السادسِ، وذلك ضمنَ تفسيرِ الآيةِ رقم (١٠١) من سورةِ الأعرافِ: «وَقَدْ ذَكَرْنَا فيما مَضَى في الكلامِ على قولِه: ﴿قَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ﴾ [الأنعام: آية ١٥٧] تصريفَ هذه الكلمةِ وما جاءَ من أمثلتِها في القرآنِ ببعضِ أمثلتِها، وكانَ ذلك الذي ذَكَرْنَا هنالك سَقَطَ منه قِسْمٌ نِسْيَانًا، وكنا نَتَحَرَّى إِنْ جَاءَتْ لها مناسبةٌ أخرى أن نُبَيِّنَ القسمَ الذي سقطَ من كلامنا سَهْوًا لئلا يضيعَ على بعضِ طلبةِ العلمِ الذين يسمعون هذه الدروسَ... » إلى آخرِ ما ذَكَرَهُ (رحمه الله).
ومع هذه الغزارةِ في المعلوماتِ؛ فقد كان الشيخُ (رحمه الله) حين يُلْقِي درسَه كالسيلِ المنحدرِ؛ فهو يُسْرِعُ في الإلقاءِ، وتتواردُ عليه هذه المعلوماتُ المتنوعةُ، التي تَمُدُّهُ بها تلك الذاكرةُ النادرةُ، فيضعُ كُلَّ معلومةٍ في مَوْضِعِهَا، فتأتي متسقةً مترابطةً، كُلُّ ذلك في لغةٍ عاليةٍ، لا لَحْنَ فيها ولا سُوقِيَّة (١).
ومع هذا الإسراعِ في العرضِ، بالإضافةِ إلى ذلك الكمِّ الهائلِ من المعلوماتِ المتنوعةِ، مع ما في ضِمْنِ ذلك من عَزْوٍ للقراءاتِ إلى قارئيها، والأحاديثِ إلى مُخَرِّجِيهَا، والأقوالِ والمذاهبِ الفقهيةِ لأصحابِها، والأشعارِ والشواهدِ لقائلِيها، إلى غيرِ ذلك مِمَّا عَرَضَ له في هذا التفسيرِ؛ فإنك مع ذلك كُلِّهِ يَنْدُرُ أن تقولَه على غلطٍ مُحَقَّقٍ، وقد تَتَبَّعْتُ كُلَّ ما يذكره في هذا التفسيرِ بُغْيَةَ تَوْثِيقِهِ فَهَالَنِي قوةُ ضَبْطِهِ وحفظِه وإتقانِه. ولعلَّ من الطريفِ أن أذكرَ أن الشيخَ (رحمه الله) عند كلامِه على القراءاتِ في معرضِ تفسيرِه للآيةِ رقم (٦١) من سورةِ براءة أخطأَ فنسبَ قراءةَ الخفضِ في قولِه
_________
(١) انظر: علماء ومفكرون عرفتهم (١/ ١٨٢).
هي النخلةُ الطويلةُ - قال بعضُ العلماءِ: ذَكَرَ الدانيةَ لأَنَّ النعمةَ بها أَتَمُّ؛ لأن ثمرَها يوجدُ بلا تعبٍ ولا كُلْفَةٍ. بخلافِ السَّحُوقِ فإنها لابد مِنْ أن يُصْعَدَ عليها (١).
وقال بعضُ العلماءِ: هنا حَذَفَ الواوَ وما عَطَفَتْ عليه: وَمِنَ النخلِ مِنْ طَلْعِهَا قنوانٌ دانيةٌ وسَحُوق (٢). أي: نَخْلٌ طوَالٌ.
وقولُه: ﴿قِنْوَانٌ﴾ مبتدأٌ، خبرُه الجارُّ والمجرورُ قَبْلَهُ (٣).
وقولُه: ﴿مِنْ طَلْعِهَا﴾ بدلٌ من قولِه: ﴿وَمِنَ النَّخْلِ﴾ (٤).
و ﴿قِنْوَانٌ﴾ في مَحَلِّ مبتدأٍ، و ﴿دَانِيَةٌ﴾ نعتٌ له.
والخبرُ قولُه: ﴿وَمِنَ النَّخْلِ﴾ (٥).
وقولُه: ﴿مِنْ طَلْعِهَا﴾ جارُّ ومجرورٌ مُبْدَلٌ من الجارِّ والمجرورِ قَبْلَهُ، وهذا معروفٌ.
وقولُه: ﴿وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ﴾ جماهيرُ القراءِ قَرَؤُوا: ﴿وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ﴾ (٦) هو معطوفٌ على قولِه: ﴿نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ مِنْ عَطْفِ الخاصِّ على العَامِّ (٧). أي: فَأَخْرَجْنَا به نباتَ كُلِّ شيءٍ، وَأَخْرَجْنَا به
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٤٨)، البحر المحيط (٤/ ١٨٩).
(٢) السابق.
(٣) انظر: القرطبي (٧/ ٤٨)، البحر المحيط (٤/ ١٨٩)، الدر المصون (٥/ ٦٩).
(٤) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٨٩، ١٩٠)، الدر المصون (٥/ ٦٩).
(٥) انظر: القرطبي (٧/ ٤٨)، البحر المحيط (٤/ ١٩٠)، الدر المصون (٥/ ٦٩).
(٦) تقدمت هذه القراءة قريبًا، وأشرت هناك إلى القراءة الأخرى، وهي برفع (جنات).
(٧) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٩٠)، الدر المصون (٥/ ٧٥).
وبهذا تعلمون أن من يقوم ويعلن في وقاحة أمام جميع الدنيا أنه لا يتبع ما أنزله الله إلى سيد الخلق (صلوات الله وسلامه عليه)، والله يأمر باتباع ما أنزل وتَرْكِ اتباع غيره، وهو يعلن إذا كان رئيساً لقوم باسم الذين يزعم أنه مُمَثِّلهم أنه لا يحكم بما أنزل الله، ولا يتبع ما أنزل الله، بل يحكم بقانون آخر وَضْعِي وضَعَه زنادقة كَفَرَة فجرة مُظْلِمَةٌ قلوبهم، هم في أصل وضعه عالة على علماء المسلمين، زنادقة كفرة فجرة، يرْغَب عن تَنْزِيل رب العالمين المأمور باتباعه فيذهب إلى وضع الخنازير الكفرة الفجرة، يعتقد أنه هو الذي ينظم علاقات الحياة، زاعماً أن القرآن تقاليد قديمة، وأنَّ رَكْبَ الحضَارَة تَطَوَّرَ عنها، وأن الدنيا تطورت في أحوالها الراهنة تطوراً بعد نزول القرآن لا يمكن أن ينظمها القرآن!! فهذا كلام الفَرَاعنة الجهلة المتمردين على نظام السماء، ولا يوجد في الدنيا نظام يضبط علاقات الخلق وينشر الطمأنينة والرخاء والعدالة مثل نظام السماء الذي وضعه خالق السماوات والأرض (جل وعلا). والقرآن بَيَّنَ لنا في آيات كثيرة أن الذي يَتَمَرَّد على هذا الأمر في آية سورة الأعراف: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ ولم يتبع ما أُنزل إليه مِنْ رَبِّه، واتبع القوانين والنُّظم الوضعية بين لنا في غير ما آية أنه كافر، وأن ربه الشيطان، وأن مصيره إلى النار خالداً مخلداً.
[١/ب] / [والآيات القُرْآنية الدَّالة على هذا كثيرة جدّاً، من ذلك ما بَيَّنَّاهُ مراراً أن إبليس عليه لعنة الله، لما جاء تلامذته وإخوانه من أهل مكة، وأراد أن يُهيئ لهم وحي الشياطين ليجادلوا به النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: سلوا محمداً عن الشاة تُصْبِح ميتة، من هو الذي قتلها؟ فلما أخبرهم أن الله هو الذي قتلها، قالوا له من وحي الشيطان: ما
رب السماوات والأرض يستوجبه، فنضع كل شيء في موضعه، فنثبت للخالق صفته على وجه الكمال والجلال وغاية التنزيه عن مشابهة الخلق، ونثبت للمخلوق صفته على الوجه الملائم للمخلوق، المناسب للمخلوق، المتواضع المنحط المتسافل عن صفة الخالق (جل وعلا)، ونعلم أن كلاً حقٌّ في موضعه، وأنه لا مناسبة بين صفة الخالق والمخلوق حتى نشبهها بها، أما الذهاب بصفة الخالق إلى صفة المخلوق فهذا غلط لم يقله أحد من السلف الصالح، وهو غلط حدث من مقالات الكلام؛ لأنه لما دخل علم الكلام وصارت الناس تُحكم العقول، ولو كان كذا لكان كذا، وتُجري العقائد على الأقيسة المنطقية جاءت البلايا؛ لأن كلاً يظن صحة الربط بين هذا اللازم والملزوم فينتج منهما قضية، ويكون الربط بينهما منفكًّا فيأتي الآخر ويبين انفكاك الربط بينهما، وصارت مقالات وطوائف كل منهما تكذّب الأخرى، وتُقيم الدليل والبرهان العقلي في زعمها على أن الحق معها والغلط مع غيرها.
ونحن نقول: إن الفصل في كل شيء هو هذا المحكم المنزل، والنور الذي أنزله رب العالمين على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يوضح الحقائق، ويكشف ظلمات الجهل، ويبين الحقيقة ناصعة واضحة على وجهها الأكمل، وقد بين لنا الطريق المثلى، والمعتقد الصَّواب الذي لا شك فيه، وهو أنّا نُنَزِّه ربنا عن مشابهة صفات الخلق، ونؤمن بما وصف به نفسه، ونُصَدِّقه على أساس ذلك التَّنْزِيهِ، ونَقِف عند حَدِّنا، ونعرف قَدْرَنَا وقَدْرَ عقولنا ولا نَتَجَاوز حَدَّنَا. هذه طريق القرآن، وهي طريق مأمونة لا غائلة وراءها ولا عاقبة سيئة، وعلى هذا فقوله جل وعلا: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
أنهم لا حق لهم (١).
وعلى كل حال فجميع المال المغنوم يقسم بين الغانمين، والأرض فيها للعلماء ثلاثة مذاهب معروفة كل واحد منها لصاحبه عليه أدلة (٢):
أحدها: أنها تكون غنيمة وتقسم، وهو مذهب الإمام الشافعي، واستدل بعموم قوله: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: الآية ٤١] وكان مالك بن أنس (رحمه الله) يرى أن أرض الكفار عندما يفتتحها المسلمون تصير بمجرد استيلاء المسلمين عليها وقفاً للمسلمين آخرهم يستوون فيها جميعاً لمصلحة الإسلام العامة، وللإعانة على تعبئة الجيوش، والرد عن بيضة الإسلام، والدفاع عن المؤمنين في المستقبل.
وقوم قالوا: يخير الإمام إن رأى قَسْمها مصلحة قَسمها. وهذا مذهب الإمام أحمد، ويُروى عن أبي حنيفة نحوه والله تعالى أعلم. وهذا القول بالتخيير هو أقواها دليلاً؛ لأنه تنتظم به الأقوال، وتجتمع به النصوص، والجمع واجب إذا أَمْكَنَ. أما الأخْمَاسُ الأرْبَعَةُ مِنَ
_________
(١) استنباط مالك (رحمه الله) ذكره القرطبي في التفسير (١٨/ ٣٢) ونصه: «من كان يُبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ:

﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾». وهو في ابن كثير (٤/ ٣٣٩).
أما المحاورة التي أوردها الشيخ (رحمه الله) فقد أوْرَدَ نَحْوَهَا السيوطي في الدر (٦/ ١٩٨) عن ابن عمر (وليس في موضوع الفيء). وأورد القرطبي (١٨/ ٣٢) نحوها عن عَلِيّ بن الحسين كذلك (وليس في موضوع الفيء).
(٢) انظر: الأضواء (٢/ ٣٦٧).


الصفحة التالية
Icon