تعالى: ﴿ورحمةٍ﴾ إلى الكسائيِّ، فَتَرَدَّدْتُ في التعليقِ على ذلك لِمَا عهدتُه من ضَبْطِه وحفظِه، ثم وجدتُه بعد أن جاوزَها وتكلمَ على بعضِ المسائلِ يَرْجِعُ ويقول: «وأما على قراءةِ حمزةَ الذي قرأَ ﴿ورحمةٍ﴾ بالخفضِ - هو حمزةُ لا الكسائي - أما على قراءةِ حمزةَ... » إلى آخرِ ما ذَكَرَ.
ولربما عزَا الحديثَ إلى بعضِ المصنفاتِ فَتَطَلَّبْتُهُ فيه مرةً بعد مرةٍ بشتى الطرقِ المعروفةِ في تخريجِ الحديثِ حتى إذا كِدْتُ أن أجزمَ بعدمِ وجودِه فيه وجدتُه بعد ذلك في غيرِ مَظَانِّهِ.
هذا وقد جَرَى كثيرٌ من المفسرين على إيرادِ الأدلةِ والتفصيلاتِ المختلفةِ عندَ أولِ مناسبةٍ تَعْرِضُ لهم، ثم إذا تَكَرَّرَ نظائرُ لذلك فإنهم يكتفونَ بالإشارةِ لِمَا حَرَّرُوهُ في الموضعِ المتقدمِ، وهذا أمرٌ يُفِيدُ في اختصارِ حجمِ الكتابِ بلا رَيْبٍ وإن كان يؤثرُ على القارئِ كما لا يَخْفَى، وقد جرى على هذه الطريقةِ الشيخُ نفسُه في كتابِه: "أَضْوَاءِ الْبَيَانِ".
وأما الطريقةُ الثانيةُ وهي أن يُبَيِّنَ ما احتاجَ إلى بيانٍ في كُلِّ موضعٍ، وإن كان ذلك متكررا، فهذه الطريقةُ أنفعُ للقارئِ من التي قَبْلَهَا خاصةً في التفسيرِ، يقول الشيخُ عبدُ الرحمنِ بنُ سَعْدِي (رحمه الله): «اعْلَمْ أن طريقتي في هذا التفسيرِ أَنِّي أذكرُ عندَ كُلِّ آيةٍ ما يحضرني من معانيها ولا أَكْتَفِي بِذِكْرِي ما تَعَلَّقَ بالمواضعِ السابقةِ عن ذِكْرِ ما تعلقَ بالمواضعِ اللاحقةِ؛ لأن اللَّهَ وَصَفَ هذا الكتابَ أنه: ﴿مَّثَانِيَ﴾ ثَنَّى فيه الأخبارَ والقصصَ والأحكامَ وجميعَ المواضيعِ النافعةِ لِحَكَمٍ عَظِيمَةٍ، وَأَمَرَ بِتَدَبُّرِهِ جميعِه لِمَا في ذلك من زيادةِ العلومِ والمعارفِ وصلاحِ
جناتٍ من نخيلٍ وأعنابٍ. ولم يَقُلْ: وجناتٌ من أعنابٍ؛ لأن جناتِ الأعنابِ ليست من قِنْوَانِ النخيلِ. ولو رُفِعَ في قولِه: «وجناتٌ من أعنابٍ» لَصَارَ المعنَى: من النخلِ قِنْوَانٌ دانيةٌ، ومن النخل جناتٌ من أعنابٍ. وهذا لا يَصِحُّ. وعلى بعضِ القراءاتِ: ﴿وَجَنَّاتٌ﴾ بالرفعِ، قالوا: يُقَدَّرُ له محذوفٌ. أي: ولهم من نِعَمِهِ - جل وعلا - جَنَّاتٌ من أَعْنَابٍ (١).
(الجنات) جمع الجنةِ، والجنةُ في لغةِ العربِ: البستانُ (٢). ومنه قولُه تعالى: ﴿أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا﴾ [القلم: آية ١٧]، هو بستانٌ معروفٌ وَقَعَتْ فيه هذه القضيةُ. أصلُ الجنةِ: البستانُ. والعربُ تُسَمِّي كُلَّ بستانٍ (جنةً). وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قَوْلُ زُهَيْرٍ (٣):

كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقتَّلَةٍ مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا
يعني: بستان نخلٍ نخلُه طِوَالٌ؛ لأَنَّ السُّحُقَ: جمع سَحُوقٍ، وهو النخلةُ الطويلةُ. هذا أصلُ الجنة في لغةِ العربِ.
وهي في اصطلاحِ الشرعِ: دارُ الكرامةِ التي أَعَدَّ اللَّهُ لعبادِه المؤمنين، فيها ما لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)﴾ [السجدة: آية ١٧].
_________
(١) انظر توجيه قراءة الرفع في: حجة القراءات ص ٢٦٤، القرطبي (٧/ ٤٩)، البحر المحيط (٤/ ١٩٠)، الدر المصون (٥/ ٧٦).
(٢) انظر: المفردات (مادة: جنَّ) ص ٢٠٤.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
ذبحتموه بأيديكم -يعنون المذكاة - تقولون: حَلاَل وطاهر وطيب مستلذ، وما ذبحه الله بيده الكريمة -يعنون الميتة، أن الله قتلها- تقولون: هو حرام ميتة مستقذر، فأنتم إذاً أحسن من الله!! وأنزل الله في وحي الشياطين جواباً لنبيه عنه قوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: آية ١٢١] يعني: الميتة، وإن زعم أولياء الشيطان أنها ذبيحة الله، ثم قال: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ أي: وإن أكل الميتة لفسق، وخروج عن طاعة الله، ثم قال -وهو محل الشاهد-: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ وإن أطعتموهم في تحليل الميتة إنكم لمشركون.
اعلم أن تحليل الميتة وتحريمها ليس عقيدة من العقائد، ولا أصلاً من الأصول، وإنما هو فرع من الفروع، مضغة لحم شرّع الله على لسان نبيه تحريمها؛ لأنها ماتت ولم يُذكر عليها اسم الله، وشرّع إبليس على لسان أوليائه تحليلها، فهذا نظام إبليس، وهو تحليل الميتة، وهذا نظام خالق السماوات والأرض الذي شرعه على لسان نبيه. فالله يقول: هذه ماتت حتف أنفها، ولم تُذَك ولم يُذكر اسم الله عليها. والشيطان يُشرّع بفلسفته ويقول:] (١) الحلال ما قتله الله، وهو ذبيحة الله، وأن المذكاة التي سُمي عليها الله أنها ليست أحل من الجيفة؛ لأنكم أنتم الذين قتلتموها، وقَتْل الله أحل من قتلكم!! هذا وحي الشيطان، وفلسفة الشيطان، يريد أن يحلل لحم الميتة!! ونظام السماء يحرم لحم الميتة على لسان الرسول مأموراً بقوله: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ ومنه تحريم الميتة، أنزل الله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ
_________
(١) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل وتم استدراك النقص مما سبق عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.
إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)} [الأعراف: آية ٩٩] نقول: هذه صفة مَدَحَ اللهُ بها نَفْسَهُ، وهذا الذي أثْنَى بِهِ على نفسه فهو لا شك أنه في غاية اللياقة والكَمَالِ والجَلالِ، والسلامة من النقص والمباعدة عن مشابهة مكر المخلوقين وصفاتهم، فنثبته ونصدق الله بما وصف به نفسه منزهين ربنا غاية التنزيه، معترفين بالقصور والوقوف عند حدنا كما بين في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: آية ١١] وقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠)﴾ [طه: آية ١١٠] وقد بينا أن بعض مكر المخلوقين -ولله المثل الأعلى- قد يكون في غاية الاستحسان عند الناس، كما بَيَّنَّا أنه لو كان الرجل في غاية الشر وعِظَم الأذِيَّة على العامة، يقتلُ هذا، ويسبي هذا، ويأخذ مال هذا، ويظلم هذا، والناس عاجزون عنه، حتى جاءه رجل عظيم معروف بالفضل والمروءة والخير واحتال عليه بطرق خفية حتى قدر على قتله وأراح المسلمين منه، فكل الناس يقولون: إن كيدك هذا لفي غاية الكمال، وفي غاية الحسن، وفي غاية اللياقة والقبول عند عقول المخلوقين. هذا في كيد مخلوق، فما ظنك -ولله المثل الأعلى- بخالق السماوات والأرض جل وعلا.
يقول الله جل وعلا: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (١٠٠)﴾ [الأعراف: آية ١٠٠].
قوله في هذه الآية الكريمة: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ﴾ قال جمهور علماء التفسير: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ﴾ معناه: أولم يُبيِّن للذين؟ فـ (هدى) تستعمل في معنى (بيّن) ومنها هذه كما رُوي عن غير واحد
الأرْضِ المقْسُومَةِ إذا اقتضى نظر الإمام أن يقسمها أو مِنْ غَيْرِ الأرض كالذَّهَبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ والإِبِل ونحو ذلك، أما هذه الأخماس الأربعة فهي للغانمين تقسم بينهم.
واختلف العلماء: هل يجوز للإمام أن ينفل من هذه الأخماس الأربعة شيئًا؟ (١) فكان مالك بن أنس رحمه الله -إمام دار الهجرة- يرى أن الإمام لا يجوز له أن يُنَفِّلَ شَيْئاً مِنْ هذه الأخماس الأرْبَعة، وإنما ينفل من الخمس الذي قال الله فيه أنه لله وللرسول ولذي القُرْبَى إلى آخر مصارفه.
وذهبت جماعة من العلماء إلى أن للإمام التَّنْفِيلَ مِنْهُ. وكون الإمام له التنفيل منه هو الحق -إن شاء الله- الذي قامت عليه النصوص التي لا تَكَادُ تُدْفَع.
وتنفيل الإمام من الأخْمَاسِ الأرْبَعَةِ الَّتِي هي للمجاهدين يكون على أنواع، منها: أن ينفل السرايا ويقول للسَّرِيَّةِ: اخْرجي إلى أرْضِ الكُفَّارِ، فَمَا غَنِمْتِ فَقَدْ نَفَّلْتُكِ مِنْهُ كَذا، وقد جاء حديث ثابت عن النبي ﷺ أنه نفل السرايا في البدء الرُّبْع، وفي العودة الثلث. هذا حديث ثابت رواه مكحول (٢) عن حبيب بن مسلمة (٣)، وهو صحابي،
_________
(١) السابق (٢/ ٣٥٧).
(٢) الحديث من رواية مكحول عن زياد بن جارية عن حبيب بن مسلمة.
(٣) أخرجه أحمد (٤/ ١٥٩، ١٦٠)، والدارمي (مع شيء من المغايرة في اللفظ والمعنى) (٢/ ١٤٧)، وأبو عبيد في الأموال ص٢٨٩، والحميدي (٢/ ٣٨٤)، وأبو داود في الجهاد، باب فيمن قال: الخمس قبل النفل. حديث رقم (٢٧٣٣) (٢/ ٤٢٤)، وابن ماجه في الجهاد، باب: النفل. حديث رقم (٢٨٥٢) (٢/ ٩٥١)، وابن حبان الإحسان (٧/ ١٦١)، والحاكم (٢/ ١٣٣)، (٣/ ٣٤٧، ٤٣٢)، وابن الجارود (٣/ ٣٣٤). وانظر: صحيح أبي داود (٢/ ٥٢٥)، صحيح ابن ماجه (٢/ ١٣٩).


الصفحة التالية
Icon