وَلَمَّا رَاجَعَهُ أحدُ تلامذتِه في تخفيفِ مستوى الدرسِ، أَجَابَ بقولِه: «إن اللَّهَ يفتحُ على المرءِ ما لم يكن يتوقعُ، ثم إن المسجدَ يَجْمَعُ عجائبَ من أجناسٍ مختلفةٍ، وَيَكْفِينِي واحدٌ يَحْمِلُ عَنِّي ما بَلَّغْتُ مِمَّا عِنْدِي» (١) اهـ.
وقد نَبَّهَ الشيخُ (رحمه الله) على ذلك عند الكلامِ على قولِه (تعالى) من سورة براءة: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... ﴾ [التوبة: آية ٤٤] لَمَّا تكلمَ على بعضِ النواحِي الإعرابيةِ واللغويةِ المتصلةِ بالآيةِ، فقال بعدَ ذلك: «ونحنُ نذكرُ هذه الأشياءَ العربيةَ، وإن كانَ أكثرُ المستمعين لا يَفْهَمُونَهَا؛ لأَنَّا نريدُ أن تكونَ هذه الدروسُ القرآنيةُ يستفيدُ منها كُلُّ الحاضرين على قَدْرِ استعداداتِهم، وَاللَّهُ يُوَفِّقُ الجميعَ للخيرِ» اهـ.
وذكر (رحمه الله) بعضَ التحقيقاتِ اللغويةِ في موضعٍ آخرَ، ثم عَقَّبَ ذلك بقولِه: «فنحنُ - أيها الإخوانُ - نذكرُ هذه المناسباتِ؛ لأَنَّا نعلمُ أن القرآنَ العظيمَ هو مصدرُ العلومِ، وله في كُلِّ عِلْمٍ بيانٌ، فنتطرقُ الآيةَ من وجوهها، وَقَصْدُنَا انتفاعُ طلبةِ العلمِ؛ لأن القرآنَ أصلٌ عظيمٌ تُعْرَفُ به أصولُ التصريفِ، والنحوِ، وأصولِ الفقهِ، والتاريخِ، والأحكامِ، إلى غيرِ ذلك من جميعِ النواحِي، فنحن جَرَتْ عادتُنا بأن نتطرقَ الآيةَ من جميعِ نواحيها بحسبِ الطاقةِ لينتفعَ كُلٌّ بِحَسَبِهِ» (٢) اهـ.
وقال عند تفسيرِ قولِه (تعالى): ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾... [التوبة: آية ٣٤]: «ونحنُ - عادةً في هذه
_________
(١) المصدر السابق.
(٢) ذكره عند تفسير الآية (١٠١) من سورة الأعراف.
منافعَ النخلِ الكثيرةِ؛ لأن النخلَ كُلَّهَا منافعُ؛ لأن خُوصَهَا تُصْنَعُ منه القفاصُ، وجريدَها تُصْنَعُ منه الحُصر، وتصنعُ منها الحبالُ، ولبَّها يؤكلُ، وجذعَها يُسقف به، وكُرْنَافَها يوقدُ به، فجميعُ ما فيها منافعُ.
أما شجرةُ العنبِ: فليس في نفسِ الشجرةِ من المنافعِ ما في النخلةِ (١)، فأعظمُ منافعِها في ثَمْرَتِهَا.
وقولُه: ﴿وَمِنَ النَّخْلِ﴾ النخلُ: جمعُ نخلةٍ. وقيل: هو جنسٌ أو اسمُ جَمْعٍ (٢). وهو يُذَكَّرُ ويُؤنثُ؛ لأَنَّ اللَّهَ ذَكََّرَهُ في قولِه: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنْقَعِرٍ (٢٠)﴾ [القمر: آية ٢٠]، ولم يَقُلْ: منقعرةٍ. وَأَنَّثَهُ في قولِه: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧)﴾ [الحاقة: آية ٧]، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، أَنَّ أسماءَ الأجناسِ تُذَكَّرُ وتُؤنَّثُ.
قال بعضُ العلماءِ: فإن قيلَ له: (نخيلٌ) لَمْ يَجُزْ تَأْنِيثُهُ.
وقولُه: ﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا﴾ يُطْلَقُ (الطلعُ) على أولِ ما يخرجُ من النخلةِ؛ لأنه يخرجُ أَوَّلاً قبلَ أن يَنْفَتِحَ يسمى (كِمًّا)، ثم ينفتحُ على النَّوْرِ المسمَّى بـ (الإغْرِيض). وهذا هو المرادُ بقولِه: ﴿مِنْ طَلْعِهَا﴾. وَرُبَّمَا يُطْلَقُ الطلعُ على ثَانِي الحالِ؛ لأنه يكونُ أَوَّلاً طَلْعًا
_________
(١) قال ابن القيم: «وعموم المنفعة به وبالعنب فوق كل الثمار. وقد اختلف الناس في أيهما أنفع وأفضل، وصنف الجاحظ في المحاكمة بينهما مجلدًا فأطال فيها الحِجَاج والتفضيل من الجانبين. وفَصلُ النزاع في ذلك: أن النخل في معدنه ومحل سلطانه أفضل من العنب وأعم نفعًا، وأجدى على أهله، كالمدينة والحجاز والعراق. والعنب في معدنه ومحل سلطانه أفضل، وأعم نفعًا، وأجدى على أهله كالشام والجبال والمواضع البادرة التي لا تقبل النخل» ا. هـ. مفتاح دار السعادة (١/ ٢٣٠).
(٢) انظر الكليات ٩١٢.
به عمل بكتاب الله.
﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ فعلى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يعملوا بهذه الأوامر السماوية المنزَّلة من خالق السماوات والأرض، الذي فتح أعينهم في وجوههم، وصبغ لهم بعضها بصبغ أسود، وبعضها بصبغ أبيض، وفتح لهم آنافهم وأفواههم، وأعطاهم الألسنة، وأنبت لهم الأسنان، وشق لهم المحل
المتكلمون جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها، وكل منهما حق، وهذا لائق بموصوفه، وهذا لائق بموصوفه، وبينهما من الفرق كما بينّا.
ومن أكبر ذلك: الصفات التي يسمونها: (الصفات الجامعة) التي تدل على العظمة واستلزامها لجميع الصفات، كالكِبَر، والعِظَم، والعلو، والملك، وما جرى مجرى ذلك، فقد وصف (جل وعلا) نفسه بأنه عَلِيٌّ عظيم قال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: آية ٢٥٥] ووصف بعض خلقه بالعلو فقال: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (٥٧)﴾ [مريم: آية ٥٧] ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ [مريم: آية ٥٥] ووصف بعض خلقه بالعِظَم فقال: ﴿فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: آية ٦٣] ﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا﴾ [الإسراء: آية ٤٠].
وصف نفسه بالمُلك فقال: ﴿يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ﴾ [الجمعة: آية ١] ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ﴾ [الحشر: آية ٢٣] وقد وصف [بعض خلقه] (١) بالملك ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ﴾ [يوسف: آية ٥٤] ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء﴾ [آل عمران: آية ٢٦] إلى غير ذلك من الآيات.
ووصف (جل وعلا) نفسه بالكِبَر فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ [النساء: آية ٣٤] ﴿الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ [الرعد: آية ١٠] ووصف بعض خلقه بالكِبَر فقال: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الحديد: آية ٧] ﴿إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: آية ٣١] ونحو ذلك من الآيات.
_________
(١) في الأصل: «نفسه». وهو سبق لسان.
لأن الغانمين لو قسموا الأرض عندما غنموها فإن آخر المسلمين يكونون لا غلة لهم، ويكون الإسلام وجيوش الإسلام والأموال التي يحتاج إليها لحماية بيضة الإسلام وقمع الكفار وإقامة الجهاد يكون ذلك لا يوجد له شيء، فوجود تلك الأرضين الكثيرة لها خراج كثير عظيم يستعين به المسلمون على شراء السلاح، وتهيئة الجيوش، وتعبئة الرجال للقتال في سبيل الله (جل وعلا)، أن هذا هو المصلحة؛ ولأجل تخيير الإمام لم يقسم النبي ﷺ مكة، وقد ثبت أن النبي ﷺ قسم بعض خيبر ولم يقسم بعضها، قال بعض العلماء: البعض من خيبر الذي لم يقسمه رَسُول الله ﷺ إنما ترك قسمه لهذا الاختيار؛ لأنه مخير في القسم والإبقاء. والصحيح أن الذي لم يقسمه من أرض خيبر كان فيئاً؛ لأن بعض البساتين وبعض الأطراف من خيبر كانوا لم يُفتحوا ولم يؤخذوا عنوة ولم يُوجف عليهم بالخيل والركاب، فلما أُخذت قريظة نزلوا على حكم النبي ﷺ من غير أن يُؤخذوا بالقهر فكان فيئاً، وسمع بهم أهل فدك ففعلوا كذلك، فكانت فدك فيئاً للنبي صلى الله عليه وسلم، هي وذلك البعض من قريظة. ومعلوم أن فدك وبعض قريظة كانا من الفيء الخالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد طلبته فاطمة (رضي الله عنها) أن يقطعها فدك فأبى، وأقطعها أمير المؤمنين عثمان بن عفان (رضي الله عنه) لمروان بن الحكم ظنّاً منه (رضي الله عنه وأرضاه) أن مَا كَانَ للنَّبِيِّ ﷺ ينتقل الحق فيه لولي أمر المسلمين بعده، وأن ذلك انتقل إليه، وأنه غَنِيٌّ عَنْهُ بأمْوَالِهِ فَوصل به بعض قُرَبَائه، وهو ابن عمه مروان بن الحكم رضي الله عن عثمان وأرضاه وعن جميع أصحاب النبي ﷺ (١).
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٤١٢).


الصفحة التالية
Icon