وهذا، فتجدُه يتحدثُ عن أسبابِ ضَعْفِ المسلمين اليومَ، وعن الموقفِ من الحضارةِ الغربيةِ، ولزومِ الأخذِ بأسبابِ القوةِ، وأسبابِ النصرِ والتمكينِ... وغيرِ ذلك مما تَجِدُهُ في مواضعِه من هذه الدروسِ.
وهكذا حِينَمَا يعرضُ لغزوةٍ من الغزواتِ فإنه يَسْتَطْرِدُ في ذِكْرِ تفاصيلِها المختلفةِ، وقد قال (رحمه الله) عندَ تفسيرِ الآياتِ المتعلقةِ بغزوةِ حُنَيْنٍ من سورةِ بَرَاءَةٍ: «ونحنُ دائمًا في هذه الدروسِ إذا جاءت غزوةٌ من مَغَازِي رسولِ اللَّهِ - ﷺ - في الآياتِ القرآنيةِ نُفَصِّلُهَا ونذكرُ تفاصيلَها لتمامِ الفائدةِ، كما أَوْضَحْنَا فيما مَضَى غزوةَ أُحُدٍ في سورةِ آلِ عمرانَ، وغزوةِ بَدْرٍ في سورةِ الأنفالِ، وسيأتي في سورِ القرآنِ العظيمِ أكثرُ مَغَازِيهِ - ﷺ -» اهـ.
وإذا كانت الآيةُ المفسرةُ مما يتعلقُ به بعضُ المبتدعةِ فإنه يُنَبِّهُ على ذلك ثم يَسْتَطْرِدُ فِي الردِّ عليهم، وقد قال عندَ تفسيرِ الآيةِ رقم (١٠٧) من سورةِ الأعرافِ حينَ عَرَضَ لشبهةِ الجبرِ والقَدَرِ: «وَنَحْنُ في هذه الدروسِ دائمًا نُبَيِّنُ كيفيةَ رَدِّ هذه الشُّبَهِ» اهـ.
وكان (رحمه الله) كثيرًا ما يَعْرِضُ السؤالَ الذي يَتَوَقَّعُ انقداحَه في أذهانِ السامعين ثم يجيبُ عنه، وقد قال عند تفسيرِ الآيةِ رقمِ (٣٧) من سورةِ التوبةِ: «إِنَّ من عادتنا التي نَجْرِي عليها في هذه الدروسِ أن نتعرضَ لِمَا نَظُنُّ أنه يَسْأَلُ عنه طلبةُ العلمِ» اهـ وهذا تجده مبثوثًا في هذا التفسيرِ فيما يَقْرُبُ من سبعين موضعًا.
وكثيرًا ما يَقْرِنُ الشيخُ ذلك كُلَّهُ بالوعظِ والتذكيرِ بالاستعدادِ للآخرةِ واستحضارِ المراقبةِ لِلَّهِ (عز وجل).
قصةِ قتيلِ بَنِي إسرائيلَ (١)؛
لأنه لَمَّا أرادَ اللَّهُ أن يُحْيِيَهُ قال لهم: اذْبَحُوا بَقَرَةً، فَذُبِحَتِ البقرةُ، وصارت ميتةً، وَقُطِعَتْ منها وصلةٌ وهي ميتةٌ، قطعةٌ مِنْ بقرةٍ [١١/ب] ميتةٍ، ليس فيها من الحياةِ شيءٌ، فضربوه بها فَحَيِيَ، / وأخبرَهم بقاتلِه!! لو ضَرَبُوهُ بالبقرةِ حيةً لربما قال جاهلٌ: قَدِ اسْتَفَادَ الحياةَ منها، وَسَرَتْ حياتُها فيه!! أما هو فقد أَمَرَهُمْ أن يُمِيتُوهَا وَيَذْبَحُوهَا ويضربوه بقطعةٍ منها فَحَيِيَ!! فَمِنْ أَيْنَ وُجِدَتْ هذه الحياةُ من هذا الضربِ بقطعةٍ من بقرةٍ ميتةٍ؟ وذلك برهانٌ قاطعٌ على أن اللَّهَ يسببُ ما شاءَ على ما شاءَ من الأسبابِ؛ وَلأَجْلِ هذا قال: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ أي: بِسَبَبِهِ ﴿نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
قولُه: ﴿نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي: جميعَ أصنافِ النباتاتِ مِمَّا يأكلُه الناسُ والأنعامُ، كما قال جل وعلا: ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ﴾ [طه: آية ٥٤]، فَيُنْبِتُ للناسِ أنواعَ النباتِ مما هو قوتٌ كالقمحِ والشعيرِ ونحوِهما، وَمِمَّا هو فاكهةٌ، وينبتُ لهم المرعى لحيواناتهم؛ لأن الحيواناتِ إذا أَكَلَتِ المرعى المليءَ كَثُرَتْ ألبانُها وأزبادُها وأسمانُها ولحومُها وَكَثُرَتْ جُلُودُهَا وأصوافُها وأوبارُها وأشعارُها، إلى غيرِ ذلك من منافعِها بسببِ الماءِ؛ ولذا قال: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾.
﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ﴾ أي: من نباتِ كُلِّ شَيْءٍ.
﴿خَضِرًا﴾ الخَضِرُ: هو صفةٌ مشبهةٌ من (خَضِرَ) فهو (خَضِرٌ وأَخضَرُ). والمرادُ بالخَضِرِ هنا: الذي يَنْبُتُ أخضرَ كالبقولِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة البقرة..
فكل هذه المصادر مصادر نابت عن أفعالها، ففيها معنى الأمر. تعني: اصبروا يا بني عبد الدار، واضربوا بكل بتَّار. هذه هي صيغ الأمر.
وقد دل القرآن والسنة ولغة العرب على أن صيغة (افعل) تقتضي الوجوب، فمن الدليل على ذلك: أن الله لما قال للملائكة: ﴿اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾ [البقرة: آية ٣٤] كانت ﴿اسْجُدُواْ﴾ صيغة (افعل) فلما امتنع إبليس وبَّخه وحكم عليه بالعصيان، وقال: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ موبِّخاً له، فَدَلَّ على أن عدم امتثال صيغة الأمر أنه معصية، ويؤيِّدُ ذلك أن نَبِيَّ الله موسى قال لأخيه هارون لما أراد السفَر إلى الميقات، قال لأخيه هارون: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ﴾ [الأعراف: الآية ١٤٢] وهذه صيغة أمر، فلما ظن أنه لم يتبعها قال: ﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣)﴾ [طه: آية ٩٣] فصرح بأن مخالفة صيغة (افعل) معصية، ومن الأدلة على ذلك أن الله يقول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣)﴾ [النور: آية ٦٣]، وقد قال جل وعلا: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [الأحزاب: آية ٣٦] وفي القراءة الأخرى: ﴿أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (١)، ومن قضائه للأمر هو أن يقول: (افعل كذا) فدلت آية الأحزاب هذه على أن أمره تعالى قاطع للاختيار، موجب للامتثال، والأدلة في هذا كثيرة.
ووجه دلالة اللغة العربية على أن صيغة (افعل) تقتضي الوجوب: أن السيد المالك لعبد لو قال لعبده: (اسقني ماءً) فامتنع
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٣٥٨.
والآخرية قال: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ (١٧)﴾ [المرسلات: الآيتان ١٦، ١٧] ووصف الخلائق بالبقاء فقال: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: آية ٩٦] فوصف ما عند الله من بعض مخلوقاته بأنه باق وقال: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (٧٧)﴾ [الصافات: آية ٧٧] ووصف بعض المخلوقين بالقِدَم في قوله: ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ﴾ [يوسف: آية ٩٥] ﴿كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ [يس: آية ٣٩].
واعلموا أن جماعة من السلف أنكروا وصف الله بالقِدَم وقالوا: إنه من مبتدعات المتكلمين، ولا يجوز وصف الله بالقِدَم؛ لأن القِدَم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو تقادم زمن الشيء قديمًا مع كونه مسبوقًا بعدم. وبعض العلماء خالف في هذا وقال: عُرف في الشرع إطلاق القِدم على ما يُطْلِقُهُ عليه المتكلمون؛ لأن القِدَم في اصطلاح المتكلمين هو عبارة عن كل ما لا أَوَّلَ له بشرط أن يكون وجوديًّا، فالقِدَم عند المتكلمين أخَفُّ ممَّا يسمونه (الأزل)؛ لأن الأزل في اصطلاحهم هو كل شيء لا أَوَّلَ له، سواء كان وجوديًّا كذات الله -جل وعلا- متصفة بصفات الكمال والجلال؛ لأن وجود ذاته الكريمة متصفة بصفاتها الكريمة لا أول له، فهي عندهم يُقال له: (أَزَلِيٌّ) ويُقال له: (قديم) في اصطلاحهم، أما المعدوم فلا يُقَالُ له قَدِيمٌ عِنْدَهُم، وإنما يُقال له: أَزَلِيٌّ، فَكُلُّ مَا لاَ أَوَّلَ لَهُ من الأعدام فهو أَزَلِيٌّ عندهم، ولا يُسمى قديمًا كأعدام ما سوى الله، فنحن هؤلاء الموجودون هنا قبل أن نولد كنا معدومين، وَعَدَمُنَا السَّابِقُ لا أوَّلَ لَهُ، فأعدامنا أزَلِيَّةٌ؛ لأنها لا أول لها، ولا نقول: إنها قديمة.
ثبت في الصحيح عن أم هانئ أنها أجارت رجلاً من أحمائها بني مخزوم؛ لأن زوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي أجارته، وجعلت له الأمان، فجاءه عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) ليقتله، فَشَكَتْهُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» (١) فلو كانت مكة مفتوحة صلحاً لما أخذ عليٌّ السَّيْفَ ليقتل المخزوميين اللَّذَيْنِ أجَارَتْهُمَا أختُهُ أمّ هَانِئ (رضي الله عنها)، إلى غير ذلك من الأدلة.
ولَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الأَرْضَ المغْنُومَةَ لَهَا حُكْمٌ خاص سَنُبَيِّنُهُ الآنَ؛ لأن الغنيمة أقسام (٢)، منها: ما هو كالذَّهَبِ والفِضَّة والحيوان، وهذا لا خلاف عند من يُعْتَدُّ به من العلماء أنه يُقسم ويُخمَّس، أما أرْض العَدُو التي فَتَحَها المسلمون فَلِلْعُلَمَاءِ فيها أقوال (٣): فبعض العلماء يقول: عندما يستولي عليها المؤمنون تصير وقفاً عامّاً للمُسْلِمِينَ. وهذا مذهب مالك (رحمه الله) وجماعة من العلماء.
_________
(١) البخاري في الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به، حديث رقم: (٣٥٧) (١/ ٤٦٩)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى... حديث رقم: (٣٣٦) (١/ ٤٩٨).
(٢) انظر: القرطبي (٨/ ٤)، الأضواء (٢/ ٣٦٧).
(٣) القرطبي (١٨/ ٢٢ - ٢٣)، الأضواء (٢/ ٣٦٧).


الصفحة التالية
Icon