وقولُه: ﴿لَوْلاَ﴾ أي: هلاَّ ﴿أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ﴾.
وقوله: ﴿مِّن رَّبِّهِ﴾ يَعْنُونَ: يكونُ مبدأُ إنزالِها وابتداؤُه من رَبِّهِ، ينزلُ عليه آيةٌ لا لَبْسَ في الحقِّ مَعَهَا، كَعَصَا مُوسَى، وناقةِ صالحٍ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك. فَاللَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أن يقولَ، قُلْ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً﴾. ثم قال: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ فقولُه: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ يَدُلُّ على أن طلبَهم للآيةِ بأداةِ التحضيضِ التي هي ﴿لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ﴾ أنه نَشَأَ عن جَهْلٍ لاَ عن عِلْمٍ، ولو كانوا عَالِمِينَ لَمَا تَعَنَّتُوا، وَلَمَا اقْتَرَحُوا هذا الاقتراحَ، وذلك مِنْ أَوْجُهٍ (١):
منها أن اللَّهَ (جل وعلا) أَجْرَى العادةَ بأن القومَ إذا اقْتَرَحُوا آيةً وأنزلها اللَّهُ لهم وَكَفَرُوا بعدَ ذلك أن اللَّهَ يُهْلِكُهُمْ هلاكَ الاستئصالِ، كما يأتي في قولِه: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: آية ٥٩] أي: وهي الآيةُ التي اقْتَرَحُوهَا فَكَفَرُوا بها، فكان ذلك سببَ هلاكٍ مُسْتَأْصِلٍ، وتدميرٍ عَامٍّ أهلكهم اللَّهُ به، وَجَعَلَهُمْ أَثَرًا بعدَ عَيْنٍ. فقد يقترحون آيةً، ويأتيهم اللَّهُ بها، فَيَكْفُرُونَ بها فَيَمْحَقُهُمْ كما مَحَقَ ثَمُودَ، كما أشارَ له بقولِه: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ﴾ [الإسراء: آية ٥٩] اقْتَرَحُوهَا عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، فلما أُتُوا بها كفروا بها، فكانت سببًا لهلاكٍ مُسْتَأْصِلْ.
وقد ذَكَرُوا في بعضِ المواضعِ من القرآنِ أن الكفارَ قالوا للنبيِّ: «سَلْ رَبَّكَ يَجْعَلْ لنا الصَّفَا ذَهَبًا». وتعنتوا بأمورٍ كثيرةٍ، وأنه جاءَه التخييرُ من رَبِّهِ إن شَاءَ فَعَلَ لهم ما اقْتَرَحُوا، وإن كَفَرُوا
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ١٩٠).

بِأَنْ تَغْتَزُوا قَوْمِي وَأَقْعُدَ فِيكُمُ وَأَجْعَلَ مِنِّي الظَّنَّ غَيْبًا مُرَجَّمَا
يعني: أجعل مني اليقين غَيْبًا مُرَجَّمًا.
ومن إطلاقِ (الظنِّ) في كلامِ العربِ بمعنَى (الشكِّ) قولُ طَرَفَةَ بنِ العبدِ (١):
وأعْلَمُ عِلْمًا لَيْسَ بِالظَّنِّ أَنَّهُ إِذَا ذَلَّ مَوْلَى الْمَرْءِ فَهْوَ ذَلِيلُ
فقولُه: «ليس بالظنِّ»: ليس بالشكِّ. هذه إطلاقاتُ (الظنِّ) في القرآنِ وفي لغةِ العربِ، والمرادُ بالظنِّ في الآيةِ: الشكُّ. والمعنَى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ﴾ [الأنعام: آية ١١٦] أي: ما يَتَّبِعُونَ إلا الشكَّ حيث قَلَّدُوا آباءَهم في أَمْرِ جهلٍ لا يعلمونَ حقيقتَه: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ يكذبون؛ لأن الخرصَ الحَزْرُ والتخمينُ من غيرِ معرفةِ الحقيقةِ، ومن هنا أُطْلِقَ على الكذبِ (٢)، كقولِه: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠)﴾ [الذاريات: آية ١٠] أي: لُعِنَ الكَذَّابون. وقولُه هنا: ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: آية ١١٦] أي: مَا هُمْ إلا يكذبونَ في قولِهم: إِنَّ الميتةَ حلالٌ؛ لأنها ذبيحةُ اللَّهِ، وفي ادعائِهم الشركاءَ والأولادَ لِلَّهِ - سبحانَه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا- ﴿وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ﴾ [يونس: آية ٦٦] أي: لاَ يتبعونَ شركاءَ في نفسِ الأمرِ، ولا في الحقِّ، إن يتبعونَ إلا ظَنًّا.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)﴾ [الأنعام: آية ١١٧] لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ أن أكثرَ أهلِ الأرضِ ضَالُّونَ
_________
(١) ديوانه ص٨٤، اللسان (مادة: حظرب)، (١/ ٦٦٦).
(٢) انظر: المفردات (مادة: خرص) ص ٢٧٩.
تَكَبَّرُوا عن العمل بها كأبي جهل وأبي لهب وأمثالهم من هذه الأمة والأمم السابقة ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [الأعراف: آية ٣٦].
﴿أُوْلَئِكَ﴾ أشار لهم إشارة البعيد؛ لأنهم بُعداء بُغضاء ينبغي أن يتباعد منهم، ومن الاقتداء بهم، ومن الاتصاف بصفاتهم.
وسمّاهم ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ لأن العرب كثيراً ما تطلق المصاحبة على الاجتماع الطويل. والمراد بالنار - والعياذ بالله - نار الآخرة، وهي أَحَرُّ من نار الدنيا بسبعين ضعفاً - نعوذ بالله - تَنْمَاع من حرِّها الجبال، وحرُّها لا يُقَادَر قدره.
وأصل الألف التي بين النون والراء أصلها واو. أصل النار (نَوَر) بدليل أن التضعيف الذي يردُّ العين إلى أصلها يبين ذلك، تقول: (تنَوَّرتُ) إذا نظرت النار من بعيد، فلو كانت يائية العين لقيل فيها: (تَنَيَّرْتُ) فلما قالوا: (تنورت) علمنا أن أصل الألف التي في محل العين واو، ومنه تصغير العرب لها على (نُويرة) فلو كانت يائية العين لقالوا: «نُييرة» (١) ومما يدلُّ عليه قوله (٢):
تَنَوَّرتُهَا مِنْ أَذْرعَاتٍ وَأَهْلِهَا بِيَثْرِبَ أَدْنى دَارِهَا نَظَرٌ عِالي
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
ورَجَعَ، وهذا هو المعنى المشهور الصحيح في هذه الآية ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ أي: تُبْنَا ورَجَعْنَا إليك. وهذا كالتعليل لما قبله؛ لأن التوبة والإنابة والرجوع إليه من الأسباب التي يكتب الله بها حسنة الدنيا وحسنة الآخرة العرب تقول: هد أيها الرجل. تُبْ إلى الله من ذنوبك وارجع، وهاد: أي: تاب. والهُود: جمع هائد وهو التائب. وقد قال بعضهم (١):
يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ هُدْ هُدْ واسْجُدْ كَأَنَّكَ هُدْهُد
معنى: ﴿هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ أي: تبنا ورجعنا منيبين إليك.
قال الله جل وعلا: ﴿عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء﴾ قرأ هذا الحرف جماهير القراء:... ﴿عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء﴾ بإسكان ياء المتكلم. وقرأه نافع: ﴿عَذَابيَ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ﴾ وهما لغتان فصيحتان وقراءتان صحيحتان (٢).
﴿عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ﴾ أعذب به وأهين به ﴿مَنْ أَشَاء﴾ أي: من أشاء إهانته به. والقراءة الصحيحة التي قرأ بها الجمهور: ﴿مَنْ أَشَاء﴾ بالشين المعجمة المثلثة وضم الهمزة.
أما القراءة التي تُذكر عن الحسن وغيره أنه قرأ: «قال عذابي أصيب به من أساء ورحمتي وسعت كل شيء» (٣) فهي قراءة شاذة لا تجوز القراءة بها. ومعلوم أن أهل الأهواء والبدع من قدرية وغيرهم يستدلون بتلك القراءة: «أصيب به من أساء» يستدلون بها
_________
(١) تقدم عند تفسير الآية (١٤٦) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٩.
(٣) انظر: البحر المحيط (٤/ ٤٠٢)، الدر المصون (٥/ ٤٧٧).
مُطَّلِعٌ عَلَى ما يسره خلقه، ومع هذا فإنَّهم لا حياء عندهم ولا ماء في وجوههم، لا يستحون ممن خَلَقَهُمْ (جل وعلا) وهو معهم أيْنَمَا كانوا، مراقب على خطرات قلوبهم وجميع أعمالهم. فعلى العاقل أن يَنْتَبِهَ لهذه الآيات، ويعلم أن ربَّهُ حَكِيم عليم، يعلم خائِنَةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصُّدُور. ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)﴾ [ق: الآية ١٦] فيعلم أَنَّ رَبَّهُ نَاظِر إليه مطلع عليه، فلا يفعل أمام ربه إلا ما يرضي ربه (جل وعلا)، أما أن يُبَارِزَ رَبَّهُ بالمَعَاصِي بوجه لا حياء فيه ولا ماء فهذا مما لا ينبغي؛ ولذا يقول (جل وعلا) بعد كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْي: ﴿عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ ﴿خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ﴿بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ إلى غير ذلك من الآيات التي بمعناها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)﴾ [الأنفال: الآية ٧٢].
قرأ هذا الحرف عامة القراء غير حمزة وحده: ﴿مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم﴾ بفتح الواو، وقرأه من السبعة حمزة وحده: ﴿ما لكم من وِلايتِهِم مِن شَيْء﴾ بكسر الواو (١). والتحقيق أن الوَلاية والوِلاية معنيان صحيحان، ولغتان فصيحتان، وقراءتان سَبْعِيَّتَانِ، فما يذكر عن الأصمعي من أنه يقول: «إن قراءة حمزة خطأ». هو الذي أخطأ فيه (٢)، أما قراءة حمزة فهي قراءة صحيحة، ولغة معروفة فصيحة،
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٢٤.
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٦٤٠).


الصفحة التالية
Icon