ثم قال لِنَبِيِّهِ - ﷺ -: ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام: آية ٣٥] والجاهلونَ: جمعُ الجاهلِ، فهو اسمُ فاعلِ الجهلِ، وكلامُ العلماءِ في (الجهلِ) وفي تفسيرِه معروفٌ (١)، أشهرُ تفسيراتِه: أن الجهلَ عَدَمِيٌّ، وأن المرادَ به عدمُ العلمِ بما مِنْ شَأْنِهِ أن يُعلم.
وهذه الآيةُ وأمثالُها في القرآنِ يخاطبُ اللَّهُ بها نَبِيَّهُ - ﷺ - لِيُشَرِّعَ على لسانِه لِخَلْقِهِ؛ لأن النبيَّ - ﷺ - مُشَرِّعٌ، يخاطبُه اللَّهُ خطابَ السيدِ لعبدِه؛ لِيُشَرِّعَ على لسانِه لِخَلْقِهِ.
[١/ب] ثم إن اللَّهَ بَيَّنَ لنبيِه - ﷺ - أن عدمَ هُدَاهُمْ الذي كان يُحْزِنُهُ وَيُؤْسِفُهُ / أنه لا يهتدي إلا مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ قابلاً لذلك الْهُدَى، لا مَنْ أَضَلُّهُ اللَّهُ وأماتَ قلبَه - والعياذُ بالله - ولذا قال بعدَ هذا: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأنعام: آية ٣٦] أي: لا يُجِيبُكَ إلى ما تطلبُ وتدعو من الْهُدَى، إلا الذين يَسْمَعُونَ، أي: جَعَلَ اللَّهُ لهم سماعَ حقٍّ وَتَفَهُّمٍ يسمعونَ به عن اللَّهِ، أما الذين [أَعْمَى] (٢) اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ، وَخَتَمَ على آذانِهم فلا يجيبونك أبدًا، فلا تَحْزَنْ عليهم، فليسَ فيهم حِيلَةٌ؛ لأن رَبَّهُمْ قضى عليهم بالشقاءِ الأَزَلِيِّ؛ ولذا قال هنا: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ﴾ أي: يستجيبُ لكَ، وَيُجِيبُكَ فيما تدعوه إليه من الإسلامِ ﴿الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ سماعَ تَفَهُّمٍ بأن وَفّقَهُمُ اللَّهُ، وأعطاهم سماعَ تَفَهُّمٍ يفهمون به ويقبلونَ، أما الذين لم يُعْطِهِمُ اللَّهُ سماعَ تَفَهُّمٍ فهم صُمّ وإن كانوا يسمعونَ، كما قال تعالى في المنافقين: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: آية ١٨] صرح بأنهم (صُمٌّ) وأنهم (بُكْمٌ) وأنهم (عُمْيٌ)، ومع ذا يقولُ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٦٧) من سورة البقرة.
(٢) في الأصل: أصم.
﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)﴾ [الأنعام: آية ١١٦ - ١٢٠].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦)﴾ [الأنعام: آية ١١٦].
أخبرَ اللَّهُ في هذه الآيةِ الكريمةِ نَبِيَّهُ - ﷺ - ليبينَ على لسانِه لأُمَّتِهِ أن مَنْ أَطَاعَ أكثرَ الناسِ أَضَلُّوهُ عن سبيلِ اللَّهِ، وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على أن أكثرَ الخلقِ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ، وهو كذلك، كما جاء مُبَيَّنًا في أحاديثَ كثيرةٍ صحيحةٍ، وآياتٍ من كتابِ اللَّهِ (١)، فَمِنَ الآياتِ الدالةِ على ذلك قولُه: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٧)﴾ [هود: آية ١٧] ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)﴾ [هود: آية ١٠٣] ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)﴾ [الصافات: آية ٧١] ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (٨)﴾ [الشعراء: آية ٨] وقد ثَبَتَ في الصحيحين عن النبيِّ - ﷺ - أن نصيبَ الجنةِ من الناسِ وَاحِدٌ من الأَلْفِ، وأن نصيبَ النارِ تسعةٌ وتسعونَ وتسعمائة. هذا ثابتٌ في الصحيحين عن
_________
(١) انظر: أضواء البيان (٢/ ٢٠٨).
سورة الأنعام في الكلام على قوله: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (٩)﴾ [الأنعام: آية ٩] فَكَوْن الرُّسُل إلى بني آدم من جنسهم ومن نوعهم يسهِّل عليهم الأخذ منه، وتسهل عليهم معاشرتهم وصحبتهم والاهتداء بهديهم هو مِنْ نِعَمِ اللهِ -تعالى- عليهم، مع أنّ كون الرسل منهم هي شبهة أضلهم الله بها. كل قوم إذا جاءهم رسول منهم يقولون: كيف تكون رسولاً وأنت من جلدتنا، وتشرب كما نشرب، وتأكل كما نأكل، وتروح للسوق تشتري حاجتك، مثل هذا لا يكون له فضل علينا، وهذا كثيرٌ في القرآن، وبيّن الله في سورة بني إسرائيل أنه سبب مانع من إيمانهم جميعاً حيث قال في سورة بني إسرائيل: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: آية ٩٤] فجعلوا بعثة البشر من المحال، وقالوا: ﴿أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: آية ٢٤] ﴿مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ [يس: آية ١٥] ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾ [المؤمنون: آية ٣٤] ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: آية ٧] وقد بيّن لهم الله أن جميع الرسل من جنس الناس الذين يرسلون إليهم، كقوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً﴾ [الرعد: آية ٣٨] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [يوسف: آية ١٠٩] وهذه من نعم الله علينا.
حتى يروا الله، فأخذتهم الصاعقة، وتلك الصاعقة هي التي أرجفتهم، وقال هنا: ﴿أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ [الأعراف: آية ١٥٥].
وقال بعض العلماء: هؤلاء الطائفة لم يفعلوا ذنبًا لكنهم لما ذهبوا مع موسى وسمعوا كلام الله داخلتهم هيبة شديدة وخوف عظيم حتى كادت مفاصلهم يبين بعضها من بعض. وهذا القول لا يتجه؛ لأنه يقول: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء﴾ وهذا يدل على أن هنالك بعض الشيء.
وقال بعض العلماء: إن الله لما أمر موسى أن يأتي الميقات بسبعين، اختار السبعين وهم في نظره أفضل بني إسرائيل، وما كان يظن أنهم قد عبدوا العجل مع من عبده، وهم قد عبدوه، وموسى لا يدري عن ذلك، فلما جاءوا الميقات جاءتهم الرجفة والهزة العنيفة بسبب عبادة العجل.
وقال بعض العلماء: لم يعبدوا العجل ولكنهم داهنوا من عبَدَه فلم يزجروه زجرًا قويًّا، فجاءتهم الرجفة لعدم زَجْرِهِمْ كَمَا يَنْبَغِي.
هذه أقوال المفسرين، وفيها غير هذا، ولا شيء يقوم عليه الدليل القاطع منها، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ الهزة الشديدة، سواء قلنا إنها بسبب قولهم: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] أو بسبب أنهم عبدوا العجل، أو أنهم لم ينهوا مَنْ عَبَدَ العِجْلَ، أو غير ذلك من الأسباب، ضاق الأمر بموسى، وعلم أنهم إن ماتوا وقعت بنو إسرائيل في بليةٍ لا مخرج منها؛ لأنه لو ماتت تلك
يعطكم خيراً، أي: مالاً في الدنيا، وثواباً في الآخرة خيراً ﴿خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ﴾ أي: أفضل وأعظم مما أُخذ منكم.
والعرب استغنت بـ (خير) و (شر) عن (أخير وأشر)، فهما صيغتا تفضيل، والأخيرة منهما صيغة تفضيل، وقد قال ابن مالك في كافيته (١):

وَغَالِباً أغْنَاهُمُ خَيْرٌ وَشَرّ عن قولهم أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرّ
فالأخيرة هنا تفضيل أي: يؤتكم أخير وأفضل، أي: أكثر خيراً وأعظم منه، وذلك كما وقع في مال البحرين أعطى العباس أكثر بأضعاف مما أُخذ منه يوم بدر من الفداء، وأعطاه عشرين عبداً. وقال العباس: وأعطاني الله زمزم أيضاً ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، فَعَوَّضَهُ اللهُ مِئَات الأضْعَاف على ما أخذ منه يوم بدر. وهذا معنى قوله: ﴿إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ﴾ أي: مما أخذه المسلمون منكم كالعشرين أوقية التي أُخِذَتْ مِنَ العَبَّاسِ، وما أُخذ في فِدَائِهِمْ من المال. وحذف الفاعل هنا للعلم به ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ أي: يغفر لكم ذنوبكم. حذف فاعل (أُخذ) ومفعول (يغفر) والمعنى: يعطيكم خيراً مما أخذه منكم المسلمون يوم بدر، ويغفر لكم ذنوبكم كلها، وشرككم المتقدم وكفركم بالله. وهذا معنى قوله: ﴿يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي: كثير المغفرة والرحمة لعباده المؤمنين، ولاسيما إذا علم في قلوبهم الإيمان والإخلاص له (جل وعلا). وهذا معنى قوله: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon