛ لأن الإقلاع لم يكن؛ لأنه ما زال يشغل فراغًا مغصوبًا بجسمه استولى عليه بغير حقا شرعي؟.
والصحيح عن الأصوليين أن هذا الأخير تقبل توبته وإن كان الإقلاع لم يصح منه؛ لأنه عاجزٌ عنه، وقد جاء في توبته بما يستطيع، والله لا يكلف إلا بما يستطيعه عبده ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: آية ٢٨٦] وقد صحَّ عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» الحديث (١). وهذان السؤالان في التوبة. وهذا معنى قوله: ﴿ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ﴾.
﴿مِن بَعْدِهَا﴾ أي: السيئات، ﴿وَآمَنُواْ﴾ داموا على إيمانهم؛ أي: أخلصوا في إيمانهم وتوبتهم ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾ أي: التوبة ﴿لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أو ﴿مِن بَعْدِهَا﴾ أي: من بعد السيئات التي تاب العبد منها ﴿لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ كثير الغفران والرحمة لعباده.
﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ﴾ [الأعراف: آية ١٥٤] سكت عن موسى الغضب معناه: سكن غضبه وطفئ. لما طفئ غضبه وسكن، وفي بعض القراءات الشاذة: ﴿وَلَمَّا سَكَنَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ﴾ (٢) يعني: لما سكن غضبه وَطُفِئَ، وذلك باعتذار أخيه حتى عرف صدق عذره، وبتوبة الذين عبدوا العجل حتى قدموا أنفسهم للموت طائعين مَرْضَاةً لربهم.
﴿أَخَذَ الأَلْوَاحَ﴾ طرح الألواح مِنْ أَجْلِ الغَضَبِ، ولما سكن الغضب أخذها. و (أل) في الألواح عهدية، وظاهر هذه الآية أن
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٣٩٨)، الدر المصون (٥/ ٤٧١).
وأُسارى، ويتامى، وحيارى، وما جرى مجرى ذلك (١).
وقوله: ﴿قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم﴾ المراد بـ ﴿قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم﴾ من كانوا تحت أيديكم من الأسارى، وكل شيء كان في قبضة الإنسان وتحت قدرته وتصرّفِهِ تقول العرب: هو في يده؛ لأن اليد هي التي تُزَاوَلُ بِهَا الأعمال وتُؤخذ بها الأشياء عادة (٢).
والأيدي جمع (يد)، واليد من الألفاظ التي حَذَفَتِ العرب لامَهَا ولم تعوِّض منها شيئاً، وأعربتها على العين، فدال اليد في محل العين، وهي مُعربةٌ على عينها وهو الدال، نُزِّل منزلة لامها، وحذفت لامها، وتنوسيت، وهي إحدى ألفاظ معروفة كذلك، كيدٍ، ودَمٌ، وغذٍ، وددٍ، وهنٍ، وما جرى مجرى ذلك (٣). وأصل لامها المحذوفة ياء، أصلها (يدي) فاؤها ياء، وعينها دال، ولامها ياء. ولامها المحذوفة إنما تُرَدّ عند التصغير وجمع التكسير، ففي تصغيرها تقول: (يُدَيَّه) وفي جمعها تقول: فاقطعوا أيديهما. وأصله: (أيْدُيهما) على وزن (أفعُل) لأن الأيدي أصل وزنه (أفعُل) (فَعَل) محذوف اللام مجموعٌ على (أفعُل) إلاّ أن ضمة العين تجعل كسرة لمجانسة الياء، وربما نطقت العرب باليد مثبتة لامها إثبات المقصور على الألف كالفتى. سُمع هذا عنهم قليلاً، ومنه قول الراجز (٤):
يا رُبَّ سَارٍ باتَ ما تَوَسَّدَا إلا ذِرَاعَ العِيسِ أَوْ كَفَّ الْيَدَا
فردّ اللام كما هي في (الفتى) وهذا نادر.
_________
(١) انظر: حجة القراءات ٣١٤، الدر المصون (٥/ ٦٣٧).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنفال.
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٩٥) من سورة الأعراف.
(٤) السابق.


الصفحة التالية
Icon