سَبَقَ - تشتملُ على معلوماتٍ كثيرةٍ مستقاةٍ من مُخْتَلَفِ العلومِ الْمُحْتَاجِ إليها في التفسيرِ، منها ما هو موجودٌ في بعضِ كتبِ التفسيرِ، ومنها ما هو مُفَرَّقٌ في كتبٍ تتعلقُ بفنونٍ أخرى كتاريخِ ابنِ جريرٍ، وفتحِ البارِي، وكتبِ اللغةِ وغيرِها، إضافةً إلى بعضِ الفوائدِ والشواهدِ التي تَلَقَّاهَا الشيخُ (رحمه الله) عَمَّنْ أَخَذَ عنهم العلمَ.
٣ - تجدُ في هذه الدروسِ كثيرًا من الاستنباطاتِ العلميةِ التي تَوَصَّلَ إليها الشيخُ بعد اطلاعٍ واسعٍ، وَفَهْمٍ ثَاقِبٍ، وَنَظَرٍ صحيحٍ.
٤ - من الأمورِ الْجَلِيَّةِ في هذه الدروسِ أن الشيخَ (رحمه الله) حينما يُلْقِيهَا ليس هو مجردَ ناقلٍ يَسْرُدُ ما قَرَأَ فحسب، بل نجدُه ينقلُ كلامَ العلماءِ، ويقارنُ بين تلك المقولاتِ ويناقشُها، ويختارُ منها ما يترجحُ لَدَيْهِ.
٥ - في هذه الدروسِ تقفُ على نموذجٍ رفيعٍ من توظيفِ القواعدِ والضوابطِ العلميةِ في الفَهْمِ والاستنباطِ والترجيحِ. وهذا من أنفعِ الأمورِ التي يحتاجُ إليها طالبُ العلمِ.
٦ - تَشْتَمِلُ هذه الدروسُ على بيانِ مواطنِ الْعِبَرِ في القرآنِ، وَرَبْطِ ما جَاءَ فيه بحياةِ الناسِ وَوَاقِعِهِمْ؛ فالشيخُ لا يشرحُ الآياتِ على أنها تخاطبُ قومًا ذهبوا وَقَضَوْا، بل يُبَيِّنُهَا بطريقةٍ تجعلُ السامعَ بعيشُ معها كلمةً كلمةً، وآيةً آيةً، حتى يُدْرِكَ أنه مُخَاطَبٌ بها.
القراءةِ الأُخْرَى (١): ﴿تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ﴾ [الرعد: الآيات ١ - ٤]، وفي القراءةِ الأُخْرَى: ﴿فِي الأُكْلِ﴾ (٣) (٤) يعني تجدُ هذا البستانَ أرضُه أرضٌ واحدةٌ، وقِطَعٌ يجاورُ بعضُها بعضًا، والماءُ الذي يُسْقَى به ماءٌ واحدٌ، والأرضُ بقعةٌ واحدةٌ لا اختلافَ في مَائِهَا، ولاَ فِي أرضِها، ثم ترى ذلك البستانَ تَخْرُجُ منه ثِمَارٌ مختلفةٌ ألوانُها وأشكالُها ومقاديرُها وطعومُها ومنافعُها.
فهذا لا يمكنُ أن يكونَ من طبيعةٍ؛ إِذْ لو كانت طبيعةَ الماءِ لَمَا اختلفت إلى هذا الاختلافِ، ولو كانت طبيعةِ الأرضِ لَمَا اخْتَلَفَتْ إلى هذا الاختلافِ؛ لأَنَّ الماءَ واحدٌ، والبقعةَ واحدةٌ، فَدَلَّ اختلافُ هذه الثمارِ في أصنافِها وألوانِها وأشكالِها ومقاديرِها وطعومِها ومنافِعِها: على أن خالقَها هو القادرُ وحدَه، الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه، الذي له السلطانُ على هذا الكونِ، وأَمْرُهُ (جل وعلا) هو الأمرُ، وَنَهْيُهُ هو النهيُ، وشرعُه هو الشرعُ، ودينُه هو الدِّينُ؛ ولذا قال (جل وعلا) في هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾.
ثم قال: ﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ﴾ هذا إلفاتُ خالقِ الكونِ نظرَ خَلْقِهِ إلى غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه، انظر مثلاً إلى النخلةِ، إلى (الكُمّ) عندما يطلعُ كاللسانِ غير مفتوحٍ، ثم انْظُرْهُ عندما ينفتحُ عن ذلك النَّوْرِ الأبيضِ اللَّيِّنِ، ثم بعد ذلك، بعد أن يصيرَ تَمْرًا يابسًا مُدْرِكًا، انظر
_________
(١) المصدر السابق.
ضَلاَلاً بَعِيداً (٦٠)} [النساء: آية ٦٠] فَعَجَّب نبيه كيف ادّعوا الإيمان وهم يريدون التحاكم إلى غير ما أنزل!! والكفار -مع أنهم كفرة فجرة يعبدون الأصنام- إذا غيروا تشاريع الله، واتبعوا تشريع الشيطان مخالفاً لشيء شرعه الله كان ذلك كفراً جديداً زائداً على كفرهم الأول، كما صرح الله بهذا في سورة التوبة في قوله: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: آية ٣٧] والمراد بالنسيء: تأخير الشهر الحرام؛ لأن النَّسْءَ في اللغة: التأخير. وربا النسأ: ربا التأخير. ونسأ الله في أجله: أخَّره وطول حياته. كانت ثلاثة من الشهور الحُرُم متوالية، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فكانوا تطول عليهم ثلاثة أشهر متوالية لا يأكل بعضهم بعضاً، ولا يغير بعضهم على بعض، فكانوا يقولون: إنما نُنسئ الشهر الحرام ونؤخره!! فيحلون المحرم فيقاتلون فيه، ويؤخرونه إلى صفر، قال جل وعلا: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ﴾ أي: تأخير الشهر الحرام، إحلاله وتحريم شهر آخر كان حلالاً تحليل لما حرمه الله، وتحريم لما أحله الله، قال في هذا: ﴿زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله﴾ ولإحلالهم ما حرم الله ازدادوا كفراً إلى كفرهم (١). وأول من نسأ من العرب: بنو فُقِيم من كنانة (٢)، وكان شاعرهم يقول في شعره المشهور (٣):
أَلسْنا النَّاسئين على مَعَدٍّ | شُهُورَ الحِلِّ نجعلُها حَرَاما |
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ٢٤٣).
(٢) انظر: السيرة لابن هشام ص٥٦.
(٣) لبيت لعمير بن قيس جَزْل الطّعَانِ، أحد بني فراس بن غَنْم، وهي في السيرة لابن هشام ص٥٦، البداية والنهاية (٢/ ٢٠٦ - ٢٠٧).
وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَمًا لَبَكَيْتُهُ | عَلَيْكَ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ |
قرأ هذا الحرف جماهير القراء غير نافع، وابن كثير، وأبي عمرو: ﴿أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾ بتحقيق الهمزتين. وقرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: ﴿أن لو نشاءُ وَصَبْنَاهُم﴾ بإبدال الهمزة الثانية واوًا (١)، وهما قراءتان سَبْعِيَّتَانِ صَحِيحَتَانِ ولُغَتَانِ معْرُوفَتَانِ فصيحتان. وصيغة الجمع في قوله: ﴿نَشَاء﴾ وفي قوله: ﴿أَصَبْنَاهُم﴾ كِلتاهما للتعظيم. وقوله: ﴿أَصَبْنَاهُم﴾ أي: بالعذاب، أصبناهم بالعذاب والإهلاك بسبب ذنوبهم، والذنوب: جمع ذنب، والذنب معروف. أهلكناهم بسبب ذنوبهم ككفرهم ومعاصيهم، وهذا معنى قوله: ﴿أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾.
وأقرب الأقوال وأصحها في قوله: ﴿وَنَطْبَعُ﴾ أنها جملة مستأنفة على التحقيق، أي: ونحن نطبع على قلوبهم، والطبع هنا على القلب معناه الختم عليه والاستيثاق منه حتى لا يصل إليه خير ولا يخرج منه شر، فمعنى (طَبْعُ الله على القلوب) أنه -والعياذ بالله- يختم على قلب المجرم ويطبع عليه بحيث لا يخرج منه شر ولا يدخل إليه خير، كالقارورة إذا ختمتها وطبعت عليها لا يخرج شيء مما فيها، ولا يصل إليها شيء آخر.
وهذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تُصَحِّحُ عَقِيدَةً مِنْ عَقَائِدِ السَّلَفِ المشهورة التي وقع فيها القيل والقال والخلط الكثير، وذلك
_________
(١) انظر: إتحاف فضلاء البشر (٢/ ٥٥).
ومن أنواع التنفيل الجائزة (١): قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» (٢). وهذا قاله النبي ﷺ فثبت عنه في الصحيح يوم حنين. وذكر بعض العلماء أنه قاله يوم بدر أيضاً.
وكان مالك بن أنس (رحمه الله) يقول: ليس للإمام أن يقول هذا إلا بعد أن تنتهي المعركة، أما قبل انتهاء المعركة فلا يجوز للإمام أن يقول هذا؛ لأنه إن قال هذا قبل انتهاء المعركة أفسد نيات المجاهدين؛ لأن المجاهد يكون يقاتل الرجل ليأخذ سلبه فيكون يقاتل للدنيا لا لإعلاء كلمة الله، أما بعد أن تنتهي المعركة ويزول هذا المحذور فلا بأس أن يقول الإمام: مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ؛ لأنه في ذلك الوقت لا محذور فيه من إفساد النية (٣). وجماهير العلماء على أنّه لا مانع من أن يقول ذلك ابتداءً؛ لأن المسلمين وإن كان لهم رغبة في الغنيمة فكل مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَة الله هي العليا فهو في سبيل الله كما قاله صلى الله عليه وسلم. وقد قال النبي ﷺ يوم حنين: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ» (٤). والذي قتل هذا القتيل يكون له سلبه.
واختلف العلماء: هل يكون له سلبه دون تنفيذ الإمام، أو لا يملك السلب إلا إذا نفذه له الإمام (٥)؟ قولان معروفان بين
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٣٨٧).
(٢) البخاري في فرض الخمس، باب «من لم يخمس الأسلاب... » حديث رقم: (٣١٤٢) (٦/ ٢٤٧). ومسلم في الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، حديث رقم: (١٧٥١) (٣/ ١٣٧٠).
(٣) انظر: المدونة (٢/ ٣١)، الكافي لابن عبد البر ص٢١٥.
(٤) تقدم تخريجه قريباً.
(٥) انظر: القرطبي (٨/ ٥)، المغني (١٣/ ٧٠)، الأضواء (٢/ ٣٩٠).