الدروسِ - إذا مررنا بآيةٍ من كتابِ اللَّهِ هي أصلُ بابٍ من أبوابِ الفقهِ نتعرضُ إلى مسائلِه الكبارِ، وَنُبَيِّنُ عيونَها ومسائلَها التي لها أهميةٌ» اهـ.
ولم يكن الشيخُ (رحمه الله) يتركُ الحديثَ عن الأحكامِ المتعلقةِ بالآيةِ نظرًا لأن موضوعَها قد عُطِّلَ أوكَادَ في هذا العصرِ أَنْ يُعَطَّلَ، فنجدُه عند الكلامِ على قولِه تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّنْ شَيْءٍ﴾... [الأنفال: الآية ٤١] يقول: «وهذه الآيةُ الكريمةُ من سورةِ الأنفالِ قد تَضَمَّنَتْ أحكامًا كثيرةً من أحكامِ الجهادِ، ومن أحكامِ الغنائمِ، وقد يحتاجُ لها المسلمونَ؛ لأنا نَرْجُو اللَّهَ (جل وعلا) أن يرفعَ عَلَمَ الجهادِ وَيُقَوِّيَ كلمةَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأن تَخْفِقَ راياتُ المسلمين في أقطارِ الدنيا فيحتاجون إلى تَعَلُّمِ ما تَضَمَّنَتْهُ هذه الآيةُ الكريمةُ من أحكامِ الجهادِ. وَلَمَّا كانَ القرآنُ العظيمُ هو مصدرُ جميعِ العلومِ؛ لأنه الكتابُ الذي حَوَى جميعَ العلومِ، وكانت أصولُ جميعِ الأشياءِ كُلِّهَا فيه أَرَدْنَا هنا أن نُبَيِّنَ جُمَلاً من الأحكامِ التي أَشَارَتْ إليها هذه الآيةُ الكريمةُ» اهـ.
وقد ينسى الشيخُ (رحمه الله) مسألةً يَرْغَبُ في عَرْضِهَا عندَ تفسيرِه للآيةِ فَيَسْتَدْرِكُ ذلك في الدرسِ الذي يَلِيهِ ويتكلمُ عليها قَبْلَ أن يَشْرَعَ في تفسيرِ الآياتِ التي بعدَها، كما وَقَعَ عندَ تفسيرِ الآيةِ رقم (٣٧) من سورةِ براءةٍ. ولربما وقعَ له ذهولٌ عن أحدِ الأقسامِ التي هو بِصَدَدِ الحديثِ عنها فلا يَذْكُرُهُ، ثم يُنَبِّهُ على ذلك في مناسبةٍ أخرى تُمَاثِلُهَا، كما في كلامِه على مادةِ (بَيَنَ) والمعاني التي تأتي لها في حالِ لُزُومِهَا وَتَعَدِّيهَا، فقد تكلمَ عليها في سبعةِ مواضعَ، ثلاثة في الأنعامِ وأربعة في الأعرافِ، وقد قال عندَ كلامِه عليها في الموضعِ
نَوْرًا أبيضَ، ثم يُنْقَلُ من طَورٍ إلى طَورٍ حتى يكونَ بُسْرًا ورُطَبًا وَتَمْرًا يَابِسًا. وقولُه: ﴿مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ﴾ المرادُ بالطلعِ هنا: حالُه الأخيرةُ، إلا أن ذلك يُوجَدُ من الطلعِ، وهو النَّوْرُ الذي ينفتحُ عنه الكِمُّ أَوَّلاً (١).
وقولُه: ﴿قِنْوَانٌ﴾ القِنْوَانُ: جمعُ القِنْوِ، كالصِّنْوَانِ وَالصِّنْوِ.
وفيه قراءة: ﴿قِنْوَانٌ﴾ و ﴿قُنْوَانٌ﴾ أما قراءةُ ﴿قَنْوَانٌ﴾ بفتحِ القافِ فليست سَبْعِيَّةً (٢).
والقِنْوَانُ: جمعُ القِنْوِ. والقِنْوُ: هو عِذْقُ النخلةِ الذي فيه الثمرُ (٣).
وقولُه: ﴿دَانِيَةٌ﴾ أي: قريبةُ المُتَنَاوَلِ؛ لأن النخلَ إذا كان صِغَارًا قد يُثْمِرُ الثمرةَ الجيدةَ، مع أنها دانيةٌ قريبةٌ سهلةُ المُتَنَاوَلِ، لا يحتاجُ صاحبُها إلى طلوعٍ، ولاَ إلى صعودٍ. ومعنَى قولِه: ﴿دَانِيَةٌ﴾ أي: قريبةُ الْمُجتَنَى، ينالُها الإنسانُ من غيرِ تَعَبٍ.
قال بعضُ العلماءِ: ذَكَرَ دانيةَ الثمرِ ولم يَذْكُرِ السَّحُوقَ - التي
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٤٨، ٥٠)، الدر المصون (٥/ ٧٥)، وقد ذكر مراتب ثمر النخلة، ونقل قول بعضهم:

إن شِئْتَ أن تَضْبِطَ يا خَليلُ أسماءَ ما تُثْمرهُ النخيلُ
فَاسْمَعْه موصوفًا على ما أذكرُ طَلْعٌ وبعده خَلال يظهر
وبَلَحٌ ثم يليه بُسْرُ ورُطَب تجنيه ثم تَمْرُ
فهذه أنواعُها يا صاح مضبوطةً عن صاحب الصحاحِ
(٢) وكذلك القراءة بضم القاف (قُنوان) شاذة أيضًا. انظر المحتسب (١/ ٢٢٣)، القرطبي (٧/ ٤٨).
(٣) انظر: ابن جرير (١١/ ٥٧٥)، القرطبي (٧/ ٤٨)، الدر المصون (٥/ ٧٣).
الذي ينزل عنهم منه البول والغائط، وفتح لهم العروق والشرايين ليجري فيها الدم، فهذا لو لم يثقبه رب العالمين ويفتحه لما قدر أحد على أن يثقبه!! هذا الذي هذه عظمته، وهذا سلطانه وقدرته عليكم يأمركم بوحيه المنزل من فوق سبع سماوات أن تتبعوا أوامره ونواهيه التي أنزلها على رسله، ولا تتبعوا أولياء غيره (جل وعلا)، ولا تشريعات غير شرعه (جل وعلا)، فيجب على جميع المسلمين أن يعلموا أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حَرَّمَه الله، والدين هو ما شرعه الله، والمُتَّبَعُ هو نظام الله الذي أنزله في هذا القرآن على سيد الخلق (صلوات الله وسلامه عليه). فالذين يتمردون على هذا الأمر ويسمعون في القرآن: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ ويقولون: لا، لا يمكن أن نتبع ما أُنزل إلينا من ربنا بل نتبع قانون نابليون، أو قانون فلان، أو فلان من القوانين الوضعية المستوردة المتمردة على نظام خالق السماوات والأرض!! هذا أمر لا يليق، وصاحبه ليس من الإيمان في شيء؛ لأن هذا الكون ليس فوضى، وإنما له خالق جبار ملك عظيم قهار خالق كل شيء، وبيده كل شيء، وإليه مرجع كل شيء، ولا يقبل أبداً ولا يرضى أبداً أن يُتبع شيء إلا الشيء الذي أنزل هو (جل وعلا) على رسوله الكريم لينذر به ويذكر به المؤمنين، فهذا هو الذي ينبغي أن يُتبع، وهو نظام السماء الذي يحفظ لبني آدم في دار الدنيا أديانهم أتم الحفظ، ويحفظ لهم أنفسهم، ويحفظ لهم عقولهم، ويحفظ لهم أنسابهم، ويحفظ لهم أموالهم، ويحفظ لهم أعراضهم، إلى غير ذلك من مقوماتهم الدينية والدنيوية، فيجب اتباعه وعدم العدول عنه إلى غيره.
وكذلك الصفات التي هي من صفات المعاني على التحقيق، والمؤولون من الكلاميين يزعمون أنها من صفات الأفعال، وهي صفات معنى لا شك فيها، كالرأفة، والرحمة، وما جرى مجرى ذلك. فإن الله وصف بها نفسه قال: ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل: آية ٤٧] ووصف بها بعض خلقه فقال في صفة نبينا (صلوات الله وسلامه عليه): ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (١٢٨)﴾ [التوبة: آية ١٢٨].
وصف نفسه بالحلم ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [الحج: آية ٥٩] ووصف بعض خلقه بالحلم ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ (١٠١)﴾ [الصافات: آية ١٠١] ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: آية ١١٤] ونحو ذلك من الآيات.
وكذلك صفات الأفعال وصف نفسه بها ووصف خلقه بها، وصف نفسه بأنه المعلّم قال: ﴿الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)﴾ [الرحمن: الآيتان ١، ٢] ووصف مخلوقه بأنه يعلّم، وجمع الوصفين في قوله: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ [المائدة: آية ٤].
ووصف نفسه بأنه المُنبئ قال: ﴿قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [التحريم: آية ٣].
ولو تَتَبَّعْنَا هَذَا لأَطَلْنَا فيه الكلام، فحَاصِل هذا أن جميع الصفات التي يذكرها علم الكلام جاء بالقرآن العظيم وصف الخالق بها ووصف المخلوق، فيجب علينا أن نتمشى مع القرآن، ونسلك طريق الحق الواضح الذي لا تبعة فيه، ولا غرر فيه، ولا سخط من
وحاصل هذا أن التحقيق الذي لا شك فيه -إن شاء الله- أن الأموال المغنومة التي انْتَزَعَها المسلمون من الكُفَّارِ أنّهَا نوعان: الأرض، وغير الأرض. أما الأرض فلا يَتَعَيَّنُ قَسْمها بينهم، والإمام مُخَيَّرٌ فيها، فإن رأى مَصْلَحَة المسلمين في قَسْمِها قَسَمَها، وإن رأى مصلحة المسلمين في إبقائها وقْفاً علَيْهِمْ أبْقَاهَا وَقْفاً ينتفع بها آخر المسلمين. قال بعض العلماء: والقرآن يشير لهذا؛ لأنه لو لم يكن يقول يبقى لآخر المسلمين شيئاً لما قال الله في المستحقين: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا﴾ [الحشر: الآية ١٠] لأنه قال أولاً: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾ ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا﴾ [الحشر: الآيات ٨ - ١٠] وقال بعض العلماء: لا دَلِيلَ لِلْغَنِيمَةِ فِي آية الحشر هذه؛ لأنها في الفَيْء، قد أفتى مالك بن أنس (رحمه الله) أن الذين يسبون أصحاب رَسُول الله ﷺ أنهم لا حق لهم في فَيْءِ المسلمين، ولما نُوقِشَ في ذلك قال: هؤلاء الذين سَبُّوا أصحاب رَسُول الله ﷺ لا حَقَّ لهُمْ فِي فَيْءِ المسلمين؛ لأن الله لما ذكر الذين يُعْطَوْن فيء المسلمين من الأصناف قال: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ﴾ أهَؤُلاَءِ من الفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم؟ قالوا: لا. قال: أهم من الذين قيل فيهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ قالوا: لا.
قال: وأنا أشهد أنهم ليسوا من الصنف الثالث الذين قال الله فيهم: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بل هؤلاء جاءوا يسبونهم ويعيبونهم فليسوا منهم قطعاً فتبين


الصفحة التالية
Icon