الظاهرِ والباطنِ وإصلاحِ الأمورِ كُلِّهَا» اهـ (١).
ثم إن الْحَاجَةَ لذلك تَعْظُمُ إذا كان التفسيرُ دَرْسًا يُلْقَى في سنين متطاولةٍ في مواسمَ معينةٍ مع ما بَيْنَهَا من التباعدِ في المدةِ وما يحصلُ مع ذلك من النسيانِ لَدَى السامعين؛ إضافةً إلى تَجَدُّدِ الكثيرِ من الوجوهِ في كُلِّ مَرَّةٍ؛ ولذا جَرَى الشيخُ (رحمه الله) في هذا التفسيرِ على بيانِ الآيةِ من جميعِ الوجوهِ مع صَرْفِ النظرِ عن كَوْنِ ذلك يقعُ مُتَكَرِّرًا، فنجدُه يُبَيِّنُ أَنَّ: ﴿لَعَلَّ﴾ تأتي لمعنى التعليلِ في جميعِ القرآنِ إلا في موضعٍ واحدٍ؛ يذكر ذلك في أحدَ عشرَ موضعًا، وَيُنَبِّهُ على الفرقِ بين النبأِ والخبرِ في تسعةِ مواضعَ، كما نَجِدُ بعضَ القضايا يُكَرِّرُهَا في ثمانيةِ مواطنَ كبيانِ الفرقِ بينَ الخوفِ والحزنِ، ولزومِ الحملِ على ظاهرِ القرآنِ إلا لدليلٍ، وأن الشيءَ قد يُقْصَرُ على بعضِ أفرادِه؛ لأنهم المنتفعون به، وقضيةُ الحكمِ بغيرِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ، وأن عِلْمَ الغيبِ يختصُّ بِاللَّهِ (عز وجل)، وهناك بعضُ المسائلِ التي تَكَرَّرَتْ في سبعةِ مواضعَ، كالكلامِ على أطوارِ خلقِ الإنسانِ، وأن الله خَلَقَ الخلقَ ليختبرهم في إحسانِ العملِ، وشرحِ الأُسُسِ الثلاثةِ التي يُبْنَى عليها الاعتقادُ في بابِ الأسماءِ والصفاتِ، والردِّ على القدريةِ القائلين بأن اللَّهَ لم يَشَأِ الكفرَ والمعاصيَ، والمناظرةُ المشهورةُ التي وَقَعَتْ بين أبي إسحاقَ الإسفرائيني والقاضي عبدِ الجبارِ المعتزليِّ في القدرِ، وغير ذلك مما تَكَرَّرَ هذا التَّكَرُّرَ في هذا التفسيرِ، وأما القضايا التي تَكَرَّرَتْ دونَ ذلك فهي كثيرةٌ لا أُطِيلُ بِذِكْرِهَا، عِلْمًا بأن ما بِأَيْدِينَا من هذه الدروسِ إنما يُمَثِّلُ أجزاءً قليلةً من هذا التفسيرِ الْمُبَارَكِ، فكيف لو وُجِدَ كَامِلاً؟
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن ص٢٨.
﴿وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ﴾ الأعنابُ: جمعُ العنبِ، وهو الثمرُ المعروفُ.
وفي العنبِ غرائبُ وعجائبُ؛ لأنها ثمرةٌ كأن جُلَّهَا يُمْسِكُهُ اللَّهُ جل وعلا (١).
﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾ أما قولُه: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾ فلم يَقْرَأْهُ أحدٌ كائنًا ما كان إلا بالنصبِ.
أما ﴿وَجَنَّاتٍ﴾ فقراءةُ الجمهورِ: ﴿وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ﴾ وفي بعضِ القراءاتِ ﴿وَجَنَّاتٌ﴾ بالرفعِ.
أما ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾ فَقَرَأَهُ عامةُ القراءِ بالنصبِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ.
الزيتونُ: هو الشجرُ المعروفُ، وهو الذي وَصَفَهُ اللَّهُ بالبركةِ في قولِه: ﴿يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: آية ٣٥] لأن منافعَ الزيتونِ كثيرةٌ؛ لأنه وَقُودٌ وَدُهْنٌ وِإِدَامٌ، إلى غيرِ ذلك مِنْ مَنَافِعِهِ (٢). يذكرونَ أنه: أولُ شجرةٍ نَبَتَتْ في الأرضِ شجرةُ الزيتونِ، وأولُ شجرةٍ نبتت بعد الطوفانِ يزعمونَ أنها شجرةُ الزيتونِ، ويزعمونَ أن شجرةَ الزيتونِ هي أطولُ الشجرِ عُمْرًا، وأنها تَمْكُثُ في الأرضِ مَا لاَ تَمْكُثُهُ شجرةٌ غيرُها.
﴿وَالرُّمَّانَ﴾ مَعْرُوفٌ.
﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ كان بعضُ العلماءِ يقولُ: في الكلامِ حَذْفٌ دَلَّ المقامُ عليه، أي: والزيتونَ مشتَبِهًا وغيرَ
_________
(١) انظر: زاد المعاد (٤/ ٣٤٠).
(٢) انظر: زاد المعاد (٤/ ٣١٦ - ٣١٧)، أقسام القرآن ص٤٤.
يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ} [الأنعام: آية ١٢١] يعني: الميتة، وإن زعم أولياء الشيطان وأتباعه الذي يوحي إليهم أنه ذبيحة الله بسكين من ذهب، وأنه أحل من ذبيحة المسلمين. قال: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ﴾ ثم قال: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ أي: خروج عن طاعة خالقكم. ثم قال: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ يُعنى بـ (وحي الشيطان): قوله: ما ذبحتموه بأيديكم حلال، وما ذبحه الله حرام، فأنتم إذاً أحسن من الله!! ثم قال -وهو محل الشاهد-: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)﴾ [الأنعام: آية ١٢١] هذا فَصْل الله (جل وعلا) بين المتحاكمين إلى قانون الشيطان والمتحاكمين إلى قانون الرحمن، فقد اختصم أتباع الشيطان وأتباع رسل الرحمن في مضغة من لحم: هي لحم الميتة، فقال أتباع الشيطان: إنه حلال.
واستدلوا على ذلك بوحي الشياطين: أنها إنما قتلها الله، وما قتله الله ذبيحة الله، وذبيحة الله أحَلّ [من] (١) كلِّ شيء. هذا وحي الشيطان وتشريع الشيطان وإلقاء الشيطان إلى أتباع الشيطان. ثم إن الذي أنزل الرحمن على رسل الرحمن أن الميتة التي ماتت ولم تُذَكَّ ولم يذكر اسم الله عليها أنها ميتة يحرم أكلها ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ [البقرة: آية ١٧٣] ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: آية ١٢١] فهذه طائفة الشيطان تتبع قانونه ونظامه: أن هذا اللحم حلال!! وهذه طائفة أتباع رسل الرحمن تحكم بأن هذا اللحم حرام بتشريع خالق السماوات والأرض، ثم هذا فَصْلُ الله وحكمه بين الطائفتين، قال: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)﴾ [الأنعام: آية ١٢١] وإن أطعتموهم في تشريع إبليس، واتباع قانونه ونظامه في تحليل الميتة إنكم لمشركون بخالق السماوات والأرض؛ لأن التحريم والتحليل لا يكون إلا
_________
(١) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.
من علماء التفسير من الصحابة فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فمن إطلاق (هَدَى) بمعنى (بيّن): قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [فصلت: آية ١٧] أي: بيّنا لهم على لسان نبينا صالح، فهو هداية بيان لا هداية توفيق، بدليل قوله بعده: ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ الآية. ومن إطلاق (هدى) بمعنى البيان والإرشاد: قوله تعالى في الإنسان: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ [الإنسان: آية ٣] أي: بينّا له السبيل، وليست هداية توفيق، بدليل قوله بعده: ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ وهذا معنى قوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ﴾ [الأعراف: آية ١٠٠] أَوَ لَم يُبَيِّن للذين ﴿يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا﴾ اعلموا أولاً أن هذه الآية الكريمة من الآيات التي تشكل على كثير من المنتسبين للعلم، ويتبيَّن معناها ببيان إعرابها وإيضاح موضع الفاعل والمفعول منها، وفي ذلك ثلاثة أوجه معروفة لا يُكذب بعضها بعضًا (١):
الأول: أن الفاعل لقوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ﴾ ضمير عائد إلى الله ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ﴾ هو؛ أي: الله؛ أي: يبين هو، أي: الله ﴿لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا﴾ وعلى هذا فالمفعول في محل المصدر المنسبك من (أن) وصلتها في قوله: ﴿أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾ والمعنى: ألم يبين لهم الله أنه لو شاء إِصَابَتَهُم بذنوبهم لأصابهم بها، وكون الفاعل هنا ضميرًا يعود إلى الله تدل عليه قراءة بعض السلف: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ﴾ بالنون (٢)، فهي وإن كانت غير سبعية إلا أنها قرأ بها بعض السلف، وهي تفيد في التفسير. وعلى هذا المعنى أن الله بين لهؤلاء الأمم الذين أوْرَثَهُمُ الله في الأرض
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٣٩٣).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٣٤٩، ٣٥٠)، الدر المصون (٥/ ٣٩٣).
لا تابعي صغير (١)، ورواه بعضهم عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه (٢) - وهو ثابت، ومعنى تنفيل الربع في البدء، وتنفيل الثلث في العودة أن للإمام إذا كان المسلمون متوجهين إلى أرض الكفار أن يقول للسرية: اذهبوا إلى الكفار فما غَنِمْتُمْ مِنْهُمْ فقد نفلتكم ربُعَه. ولا ينفلهم أكثر من الرّبْع، فيكون الربع خالصاً لهم، والباقي هم والمسلمون فيه سواء. وأما تَنْفِيل الثلث في العودة: أن المسلمين إذا رجعوا من أرض الكفار -رجعوا من الغزو إلى بلادهم- فيجوز للإمام أن ينفل بعض السرايا في ذلك الوقت الثلث.
والفرق بين البدء والعودة: أن البدءة الكفار في غفلة، والمسلمون مُتَوَجِّهُون لبلادهم فخبرهم أهون، وأما في الرّجعة فالكفار في حذر ويقظة والمسلمون مُنْصَرِفُونَ عن بلادهم، فقضيتهم أصعب؛ ولذا نفل أكثر في الحالة الصعبة من الحالة التي هي أقل صعوبة (٣). هذا ثَابِتٌ ولا ينبغي أن يُخْتَلَفَ فِيهِ، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (٤).
_________
(١) انظر: الإصابة (١/ ٣٠٩) الأضواء (٢/ ٣٨٥).
(٢) أخرجه الدارمي (٢/ ١٤٧)، وأبو عبيد في الأموال ص٢٩٠، والترمذي في السير، باب ما جاه في النفل. حديث رقم: (١٥٦١) (٤/ ١٣٠). وقال: «وفي الباب عن ابن عباس، وحبيب بن مسلمة، ومعن بن يزيد، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع. وحديث عبادة حديث حسن» اهـ وانظر: ضعيف الترمذي ص١٨٤.
(٣) انظر: الأضواء (٢/ ٣٨٦).
(٤) انظر: الأوسط لابن المنذر (١١/ ١١١)، مسائل ابن هانئ (٢/ ١٠٥)، المغني (١٣/ ٥٣).


الصفحة التالية
Icon