هذه الآيةِ من سورةِ الأعرافِ لا طائلَ تَحْتَهَا ولا دليلَ على شيءٍ منها» اهـ.
وهذا يُعَدُّ مزيةً لهذا التفسيرِ كما لا يَخْفَى.
وكان من عادتِه (رحمه الله) أن يَخْتِمَ الدرسَ بدعاءٍ يُؤَمِّنُ عليه مَنْ حَضَرَ، وقد عَلَّلَ ذلك بقوله عند تفسيرِ الآيةِ رقمِ (٥٥) من سورةِ الأعرافِ في الكلامِ على قوله تعالى: ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾: «ونحنُ -وَإِنْ كُنَّا نعلمُ أن الإخفاءَ في الدعاءِ أفضلُ من [الجهرِ] به وندعو غَالِبًا في هذا المجلسِ دعاءً ظاهرًا، قَصَدْنَا به أن يَسْمَعَنَا إخوانُنا ويُؤَمِّنُونَ لنا فنكونُ مُجْتَمِعِينَ على الدعاءِ في هذا الشهرِ المباركِ، ولو أَسْرَرْنَا الدعاءَ لَمَا سَمِعُوهُ وَلَمَا أَمَّنُوا لنا، والمؤمِّنُ أحدُ الداعِيَيْنِ...» إلى آخِرِ ما ذَكَرَ.
الْقِيمَةُ الْعِلْمِيَّةُ لِهَذِهِ الدُّرُوسِ:
يمكنُ أن ألخصَ الكلامَ على هذه القضيةِ في الأمورِ الآتيةِ:
١ - عُلُوُّ كَعْبِ صاحبِها في العلمِ، ورسوخُه في التفسيرِ، الأمرُ الذي يجعلُ لاختياراتِه وترجيحاتِه قيمةً مُعْتَبَرَةً.
٢ - غَزَارَةُ المادةِ العلميةِ التي احْتَوَتْهَا هذه الدروسُ (١)؛ فهي - كما
_________
(١) وإذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك فاعلم أن هذا القدر الذي وقفنا عليه من هذا التفسير المبارك لا يمثل إلا أجزاء قليلة من القرآن لا تتجاوز الأربعة، ومع ذلك تجد فيها من الأحاديث والآثار - من غير المكرر - ما يقارب الخمسمائة، وفيها من الأشعار والشواهد والمنظومات ما يزبد على ستمائة بيت، وفيها من القراءات ما يقارب خمسين ومائتي قراءة، وأكثر من عشرين ومائة فرع فقهي، وفيه نحو هذا الكم من المسائل المتعلقة بالعقيدة، كما تجد فيه أكثر من سبعين قاعدة من القواعد المتنوعة، وما يقرب من سبعين إشكالا أجاب عنها، إضافة إلى ما يذكره من الفروق المتنوعة وهي تقارب الخمسين فرقا، فضلا عن القضايا الإعرابية والصرفية والبلاغية وغير ذلك.
كونُه يتشابهُ من جهةٍ، ويختلفُ من جهةٍ، هذا دليلٌ على كمالِ قدرةِ مَنْ خَلَقَهُ، وأن خالقَه ليس بطبيعةٍ؛ لأن الطبيعةَ عند مَنْ يَزْعُمُونَهَا معنًى واحدٌ، جوهرٌ لا يَتَقَسَّمُ، ولا يقبلُ الانقسامَ. يستحيلُ أن تؤثرَ الطبيعةُ في مطبوعين مختلفين. فالنارُ لَوْ فَرَضْنَا - كما يقولونَ - «إنها بطبيعتِها تَحْرِقُ» فلا يمكنُ أن يكونَ من طبيعتِها الإبرادُ، وكذلك السكينُ، وقلنا: «طبيعتُها القطعُ» فلاَ يكونُ من طبيعتِها الوصلُ، وهكذا. فلا يمكن أن تكونَ الطبيعةُ الواحدةُ تنتجُ أشياءَ مختلفةً.
واختلافُ هذه الأشياءِ دليلٌ على أن فاعلَ ذلك صانعٌ مختارٌ يفعلُ ما يشاءُ، كما نَبَّهَنَا على ذلك في أولِ سورةِ الرعدِ؛ لأن الله (جل وعلا) في أولِ سورةِ الرعدِ لَمَّا بَيَّنَ غرائبَ صنعِه وعجائبَه، نَبَّهَ خلقَه أن ما يزعمُه الكفرةُ الفجرةُ الكلابُ أبناءُ الكلابِ، مِنْ أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ (جل وعلا) في هذا الكونِ من غرائبِه وعجائبِه، أنه فِعْلُ طَبِيعَةٍ، أَلْقَمَهُمُ الحجرَ في أولِ سورةِ الرعدِ، ذلك أن اللَّهَ لَمَّا قال: ﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ ثم نَوَّهَ بشأنِ هذا القرآنِ: ﴿وَالَّذِيَ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (١)﴾ ذَكَرَ صفاتِ خالقِ هذا الكونِ: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)﴾ ثم قال - هو مَحَلُّ الشاهدِ-: ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ﴾ وفي قراءةٍ أُخْرَى (١): ﴿وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ﴾ وفي
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٥١.
الشَّيْطَانَ} معنى عبادتهم للشيطان ليس معناها: أنهم سجدوا له ولا صاموا ولا صلوا، وإنما معناها: أنهم اتبعوا ما شرع لهم من وحي الشياطين، وأخذوا بقانونه ونظامه في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، قال الله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (٦٠) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (٦١)﴾ ثم قال: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً﴾ والله لقد أضل الشيطان منكم جمعاً وخلائق كثيراً، ويدخل فيها الدخول الأولي: هؤلاء الذين اتبعوا قانونه ونظامه وأعرضوا عن نظام الله المذكور في قوله: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء﴾ ثم قال: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً﴾، ثم وبخهم لخساسة عقولهم ودناءتها فقال: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)﴾ أليست عندكم عقول تعلمون أن من يطاع ويتبع تشريعه، وتمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه هو خالق السماوات والأرض لا إبليس؟! ثم بين مصيرهم النهائي: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)﴾ [يس: الآيات ٦٠ - ٦٥] وفي التنزيل: ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً (١١٧)﴾ [النساء: آية ١١٧] يعني: ما يعبدون إلا الشيطان؛ لأنهم اتبعوا نظامه وقانونه، وتركوا نظام الله الذي شرعه على ألسنة رسله.
والذين يتحاكمون إلى غير ما أنزل الله، ويزعمون الإيمان، بَيَّن الله في سورة النساء أن دعواهم هذه كاذبة يُتعجب من كذبها، وكيف تجرءوا على قولها، حيث قال لنبيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ
آية ١٠٠] معنى: ﴿يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا﴾ يخلفون أهلها الذين هلكوا ويسكنون أرضهم بعدهم؛ لأن هؤلاء الجيل يبيدهم الله فيموتوا فيسكن مواطنهم قوم آخرون، فذلك معنى إيراثهم الأرض بعدهم. فالإرث هنا معناه: انتقال شيء كان عند أحد إلى أحد آخر، ولو لم يكن على سبيل الإرث المعروف؛ لأن العرب تطلق في لغتها الإرث على مجرد الانتقال من ميت إلى حي كما هو معروف. وهذا معنى قوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا﴾ [الأعراف: آية ١٠٠] أي: الذين كانوا يسكنونها ودمرهم الله.
﴿أَن لَّوْ نَشَاء﴾ (أن) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن كما هو معروف في محله، وخبرها جملة: ﴿أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾ أنه أي: الأمر والشأن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم.
اعلموا أن المقرر في علوم العربية أن فعل المشيئة إن اقترن بأداة الشرط فإن مفعوله يُحذف لدلالة جزاء الشرط عليه، وتقدير المفعول المحذوف هنا: أن لو نشاء إصابتهم بذنوبهم أصبناهم بذنوبهم. فحذف المفعول لدلالة جزاء الشرط عليه، وربما أُظهر نادرًا كما قال تعالى: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ﴾ [الأنبياء: آية ١٧] الأغلب أن يُقال: لو أردنا لاتخذنا لهوًا، ولكنه هنا ذكر مفعول الإرادة مع جزاء الشرط، وذلك يوجد في كلام العرب في بعض الحِكم، ومنه قول الشاعر (١):
_________
(١) البيت لأبي يعقوب الخزيمي، مضى عند تفسير الآية (٣٥) من سورة الأنعام.
حمل [على] (١) المشركين، وقتل العاص بن هشام (٢)، وأخذ سيفه، وكان مِنْ أجْوَدِ السُّيُوفِ، فطلب النبي ﷺ أن ينفله إياه. وفي بعض روايات حديثه الثابتة أنه قال: ربما أعطاه النبي ﷺ لرجل لم يُبل بلائي. والنبي ﷺ منعه أولاً ثم أعطاه إياه آخراً، وقد ثبت في صحيح مسلم والبخاري أن أصحاب النبي ﷺ كانوا يأكلون جالسين في بعض مغازيهم، حتى جاءهم أعرابي على بعير، فقيد بعيره وجلس يأكل معهم، ونظر إليهم حتى اطلع على علاتهم وعوراتهم، وهو جاسوس للعدو من المشركين، ثم ذهب يشتد، فجلس على بعيره وأثاره، فسار بعيره سيراً حثيثاً، فكاد أن يفوت الصحابة، فجرى عليه رجل بناقة فلم تدركه، فجرى عليه سلمة بن الأكوع (رضي الله عنه) وكان من السابقين على أرجلهم، وقد ضرب له النبي ﷺ سهمين في غزوة (ذي قرد) كما هو معروف، فذهب سلمة يشتد في أثره حتى جاوز الناقة، ثم كان عند ورك البعير، ثم تقدم فأخذ بخطامه وأناخه، واخترط سيفه وضرب الأعرابي على الرأس فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟» قالوا: سلمة بن الأكوع. قال: «لَهُ سَلَبُهُ أجْمَعُ» (٣) فنفله إياه لأنه أدركه وهو في غاية الخفّة والسرعة، أدركه على رجليه فنفله سلبه.
_________
(١) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
(٢) مضى عند تفسير الآية الأولى من هذه السورة، وراجع التعليق عليه في الحاشية هناك.
(٣) مسلم في الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل. حديث رقم: (١٧٥٤) (٣/ ١٣٧٤).


الصفحة التالية
Icon