أَهْلَكَهُمْ، وإن شاءَ تَرَكَهُمْ، وَهَدَى مَنْ يَهْدِي منهم وَمِنْ أَصْلاَبِهِمْ؛ وَلِذَا قال: ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً﴾.
وَاعْلَمُوا أن اللَّهَ تباركَ وتعالى أنزلَ على عبدِه آياتٍ ومعجزاتٍ عظيمةً، لا لَبْسَ في الحقِّ مَعَهَا، فلو كان طَلَبُهُمْ للآيةِ طلبَ مُسْتَرْشِدٍ يريدُ الْهُدَى غير مُتَعَنِّتٍ لأَعْطَاهُمُ الآيةَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ من الآياتِ ما لاَ يَبْقَى في الحقِّ معه لَبْسٌ، فَتَرَكُوهُ وسألوا ذلك عِنَادًا.
وأعظمُ الآياتِ وأكبرُ المعجزاتِ هو هذا القرآنُ العظيمُ الذي تَحَدَّاهُمُ اللَّهُ به، وكان عَجْزُ الخلقِ عن مُعَارَضَتِهِ أكبرَ آيةٍ عُظْمَى؛ وَلِذَا أنكرَ اللَّهُ على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بمعجزةِ القرآنِ وَطَلَبَ آيةً غيرَها حيث قال مُنْكِرًا عليه: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: آية ٥١] فقوله: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ﴾ صيغةُ إنكارٍ، يُنْكِرُ اللَّهُ به على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بهذا القرآنِ، لأنه آيةٌ أعظمُ آيةٍ.
وَمِمَّا امْتَازَتْ به عنِ الآياتِ: أن آياتِ الرسلِ ومعجزاتِهم تَنْقَضِي، وتكونُ أخبارًا لا وجودَ لها في العيانِ، وآيتُه - ﷺ - الكبرى وهي هذا القرآنُ العظيمُ باقيةٌ تَتَرَدَّدُ في آذانِ الناسِ إلى يومِ القيامةِ؛ ولذلك أشارَ النبيُّ - ﷺ - في الحديثِ الصحيحِ [إلى] (١) حَصْرِ معجزاتِه في هذا القرآنِ، وإن كانت معجزاتُه كثيرةً لا تُحْصَرُ لكثرتِها، حيث قال في الحديثِ الصحيحِ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إِلاَّ أُوتِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (٢) ولذا قال هنا لَمَّا اقترحوا هذه
_________
(١) زيادة يقتضيها السياق.
(٢) أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول
مُضِلُّونَ، وأنه إن أَطَاعَهُمْ أَضَلُّوهُ بَيَّنَ أنه (جل وعلا) عَالِمٌ بمن سبقَ له الضلالُ في الأزلِ، وَمَنْ سَبَقَ له الْهُدَى في الأزلِ، فَيُيَسِّرُ كُلاًّ منهما لِمَا خَلَقَهُ له؛ لأن أصحابَ النبيِّ - ﷺ - لَمَّا سألوه وقالوا: هذه الأعمالُ التي نَسْعَى لها وجزاؤُها وما نصيرُ إليه، هَلْ هو أمرٌ مُؤتَنَفٌ، أو أمر قُضِيَ وَكُتِبَ وَفُرِغَ منه؟ فَلَمَّا بَيَّنَ لهم أن اللَّهَ قَدَّرَ ما سَيَكُونُ، قالوا: أَفَلاَ نَتَّكِلُ على الكتابِ السابقِ، ونتركُ العملَ؟ فَمَنْ قَدَّر اللَّهُ له الجنةَ لابدَّ أن يدخلَها، وَمَنْ قَدَّرَ له النارَ لابدَّ أن يدخلَها؟ فَأَخْبَرَهُمْ - ﷺ - أن كُلاًّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له (١). فهو يخلقُ الخلقَ وَيَجْبُلُهُمْ على ما يشاءُ، مِنْ خُبْثٍ وطِيبٍ ثم يُيَسِّرُ كلاًّ لِمَا خَلَقَهُ له: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُم مُّؤْمِنٌ﴾ [التغابن: آية ٢] ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: آية ٧] ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: آية ١٠٥] فهو (جل وعلا) يخلقُ الناسَ وَيُيَسِّرُ كُلاًّ لِمَا خلقه له من خيرٍ أو شَرٍّ: ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: آية ١١٧] الذي سَبَقَ له الْهُدَى في الأزلِ فَيُيَسِّرُهُ لِلْهُدَى.
وأعلمُ بالمعتدِي الضالِّ الذي سَبَقَ له الضلالُ في الأزلِ فييسره لِلْعُسْرَى - والعياذُ باللَّهِ- كما قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠)﴾ [الليل: الآيات ٥ - ١٠] وَلِذَا قال هنا: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)﴾ (أعلم) هنا ليست في معنَى صيغةِ التفضيلِ، بل هي هنا بمعنَى الوصفِ (٢)؛ لأن صيغةَ التفضيلِ لابدَّ أَنْ يشتركَ فيها المُفَضَّلُ والمُفَضَّلُ عليه في نفسِ المصدرِ، ثم يكونُ المُفَضَّلُ أكثرَ فيه من المُفَضَّلِ عليه (٣)، فإذا قلتَ: «زَيْدٌ أعلمُ
_________
(١) مضى تخريجه عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ١٢٦).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من هذه السورة.
فَتَنَوَّرْتُ نَارُهَا مِنْ بَعِيدٍ... بخزَازَى، هيهات منك الصَّلاءُ (١)
قال بعض العلماء: والنار من قولهم: (نَارَت الظبية): إذا ارْتَفعت جافلة؛ لأن طبيعتها الخفة والطيش والارتفاع أعاذنا الله والمسلمين منها (٢).
﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أصل الخلود في لغة العرب: المكث زماناً طويلاً، ومنه قول لبيد (٣):
............................... صُمّاً خَوَالِدُ مَا يُبِينُ كَلامُهَا
يعني: أثافي القدر، أنها مكثت في محله من الديار زمناً طويلاً. والمراد بالخلود هنا على التحقيق: الخلود السرمدي الأبدي الذي لا انقضاء له أبداً. فأهل النار الكفار خالدون فيها أبداً.
وما روي عن بعض السلف من الصحابة فمن بعدهم أن النار تفنى، وتخفق أبوابها ليس فيها أحد، وأنها ينبت في محلها الجرجير (٤) فإن ذلك يجب حمله كما جزم به الشيخ البغوي... - وهو صادق - على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين (٥)، لأن عصاة
_________
(١) البيت للحارث بن حلِّزة، وهو في اللسان (مادة: نور) (٣/ ٧٤٠)، وقوله: (بخزازَى) جبل بين منْعج وعاقل.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
(٣) شرح القصائد المشهورات (١/ ١٣٥)، وصدره:
فوقفت أسألها وكيف سؤالُنا.............................................
(٤) انظر: التذكرة للقرطبي ص٤٣٧.
(٥) وانظر: تفسير البغوي (٢/ ٤٠٣) وراجع ما مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
لشيء من مذاهبهم، ولما كانت قراءةً شاذةً لا تجوز القراءة بها فلا معول عليها ولا طائل لما أخذوه منها واستدلوا به لمذاهبهم الباطلة.
وقوله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ الرحمة صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الله اشْتَقَّ مِنْهَا لِنَفْسِه اسمه (الرحمن) واسمه (الرحيم)، وهي على التحقيق من صفات المعاني القَائِمَة بذاته (جل وعلا)، وكثيرٌ من المتكلمين الذين يُؤَوِّلون صفات الله ويحملونها أولاً على محامل غير طيبة ثم يُلْجِئُهم ذلك إلى تأويلها يزعمون أنها صفة فعل. وذلك ليس بحق، والحق أنها صفة ذات من صفات المعاني القائمة بذات الله، ولا تُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ المخْلُوقِين، ليس فيها رقة مخلوقية، ولا انعطاف مخلوقي، لا وكلاّ، بل هي صفة كمال وجلال لائقة برب العالمين، منزهةٌ كل التنزيه، مقدسةٌ كل التقدير، لم تشبه شيئًا من صفات الخلق.
وقوله: ﴿وَسِعَتْ كُلَّ شيء﴾ رحمة الله واسعةٌ لا تضيق عن شيء، فهي تسع كل شيء كائنًا ما كان. و (الشيء) عند أهل السنة والجماعة يُطلق على الموجود، ولا يُطلق على المعدوم (١)، فكل موجود يُطلق عليه اسم (الشيء) عند أهل السنة والجماعة، ولا يُطلق (الشيء) على [المعدوم] (٢). وجاز إطلاقه على الله كما قال تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: آية ٨٨] وقال: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: آية ١٩]، ولا يطلق على المعدوم بدليل أنّ الله صرح بأن المعدوم ليس بشيء كقوله:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩٦) من سورة الأنعام.
(٢) في الأصل: «الموجود» وهو سبق لسان.
فالوَلاية والوِلاية كالدَّلالة والدِّلالة، فهما لغتان عَرَبِيَّتَانِ وقِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ فَصِيحَتَانِ.
وكان المسلمون في أول الإسلام يَتَوَارَثُونَ بالهِجْرَةِ والمؤاخاة دون القرابات؛ لأن النبي ﷺ لما نزل المهاجرون بالأنصار والمهاجرون فقراء آخَى بَيْنَ المُهَاجرين والأنصار، فصاروا يتوارثون بتلك الأخوة دون القرابات، فإذا مات واحد منهم ورثه أخوه الذي آخى النبي ﷺ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ دون قرابته، وكان الذين لم يهاجروا لا إِرْثَ لهم في إِخْوَانهم الذين هاجروا؛ لأنها كانت بالهجرة والمؤاخاة، ونسخ الله -تعالى- ذلك بقوله: ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: الآية ٧٥] كما سيأتي إيضاحه.
ومعنى الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ هذه أولاً في المهاجرين، الله (جل وعلا) كأنه قَسَّمَ المؤْمِنِينَ طَوَائِف، طائفة هم المهاجرون ذكرهم بقوله: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ﴾ آمَنُوا بِاللهِ ورسوله وهاجروا أوطانهم وديارهم وأموالهم في سبيل الله (جل وعلا) وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم؛ لأنهم جعلوا أموالهم في مؤن الجهاد من شراء السلاح، والمراكب للقتال، ومؤن القتال، وجاهدوا بأنفسهم حيث عرّضوها للموت وللخطر في الجهاد، كل هذا في سبيل الله ﴿إِنَّ الذّينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ﴾ الهِجْرَة كانت هجرة متعددة متنوعة أولها الهجرة إلى الحبشة -وقد هاجروا إلى الحبشة مرتين- ثم الهجرة إلى المدينة، وكانت الهجرة إلى المدينة واجبة، وكان الذي أسلم ولم يهاجر كالذي يسلم ويبقى في البَوَادِي مِنَ الأعراب لا يرث من أخيه المسلم المهاجر شيئاً، وكان الذين أسلموا ولم يهاجروا لا نصيب لهم فِي الغَنَائِمِ، ولا في الخمُس، ولا في


الصفحة التالية
Icon