مَوْقُفُهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الإِسْرَائِيلِيَّةِ:
إِنَّ الْمُطَالِعَ لكتبِ التفسيرِ يجدُ أن عَامَّتَهَا لم يَسْلَمْ من دخولِ الرواياتِ الإسرائيليةِ على تفاوتٍ بينها في ذلك، فَمِنْ مُقِلِّ ومن مُسْتَكْثِرٍ، مع أن التفسيرَ في غُنْيَةٍ عنها، إلا أن كثيرًا من المفسرين قد أُولِعُوا بالتتبعِ لتفاصيلَ لا طَائِلَ تحتها ولا فائدةَ في معرفتها، كما نَبَّهَ الشيخُ (رحمه الله) على ذلك عند تفسيرِ الآيةِ رقم (٧٣) من سورةِ البقرةِ؛ ولذا نَرَى الشيخَ في هذه الدروسِ لا يكاد يُورِدُ شيئًا منها إلا ما نَدُرَ، ثم يُنَبِّهُ على ذلك بعدَ إيرادِه أو قَبْلَهُ، كما قال عندَ تفسيرِ الآيةِ (٤٨) من سورةِ الأعرافِ: «وستأتي قصةُ الرجلِ في سورةِ الصافاتِ؛ لأن اللَّهَ ذَكَرَ في الصافاتِ قصةَ رجلٍ وَأَجْمَلَهَا، والمفسرون يَبْسُطُونَهَا وَيَشْرَحُونَهَا؛ إلا أن شَرْحَهُمْ لها وَبَسْطَهَا من القصصِ الإسرائيليةِ التي لا يُعوَّلُ عليها...» اهـ ثُمَّ أَوْرَدَ القصةَ، وكما في كلامِه على الآيةِ رقم (١٦٨) من سورةِ الأعرافِ حيث يقول: «وَجَرَتْ عادةُ المفسرين أن يَذْكُرُوا قصةً غريبةً عنهم في آيةٍ ذَكَرْنَاهَا قَبْلَ هذا من سورةِ الأعرافِ - ثم ذَكَرَ الآيةَ والقصةَ المشارَ إليها ثم عَقَّبَ ذلك بقوله - هكذا يقولون، وَتَكْثُرُ هذه القصةُ... في كلامِ المفسرين عندَ هذه الآيةِ الكريمةِ، وقد أَلْمَحْنَا بالآيةِ ولم نَذْكُرْهَا لأنها لم يَثْبُتْ عندنا فيها شيءٌ» اهـ وهكذا عند كلامِه على الآيةِ رقمِ (١٧٥) من سورةِ الأعرافِ حيث ذَكَرَ بعضَ الأقوالِ التي مُعَوَّلُهَا على الإسرائيلياتِ ثم عَقَّبَ ذلك بقولِه: «وَكُلُّ هَذِهِ إِسْرَائِيلِيَّاتٌ» ثم نَقَلَ كلامًا من قبيلِ الإسرائيلياتِ وَعَقَّبَهُ بقولِه: «وهذه إسرائيلياتٌ لا مُعَوَّلَ عليها يَذْكُرُهَا المفسرون» ثم نَقَلَ كلامًا لبعضهم من ذلك القبيلِ وَعَقَّبَهُ بقولِه: «وغير هذا من رواياتٍ كثيرةٍ إسرائيليةٍ يَحْكِيهَا المفسرون في تفسيرِ
متشابهٍ، والرمانَ مشتَبِهًا وغيرَ مُتَشَابِهٍ (١). أنها راجعةٌ لِكِلَيْهِمَا. وَحُذِفَ أحدُهما لدلالةِ المقامِ عليه، ونظيرُ هذا التفسيرِ من كلامِ العربِ قولُ عمرِو بنِ أحمرَ الباهليِّ (٢):

رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي
يَعْنِي كنتُ منه بَرِيئًا، وكان وَالِدِي بَرِيئًا.
ومنه قَوْلُ ضَابِئ بنِ الحارثِ الْبَرْجَمِيِّ (٣):
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ فَإِنِّي وقَيَّارًا بِهَا لَغَرِيبُ
وَهُوَ أسلوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ.
ومعنَى كونِ الزيتونِ مُشْتَبِهًا وغيرَ مُتَشابهٍ: أن شجرَه يتشابهُ ورقُه في القَدْرِ، ويتشابَه في نباتِه في جميعِ الغصنِ، وغيرُ متشابهٍ لأَنَّهُ أنواعٌ تختلفُ طُعُومُها. الذي يعرفُه يَجِدُ في اختلافِ طعمِه فُرُوقًا يستدلُّ بها على كمالِ قدرةِ مَنْ صَنَعَهُ، وأن صَانِعَهُ ليس بطبيعةٍ؛ لأَنَّ الطبيعةَ معنًى واحدٌ لاَ يَنْقَسِمُ، وكذلك الرمانُ: تجدُه متشابهًا بالمنظرِ، أغصانُه وورقُه مُتَشَابِهٌ، وقد تجدُ طعمَه مُتَبَايِنًا أَيْضًا كما هو مَعْرُوفٌ (٤).
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٩١)، الدر المصون (٥/ ٧٩).
(٢) البيت في الكتاب لسيبويه (١/ ٧٥)، الدر المصون (٢/ ٦٠٨).
وقوله: «الطوي» أي: البئر. وقد كان بينه وبين رجل خصومة فيها.
(٣) البيت في الكتاب لسيبويه (١/ ٧٥)، الخزانة (٤/ ٨١، ٣٢٣). وقيار: اسم فرسه.
(٤) انظر: ابن جرير (١١/ ٥٧٨)، القرطبي (٧/ ٤٩)، البحر المحيط (٤/ ١٩١)، الدر المصون (٥/ ٧٩).
للسلطة العليا التي لا يمكن أن تكون فوقها سلطة، وحكم الله هو كعبادته، فكما أنه يجب إفراده في عبادته يجب إفراده في حكمه؛ ولذا قال: ﴿وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ [الكهف: آية ١١٠] وقال: ﴿وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (١١٠)﴾ [الكهف: آية ٢٦] فجعل الحكم كالعبادة. وفي قراءة ابن عامر -كبير القراء، قارئ أهل الشام-: ﴿ولا تُشْرِكْ في حكمه أحدًا﴾ (١)
أي: لا تشرك أيها العبد في حكم ربك أحداً، فالحكم لله؛ لأن الحكم لا يمكن أن يكون إلا للأعظم الأكبر الأجل الذي ليس فوقه ولا أجلَّ منه شيء، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)﴾ [غافر: آية ١٢] فقوله: ﴿الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ هي مُمَيِّزة لمن يستحق أن يكون الحكم له، فإن كان الطواغيت الذين يتبع الخفافيشُ تعليمهم وأحكامهم هم العَلِيُّون الأكبرون فليتقدموا، وإن كانوا هم الأصاغر الأخسون الأذلون فليعلموا أن الحكم ليس إليهم وإنما هو للعلي الكبير خالق السماوات والأرض جل وعلا.
وقوله في هذه الآية: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)﴾ [الأنعام: آية ١٢١] هذا الشرك هو شرك أكبر مخرج عن الملة بإجماع المسلمين، فمن زعم أن الميتة حلال، وأنها ذبيحة الله، وأن وحي الشيطان حق، وأن نظامه أحق أن يُتبع، فإنه كافر بإجماع المسلمين، كما صرح الله بقوله: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)﴾ وهذا الشرك هو شرك أكبر مخرج عن الملة.
وهؤلاء المشركون المتبعون قانون الشيطان ونظام إبليس، هم الذين يوبخهم الله في سورة يس يوم القيامة على رؤوس الأشهاد: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَ تَعْبُدُوا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٦) من سورة الأنعام..
بعد أن أهلك أهلها، بيّن لهم بإهلاك الظالمين المكذبين للرسل واستخلافهم بعدهم، بيّن لهم بهذا إصابته لهم بذنوبهم لو شاء أن يصيبهم بها كما أصاب مَنْ قَبْلَهم، وهذا وجه لا إشكال فيه.
الوجه الثاني: أن الفاعل في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ﴾ ضمير عائد على ما كان يُذكر من قصص الأمم الماضية، والمعنى: ألم يبين قصص الأمم الماضية من إهلاك الله لها لما كذبت رسلها ألم يبين ذلك للذين يرثون الأرض أن الله قادر على إهلاكهم بذنوبهم كما أهلك من كان قبلهم لما كفروا وكذبوا رسله؟ وعلى هذين الوجهين فالمصدر المنسبك من (أن) المخففة من الثقيلة وصلتها في محل نصب على المفعول به.
الوجه الثالث: أن مفعول (يهد) محذوف، وفاعلها هو المصدر المنسبك من (أن) وصلتها، والمعنى: أولم يبين للذين يرثون الأرض إصابتُنا الأمم الماضية وإهلاكنا إياهم ألم يبين لهم ذلك أنَّا لو شئنا لأهلكناهم؟ أولم يبين لهم ذلك وخامة عاقبة أمر من عصى الله؟
وهذا هو حاصل معنى كلام العلماء في هذه الآية، يدور على أن الله (جل وعلا) أهلك الأمم الماضية التي كذبت الرسل كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وبيّن أن ذلك يدل على أن من أهلكهم بذنوبهم لو شاء لأهلك من جاء بعدهم بذنوبهم كما أهلك الأولين، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ (١٧) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨)﴾ [المرسلات: الآيات ١٦ - ١٨] وهذا معنى قوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا﴾ [الأعراف:
وهذا الذي ذكرنا يدل على أن الجُيُوشَ إذا خرجت للقتال في بلاد الكفر، وذهبت سرية وغنمت شيئاً، أن الجيش كله شركاء لهم في ذلك الذي غَنِمُوهُ، ولا يختص به دونهم، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء؛ لأن العلماء مجْمِعُونَ عَلَى أن جميع الجيش معهم فيما غنموا إلا ما نفلهم الإمام من ربع في البدءة أو ثلث في العودة.
ومن أنواع التَّنْفِيلِ الجَائِزَة للإمام الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن يُرْسِلَ الإمام سرية ثم -مثلاً- يعطيهم أنْصِبَاءهم من الغنيمة وينفلهم ما شاء، فقد ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ عن ابن عمر (رضي الله عنه) أنه أرسله النبي ﷺ مع سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ، فغنموا، وكانت سهمانهم اثني عشر بعيراً، اثني عشر بعيراً، ونُفِّلوا بعيراً بعيراً (١)، فنفلهم نصف السدس؛ لأن الواحد من الاثْنَيْ عَشَر نصف سدسها. وهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أنواع التَّنْفِيل التي تجوز للإمام: أن ينفل بعض الجيش المقاتلين، ويعطيه شيئاً خاصّاً لقوته وشدته على المشركين (٢)، وقد قدمنا حديث سعد بن أبي وقاص الدال على هذا في أول سورة الأنفال؛ لأن سعد بن أبي وقاص قُتل أخوه عمير بن أبي وقاص يوم بدر، قتله عمرو بن عبد ود العامري، ثم إن سعداً (رضي الله عنه)
_________
(١) البخاري في فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، حديث رقم: (٣١٣٤) (٦/ ٢٣٧)، وأخرجه في موضع آخر برقم: (٤٣٣٨).
ومسلم في الجهاد والسير، باب الأنفال، حديث رقم: (١٧٤٩) (٣/ ١٣٦٨).
(٢) انظر: الأضواء (٢/ ٣٨٦).


الصفحة التالية
Icon