كانت حلقةُ الدرسِ تُفْتَتَحُ بآيٍ من السورةِ المقصودِ تفسيرُها، يَتْلُوهَا أحدُ التلاميذِ - وهي بمعدلِ خمسِ آياتٍ تقريبًا - فإذا فَرَغَ القارئُ شَرَعَ الشيخُ في التفسيرِ مُبْتَدِئًا بالمناسبةِ بَيْنَ الآيةِ وما قَبْلَهَا في بعضِ الأحيانِ، ثُمَّ يَعْرِضُ للمفرداتِ اللغويةِ بحيثُ يَعْرِضُ معانيها واشتقاقاتِها وَكُلَّ ما يتصلُ بها مِنْ قريبٍ أو بعيدٍ، مُسْتَعِينًا على ذلك بِمَا لا يُحْصَى من شواهدِ اللغةِ (١)، وَمِنْ ثَمَّ يتناولُ العلائقَ التركيبيةَ بين المفرداتِ، فيعرضُ لضروبِ القراءاتِ الواردةِ فيها مع عَزْوِهَا وَتَوْجِيهِهَا، كما يَذْكُرُ وجوهَ الإعرابِ وما تُقَرِّرُهُ من المدلولاتِ، فإذا انْتَهَى من ذلك صرفَ الأذهانَ إلى الاستنباطِ الفقهيِّ، مع ذِكْرِ الخلافِ والأدلةِ والترجيحِ، مستعينًا على ذلك بِكُلِّ ما يتطلبُه المقامُ من علومِ اللسانِ، والبيانِ، والأصولِ، والناسخِ والمنسوخِ، وأسبابِ النزولِ، وما يتصلُ بذلك من العمومِ والخصوصِ والإطلاقِ والتقييدِ، ولا يَفُوتُهُ أن يربطَ بعضَ المعانِي ببعضِ الوقائعِ الْمُشَابِهَةِ على صورةٍ تُثْرِي المعرفةَ، وَتُعَمِّقُ أسبابَ الإقناعِ.
وإذا كان المضمونُ قَصَصِيًّا عَمَدَ إلى عناصرِ القصةِ فاستخرجَ عِبَرَهَا، وَكَشَفَ نُذُرَهَا، وقاسَ ما فيها من صورِ الماضي على ما يُعَايِشُهُ الناسُ من أحداثِ الحاضرِ (٢)، فكان كثيرَ الربطِ بين هذا
هَبْ أن السنبلةَ وُجِدَتْ، مَنْ هو الذي يَقْدِرُ أن يخرجَ حَبَّهَا وَيُنَمِّيَهُ، وينقلَه من طَورٍ إلى طَورٍ حتى يصيرَ صَالِحًا مُدْرِكًا نافعًا للأَكْلِ؟
كما يُنَبِّهُنَا اللَّهُ على هذا في هذه الآيةِ التي نَحْنُ عندَها في قولِه: ﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)﴾ [الأنعام: آية ٩٩]، انْظُرُوا الثمرَ عندما يَبْدُو، وَانْظُرُوهُ عندما يُدْرِكُ نَاضِجًا صَالِحًا للأكلِ، تعلمونَ أن الذي نَقَلَهُ منذ تلك الحالِ الأُولَى إلى حالةِ الانتفاعِ هذه، أنه رَبٌّ قادرٌ عظيمٌ، هو الخالقُ وحدَه، المعبودُ وحدَه (جل وعلا)؛ وَلِذَا قال جل وعلا: ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: آية ٩٩]، الباءُ: سَبَبِيَّةٌ، واللَّهُ (جل وعلا) يُسَبِّبُ ما شاء على ما شاءَ من الأسبابِ، ولو شاءَ أن تنخرمَ الأسبابُ لاَنْخَرَمَتْ، فهو (جل وعلا) يفعلُ كيفَ يشاءُ، ويسببُ ما شَاءَ مِنَ المُسَبَّباتِ، على ما شاء من الأسبابِ، ويبينُ لنا في كتابِه غرائبَ وعجائبَ وَعِبَرًا نعلمُ بها أنه لاَ تأثيرَ إلا لِلَّهِ وحدَه، وأنه لو شاءَ أن لا تؤثرَ الأسبابُ لَمْ تُؤَثِّرْ، ومن ذلك ما قَصَّ علينا في سورةِ الأنبياءِ وغيرِها من سورِ القرآنِ أنه أُلْقِيَ إبراهيمُ في نارِ نمرودَ وقومِه، أُلْقِيَ إبراهيمُ في نارٍ تَضْطَرِمُ، تأكلُ الحطبَ حتى تتركَه رَمَادًا، أُلْقِيَ فيها إبراهيمُ والحطبُ، فَأَكَلَتِ الحطبُ بحرارتِها فَتَرَكَتْهُ رَمَادًا، وصارت بَرْدًا على إبراهيمَ. ولو لم يَقُلِ اللَّهُ: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا﴾ [الأنبياء: آية ٦٩]، لو لم يَقُلْ: ﴿وَسَلاَمًا﴾ لأَهَلْكَهُ بردُها، والنارُ لا عَقْلَ لها ولا إدراكَ تحرقُ به الحطبَ وتتركُ إبراهيمَ. وذلك يُبَيِّنُ أن الفاعلَ هو الخالقُ (جل وعلا)، وأنه يسببُ ما شاءَ على ما شاءَ مِنَ الْمُسَبَّباتِ. ويوضحُ لنا هذا: أن السببَ تَارَةً يكونُ مُنَاقِضًا للمُسبَّبِ وينتجُ الشيء من نقيضِه، كما قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ في
الأولى منها: فعل الأمر الصريح، نحو: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ﴾ [الإسراء: آية ٧٨] وقوله هنا: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٣].
والثاني: اسم فعل الأمر، نحو: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ﴾ [المائدة: آية ١٠٥].
والثالث: الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، نحو: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ [النور: آية ٦٣]، ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)﴾ [الحج: آية ٢٩].
والرابعة: هي المعروفة عند النحويين بالمصدر النائب عن فعله، نحو قوله: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمد: آية ٤] يعني: فاضربوا رقابهم. وكقول هند بنت عتبة يوم أُحد لما انهزم المشركون هزيمتهم الأولى، وقُتل حَمَلَة اللواء من بني عبد الدار، وبقي لواء قريش طريحاً حتى رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية التي يقول فيها حسان (١):

وَلَوْلاَ لِوَاءُ الحَارِثِيَّةِ أصْبَحُوا يُباعونَ في الأسْوَاقِ بَيْعَ الجَلائِبِ
عند ذلك قالت هند بنت عتبة بن ربيعة العَبْشَمِيَّة:
صَبراً بني عَبْدِ الدَّار
صَبْراً حُمَاةَ الأدْبَار
ضَرْباً بكُلِّ بتَّار (٢)
_________
(١) ديوان حسان ص٢٩، السيرة لابن هشام ص٨٥٩.
(٢) السيرة لابن هشام ص٨٤٦.
عَلِيمٌ} [الأنفال: آية ٧٥] ووصف بعض خلقه بالعلم فقال: ﴿نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ [الحجر: آية ٥٣] ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ [يوسف: آية ٦٨] فنحن لا نشك أن الله صادق في وصفه -في كتابه- نفسه بالعلم، وصادق في وصفه بعض خلقه بالعلم، إلا أن صفة الله لائقة بالله، وصفة المخلوق مناسبة للمخلوق، وبينهما من المنافاة كمثل ما بين ذات الخالق وذات المخلوق كما لا يخفى.
وقد وصف (جل وعلا) نفسه بالكلام قال: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: آية ١٦٤] ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾ [الأعراف: آية ١٤٤] ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ [التوبة: آية ٦] ووصف بعض خلقه بالكلام فقال: ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: آية ٥٤] ﴿وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ﴾ [يس: آية ٦٥] إلى غير ذلك، ونحن نجزم بأن لله كلامًا حقًّا لائقًا بكماله وجلاله، وللمخلوق كلام أيضًا مناسب لحاله، وبين هذا وهذا كما بين ذات الخالق وذات المخلوق كما لا يخفى. إلى غير هذا من صفات المعاني.
وكذلك ما يسمونه: (صفات السلوب) والسلبية عندهم هي ما يسمونه: القِدم، والبقاء، والمخالفة للخلق، والغنى المطلق الذي يعبرون عنه بالقيام بالنفس، والوحدانية. هذه هي صفات السلوب المعروفة عندهم. وقد جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها على نحو ما ذكرنا، فما يسمونه: القِدم والبقاء ويزعمون أن الله وصف بهما نفسه في قوله: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ﴾ [الحديد: آية ٣] قد جاء وصف الله نفسه بهما، وهو أعني الأولية والآخرية حيث قال: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ ووصف المخلوقين بالأولية
وكان يوم فتح مكة اجتمع مع الجماعة الذين جاءهم خالد بن الوليد، فرأى القتل وجاءها منهزماً، فقالت له: أين الذي كنت تقوله أنك تُخدمني نساءهم، وأني أغلق الباب دونك؟! فقال لها رجزه المشهور، وهو معروف عند علماء التاريخ وأصحاب المغازي (١):
إنَّكِ لو شَهِدتِ يومَ الخَنْدَمَهْ... إذ فرَّ صفوانُ وفرَّ عِكْرِمَهْ...
واسْتَقبَلَتْنَا بالسّيوفِ المُسْلِمَهْ... لهم نَهِيتٌ خَلفنَا وهَمْهَمَهْ...
يَقْطَعْنَ كلَّ سَاعِدٍ وجُمجُمَهْ... ضرباً فلا تَسْمَعُ إلا غَمْغَمَهْ...
لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّومِ أَدْنَى كَلِمَهْ
وهذه الأدلة وغيرها تدل على أن مَكَّةَ فُتِحَتْ عنوة لا صُلْحاً. ومن الأدلة على ذلك: ما ثبت في الصحيح أن النبي (صلوات الله وسلامه عليه) أمر بقتل مقيس بن صبابة، وابن خَطَل، وجاريتين معهما، ولو وُجدوا متعلقين بأستار الكعبة. ولو كانت مكة صلحاً لما أمر بقتل مقيس بن صبابة، وابن خَطَل، والجاريتين المذكورتين معهما (٢)، كما هو ثابت معروف، ومما يدل على أنها فتحت عنوة ما
_________
(١) تقدمت هذه الأبيات، ونصها في ابن هشام (ص١٢٥٠):
إِنَّكَ لو شَهِدت يوم الخَندمه... إذ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ...
وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كالمُؤْتَمَهْ... واسْتَقْبَلَتْهُمْ بالسّيوفِ المُسْلِمَهْ...
يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وجُمْجُمَهْ... ضَرْباً فَلاَ يُسْمَعُ إلا غَمْغَمَهْ...
لهم نَهِيتٌ خلفنا وهَمْهَمَهْ لم تنطقي في اللوم أدْنَى كَلِمَهْ
(٢) البيهقي في الدلائل (٥/ ٥٩)، وابن سعد في الطبقات (٢/ ١/٩٨). وذكره ابن هشام في السيرة ص١٢٥١، وابن القيم في بالزاد (٣/ ٤١١)، وابن كثير في تاريخه (٤/ ٢٩٧ - ٢٩٩) وأخرج الشيخان من حديث أنس (رضي الله عنه): «أن رسول الله ﷺ دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خَطَل متعلق بأستار الكعبة. فقال: «اقتلوه». البخاري في جزاء الصيد، باب دخول مكة بغير إحرام. حديث رقم: (١٨٤٦)، (٤/ ٥٩) وأطرافه: (٣٠٤٤، ٤٢٨٦، ٥٨٠٨). ومسلم في الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام. حديث رقم: (١٣٥٧) (٢/ ٩٨٩).


الصفحة التالية
Icon