وقد يَسْتَطْرِدُ في بعضِ الأحيانِ في قضيةٍ واحدةٍ تستغرقُ الدرسَ كُلَّهُ - وهذا قليلٌ فيما وَقَفْتُ عليه - كما فَعَلَ عند الكلامِ على قولِه (تعالى) من سورةِ الأعرافِ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: آية ١٢] حيث أَطَالَ في الردِّ على ابنِ حَزْمٍ في رَدِّهِ القياسَ، كما سَتَقِفُ على ذلك في موضعِه من سورةِ الأعرافِ.
وكذلك عند الكلامِ على قوله (تعالى) من السورة نفسها: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: آية ٥٤] حيث بَسَطَ الكلامَ على مسألةِ الصفاتِ.
وكذا في تفسيرِ قولِه تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: آية ٥٧] حيث أطالَ النَّفَسَ في الردِّ على أهلِ الفَلَكِ.
وربما أَحَالَ إلى بعضِ كُتُبِهِ، كما نرى ذلك عند كلامِه على المجازِ أثناءَ تفسيرِ الآيةِ رَقْمِ (٢١) من سورةِ بَرَاءَةٍ.
ومما يُذْكَرُ في هذا المقامِ مِمَّا يَدُلُّ على غَزَارَةِ تلك الدروسِ بالعلمِ أن الشيخَ (رحمه الله) حينما عُرِضَ عليه درسُه السابقُ المتعلقُ بالردِّ على ابنِ حَزْمٍ في إنكارِ القياسِ - مُفرَّغًا من الشريطِ الْمُسَجَّلِ بعد سنةٍ من إلقائِه - وَسَمِعَهُ الشيخُ بصوتهِ قال: «لِوْلاَ أَنِّي أَسْمَعُ صَوْتِي بِأُذُنِي وأنتَ - يعني تلميذَه الشيخَ عطيةَ - أَتَيْتَنِي بها مكتوبةً؛ ما صدقتُ أن شخصًا يقولُ هذا ارْتِجَالاً» (١).
_________
(١) ترجمة الشيخ محمد الأمبن الشنقيطي، للسديس ص٢٢٢.
ونحوِها (١)؛ لأن القمحَ والشعيرَ وما جَرَى مجراهما ينبتُ أولاً نبات البقولِ.
ثم قال: ﴿نُّخْرِجُ مِنْهُ﴾ أي: من ذلك الخَضِرِ النابتِ.
﴿حَبًّا مُّتَرَاكِبًا﴾ يَعْلُو بعضُه بَعْضًا كالسنبلِ، فإنكَ تجدُ السنبلةَ يتراكبُ فيها الْحَبُّ ويعلو بعضُه بعضًا (٢). وهذا معنى قولِه: ﴿نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا﴾.
وقولُه: ﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾ قراءةُ الجمهورِ (٣) ﴿النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ﴾ بالنصبِ؛ لأَنَّ الكسرةَ علامةٌ هنا للنصبِ.
وقولُه: ﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾ النخلُ: من جنسِ المُنْبَتِ بهذا الماءِ، إلا أن اللَّهَ قَطَعَهُ، وجاء به في صيغةِ جُمْلَةٍ مُسْتَأنَفَةٍ من مبتدأٍ وخبرٍ تَنْوِيهًا بشأنِ النخلِ (٤) لأن النخلَ كُلَّهُ مَنَافِعُ.
وَجَرَتِ العادةُ في القرآنِ: أنه إِذَا ذَكَرَ الإنعامَ بالتمرِ ذَكَرَهُ باسمِ شجرتِه التي هي النخلةُ، وإذا ذَكَرَ الإنعامَ باسمِ العنبِ ذَكَرَهُ باسمِ الثمرةِ التي هي العنبُ. هذه قاعدةٌ مطردةٌ في القرآنِ.
قال بعضُ العلماءِ: إنما ذَكَرَ شجرةَ التمرِ التي هي النخلةُ؛ لأن النخلةَ كُلَّهَا منافعُ، فتمرها
بعضُ منافِعها (٥). فلو عَبَّرَ بالتمرِ لأَهْمَلَ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٥٧٣)، القرطبي (٧/ ٤٧)، الدر المصون (٥/ ٦٩).
(٢) انظر: ابن جرير (١١/ ٥٧٣)، القرطبي (٧/ ٤٧)، البحر المحيط (٤/ ١٨٩).
(٣) والقراءة الأخرى: برفع «جناتٌ». انظر: المبسوط لابن مهران، ص١٩٩.
(٤) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٨٩).
(٥) انظر تفصيل ذلك في مفتاح دار السعادة (١/ ٢٣٠).
العبد ولم يسق سيده فأدَّبَه وضربه أن عامة أهل اللسان يقولون: إن هذا العتاب واقع موقعه، فلو قال العبد للسيد: أنت ظلمتني بعقابي هذا؛ لأن قولك (اسقني) صيغة (افعل) وهذه لا تُوجب ولا تلزم شيئاً!! لقال له أهل اللسان العربي: كذبت يا عبد، بل الصيغة ألزمتك، ولكنك امتنعت، فلسيدك أن يعاقبك. هذا وجه دلالة اللغة العربية على ما ذكرنا.
وعلى كل حال فقوله: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ هذا الأمر واجب بإجماع العلماء، فيجب على كل مسلم أن يتبع ما أنزله الله في هذا القرآن الكريم على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. والسنة جميعها إنما هي قطرة من بحر القرآن العظيم؛ لأن القرآن بحر لا ساحل له، والسنة قطرة من بحره؛ لأن جميع ما جاء في سنة رسول الله يدخل في قوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: آية ٧] والعمل بما جاء عن رسول الله عمل بالقرآن العظيم، وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود (رضي الله عنه) أنه جاءته امرأة تسأله عن ابنتها يريدها زوجها أن تُزف إليه، وقد تمعَّط شعرها، يعني: سقط شعرها، والشعر جمال المرأة، فهي تريد أن تصل شعر رأسها بشيء تجملها به لزوجها، فذكر ابن مسعود أن الواصلة شعرها بشعر غيرها ملعونة في كتاب الله، فجاءته المرأة بعد ذلك وقالت له: لقد قرأت ما بين اللوحتين أو ما بين الدفتين فلم أجد لعن الواصلة في كتاب الله!! فقال لها: إن كنت قَرَأْتِيهِ فَقَدْ وجدتيه، أوَمَا قَرَأْتِ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾؟ قالت: بلى. قال: هو ﷺ لعن الواصلة (١).
وهذا مما يدل على أن كل ما في سنة رسول الله فالعمل
_________
(١) هنا وقع للشيخ (رحمه الله) وَهْمٌ حيث أدخل حديثاً في حديث آخر؛ ذلك أن حديث ابن مسعود في أنه لعن النامصات.. إلخ، فراجعته امرأة من بني أسد محتجة بأنها لم تجد هذا اللعن في كتاب الله وهذا الحديث أخرجه البخاري في التفسير، باب (وما آتاكم الرسول فخذوه) حديث رقم (٤٨٨٦)، (٨/ ٦٣٠)، وأخرجه في مواضع أخرى انظر: الأحاديث (٤٨٨٧، ٥٩٣١، ٥٩٣٩ ٥٩٤٣، ٥٩٤٨)، ومسلم في اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، حديت رقم (٢١٢٥)، (٣/ ١٦٧٨).
وأما المرأة التي سألت عن وصل شعر ابنتها: فهي امرأة من الأنصار سألت النبي ﷺ عن ابنة لها زوَّجتها فمرضت فتساقط شعرها، قالت: أفأصل شعرها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواصلة... » إلخ.
وقد روى هذا الحديث من الصحابة:
١ - عائشة (رضي الله عنها) وقد أخرجه البخاري في اللباس، باب: وصل الشعر، حديث رقم: (٥٩٣٤)، (١٠/ ٣٧٤)، وطرفه في: (٥٢٠٥). ومسلم في اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، حديث رقم: (٢١٢٣)، (٣/ ١٦٧٧).
٢ - أسماء (رضي الله عنها) وقد أخرجه البخاري في اللباس، باب: وصل الشعر. حديث رقم: (٥٩٣٥)، (١٠/ ٣٧٤). وطرفاه: (٥٩٣٦، ٥٩٤١). ومسلم في اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، حديث رقم: (٢١٢٢)، (١٦٧٦). هذا وقد ورد في لعن الواصلة أحاديث أخرى منها حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة (رضي الله عنهما) وهما في الصحيحين.
والأظهر أنه جاء ببعض الأحاديث عن النبي ﷺ ما يدل على أن إطلاق المتكلمين للقِدَم على ما لا أول له من الموجود أن له أصلاً، وأنه لا ينبغي أن يُنكر، وقد جاء في سنن أبي داود في دخول المسجد: «أَعُوذُ بِاللهِ العَظِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» (١)
فأطلق اسم القِدَم على سلطان الله، ومعلوم أنه لا يريد بقِدم سلطان الله شيئًا سبقه عدم، فَقَدْ أَخْرَجَ الحاكم في المستدرك في بعض الطرق التي يزعم أنها صحيحة أن القديم من أسمائه (جل وعلا) (٢) والله (جل وعلا) أعلم (٣).
والحاصل أن جميع أنواع أقسام الصفات التي يذكرها
_________
(١) أبو داود في الصلاة، باب ما يقول الرجل عند دخوله المسجد، حديث رقم (٤٦٢)، (٢/ ١٣٢)، والبيهقي في الدعوات الكبير، حديث رقم (٦٨).
قال الحافظ في نتائج الأفكار (١/ ٢٨١): «حسن غريب، ورجاله موثقون، وهم رجال الصحيح إلا إسماعيل وعقبة» اهـ. وقال النووي في الأذكار ص٤٦: «حديث حسن، رواه أبو دواد بإسناد جيد» اهـ. وانظر: صحيح أبي داود ص٤٤١، صحيح الجامع (٤٥٩١).
(٢) وذلك في الزيادة على حديث الصحيحين: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا» وهي الزيادة المعروفة التي فيها ذكر الأسماء، وهي زيادة لا تصح، وقد أخرجها الحاكم من طريقين، وجاء اسم (القديم) في إحدى روايتي الحديث عنده. وعقَّب هذه الرواية بقوله: «وعبد العزيز بن الحصين بن الترجمان ثقة وإن لم يخرجاه، وإنما جعلته شاهدًا للحديث الأول» اهـ. (المستدرك ١/ ١٧). وسيأتي تخريجه عند نفسير الآية (١٨٠) من سورة الأعراف.
(٣) انظر: الفتاوى (١/ ٢٤٥)، لوامع الأنوار (١/ ٣٨)، (تعليق البابطين رحمه الله)، شرح الطحاوية ص٥٧ - ٥٨، كتاب مناهل العرفان دراسة وتقويم ص٢١٢، ٧٢٥.
وبعض العلماء يقول: يجب قسم الأرض المغنومة كما قسم النبي ﷺ أرْضَ خَيْبَرَ وأرض بني قريظة.
وجماعة من العلماء قالوا: الإمام مُخَيَّرٌ في ذلك، إنْ رَأَى المصلحة في قَسْمِها قَسَمَها، وإن رأى المصلحة في إِبْقَائِهَا وَقْفاً للمسلمين تَرَكَهَا وَقْفاً للمسلمين، فإذا اقْتَضَى نَظَر الإمام أن يقسمها قَسَمَهَا وكانت مملوكة لِلْغَانِمِينَ، وكانت أرض عشورٍ لا أرض خراج، وإن رأى الإمام أن يتركها لِعَامَّةِ المسْلِمين خزانة لهم -كما هو رَأْيُ عُمَرَ بن الخطاب (رضي الله عنه) - تركها وقفاً للمسلمين، وكانت أرض خراج لا أرْضَ عُشُورٍ، يؤخذ الخراج ممن هو يستغلها ويكون لِعُمُومِ المسلمين. وهذا المذهب بالتخيير هو الحق -إن شاء الله- والنبي ﷺ اخْتَارَ أنْ يقسم أرض قريظة وأرض خيبر، واختار أن يترك قسمة دور مكة. وقد فهم عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من فعل النبي ﷺ أن الأرض التي غَنَمَهَا المسْلِمُونَ واحتلوا بلادها بالقوة أن الإمام مُخَيَّر فيها، فَهِمَ ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولِذَا ثَبَتَ عنه في الصحيح أنه قال: «لَوْلاَ آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ ﷺ خَيْبَرَ» (١). وعمر لم يفعل هذا الصنيع متهجِّماً على كتاب الله في قوله: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم... ﴾ الآية [الأنفال: الآية ٤١].
وإنما فهم من فعل رَسُول الله ﷺ التخيير في ذلك، وكلامه صريح في أنه يعتقد أنّّهُ مخَيَّرٌ؛ لأنه قال: «لَوْلاَ آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إِلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ ﷺ خَيْبَرَ» وهذا فيه مصلحة عظمى؛
_________
(١) البخاري في فرض الخمس، باب الغنيمة لمن شهد الوقعة، حديث رقم: (٣١٢٥) (٦/ ٢٢٤).


الصفحة التالية
Icon