٧ - يتعرضُ الشيخُ (رحمه الله) في هذه الدروسِ لتحليلِ كُلِّ كلمةٍ في الآيةِ، ويبينُ معناها وما تَدُلُّ عليه، كما يُبَيِّنُ أصلَ مَادَّتِهَا وهكذا. فهو لا يتركُ شاردةً ولا واردةً إلا ويتكلمُ عليها غالبًا. وبهذا تُدْرِكُ فَرْقًا جَلِيًّا بين هذه المادةِ التي بَيْنَ يَدَيْكَ وبينَ ما ذَكَرَهُ الشيخُ (رحمه الله) في كتابِه: (أَضْوَاءِ الْبَيَانِ)؛ إِذْ إنه في (الأضواءِ) لا يتعرضُ لتفسيرِ جميعِ الآياتِ، بل يتكلمُ على بعضِها، كما لا يتطرقُ إلى تفسيرِ جميعِ الألفاظِ في الآيةِ التي يُفَسِّرُهَا؛ ذلك أنه قَصَدَ من تأليفِه أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ - كما صَرَّحَ بذلك في مقدمته (١) - هما:
١ - بَيَانُ القُرْآنِ بِالْقُرْآنِ.
٢ - بيانُ الأحكامِ الفقهيةِ في جميعِ الآياتِ المُبَيَّنَةِ.
وَقْفَةٌ مَعَ تَسْجِيلِ دُرُوسِ الشَّيْخِ (رَحِمَهُ اللَّهُ) فِي التَّفْسِيرِ:
يبدو أن دروسَ الشيخِ (رحمه الله) في الكُلِّيَّةِ لم تكن تُسَجَّلُ صَوْتِيًّا؛ إذ يقولُ أحدُ تلامذتِه في الكليةِ: «ولم نَكُنْ في ذلك الوقتِ نفكرُ في إحضارِ مُسَجِّلٍ للصوتِ لأسبابٍ: منها كِبَرُ حَجْمِ الْمُسَجِّلاَتِ، حيث يَصْعُبُ حَمْلُهَا مع حَمْلِ الْكُتُبِ، ومنها أنها تَحْتَاجُ إلى أشرطةٍ كثيرةٍ قد يَصْعُبُ على الطالبِ شِرَاؤُهَا؛ لِقِلَّةِ النفقةِ» (٢) اهـ.
أما في المسجدِ النبويِّ فقد كانت تلك الدروسُ تُسَجَّلُ صَوْتِيًّا، وبين أيدينا مجموعةٌ منها تُعَدُّ بالعشراتِ.
_________
(١) انظر: الأضواء (١/ ٥ - ٦).
(٢) معارج الصعود ص١٢.
حالتَه الأُولَى عندما نَبَتَ، وحالتَه الثانيةَ عندما طَابَ وَأَدْرَكَ تَعْرِفْ أن الذي نقلَه من ذلك الطَّورِ إلى هذا الطَّورِ أنه مَلِكٌ قَادِرٌ، هو رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، ومعبودُ كُلِّ شَيْءٍ جل وعلا.
ولذا قال: ﴿انْظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)﴾ [الأنعام: آية ٩٩]، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكُمْ﴾ الذي يَلْفِتُ ربكم نظرَكم إليه ﴿لآيَاتٍ﴾ أي: دلالاتٍ واضحاتٍ ﴿لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)﴾ أي: يُصَدِّقُونَ، يعرفونَ بذلك من غرائبِ صنعِ رَبِّهِمْ وعجائبِه أنه هو الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه جل وعلا.
وإنما خَصَّ المؤمنين في قولِه: ﴿لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)﴾ لأَنَّ الكفرةَ لاَ يتعظونَ بالآياتِ، ولا يفهمونَ عَنِ اللَّهِ غرائبَه وعجائبَه؛ لأَنَّ اللَّهَ أَعْمَى بَصَائِرَهُمْ والعياذ بالله.
ومن عادةِ القرآنِ أنه غالبًا يخصُّ بالفعلِ الْمُنْتَفَعِ به، وإن كان الفعلُ في أصلِه عامًّا (١)، كقولِه: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (٤٥)﴾ [ق: آية ٤٥] وهو مُذَكَّرٌ به الأَسْوَدُ والأَحْمَرُ، وكقولِه: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ [يس: آية ١١]، وهو مُنْذِرٌ الأَسْوَدَ والأَحْمَرَ، وكقولِه: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (٤٥)﴾ [النازعات: آية ٤٥]، ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ﴾ [فاطر: آية ١٨] وأمثالُ ذلك، مع أنه منذرٌ للجميعِ، كما قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١)﴾ [الفرقان: آية ١].
هذه غرائبُ صنعِ اللَّهِ وعجائبُه يُبَيِّنُهَا لخلقِه (جل وعلا) ليعرفَهم بِرَبِّهِمْ (جل وعلا) بما يرونَ في هذا الكونِ من باهرِ صنعِه وعظيمِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام.
فَجَعْلُهم شهور الحل حراماً هو النسيء الذي كان زيادة في كفرهم إلى كفر آخر، فإذا كان الكافر الذي يسجد للصنم إذا غيَّر حكم الله، وحرَّم ما أحل الله، وأحل ما حرمه الله كفر كفراً جديداً زيادة إلى كفره الأول، فما بالكم بالمؤمن الذي يدَّعي أنه مسلم إذا غيَّر منار الإسلام، وحرَّم ما أحله الله، وحلل ما حرمه الله مدعياً أن تحليل الله وتحريمه تطورت عنه الدنيا، وأن نظام السماء كان لائقاً في ذلك الوقت، وأن ركب الحضارة تقدم عن ذلك، وأنه يحتاج إلى شيء جديد يُلائم التطور الجديد!! هذا كلام المتزندقين الجهلة الذين يزعمون أنهم تقدُّمِيُّون!! وهم أشد الناس تأخُّراً، وأخس الناس عقولاً؛ حيث تنكروا لخالقهم، وسيُقِرُّون يوم القيامة أنهم لا عقول لهم؛ حيث يقولون في جملة إخوانهم: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠)﴾ [الملك: آية ١٠].
فالتقدم كل التقدم -التقدم الحقيقي- هو طاعة خالق السماوات والأرض، وامتثال أوامره، واتباع ما أُنزل إلى النبي الكريم، مع أن هذا الذي أمرنا الله أن نتبعه في قوله: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٣] يأمرنا بالتقدم في جميع الميادين الحيوية غاية التقدم، ودين (١) الإسلام يأمر الإنسان بأن يكون متقدماً قويّاً في جميع ميادين الحياة، وأن يكون مُتَّصِلاً بربِّه، مُربياً روحه على ضوء تعليم السماء، مُنَوِّراً بصيرته بنور القرآن السماوي، فيكون علمه وعمله مزدوجاً معطياً للجسم نصيبه، معطياً للروح نصيبها، هذا تعليم السماء وأمره الحق الذي لا شك فيه.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٥) من سورة الأنعام.
لا يخفاكم -أيها الإخوان- أن هذه المسألة التي هي مسألة (الجبر والاختيار والكسب) أنها هي أصعب مسألة في دين الإسلام، وأعقد تخلصًا على العوام؛ لأن الناس انقسمت فيها إلى ثلاث طوائف: طائفة ضلّت في الإفراط، وطائفة ضلت في التفريط، وطائفة خرج من هضمها حقًّا صافيًا كاللبن يخرج من بين فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهو أفعال العبد؛ لأن أفعال العبد، وقدرة العبد، وإرادته، هي أصعب شبهة وقعت في دين الإسلام وأعسرها تخلصًا، ونحن في بعض المرات نهاب أن نثيرها لئلا يقع منها شيء في قلوب بعض الناس الذين لا يعرفون، فيعسر عليهم التخلص منه، وتارة نستعين بالله ونذكرها ونبينها ليرزق الله الهدى في ذلك وتستنير قلوب من وفقه الله.
اعلموا أولاً أن من يَتَسَمَّون باسم المسلمين، مِنْ طَوَائِفِهِم التي هي على الحَقِّ والبَاطِلِ انقسمت في كسب العبد إلى ثلاثة أقسام: فطائفة قالت: إن العبد يخلق أعمال نفسه بلا تأثير لقدرة الله فيها -والعياذ بالله- كالمعتزلة. وهذا المذهب ينصره محمود الزمخشري في تفسيره دائمًا، يزعم أن الله لا يريد الشر ولا يخلق الشر، وأن الله أنْزَه مِنْ أَنْ يُرِيد الشر، وأن الشر بمشيئة العبد وإرادته وقدرته من غير تأثير لقدرة الله فيه. وهذا -والعياذ بالله- مذهب باطل باطل، صاحبه يريد أن يسلب الله قدرته -سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا- وهذه الطائفة ضلت في التفريط؛ لأنهم فرطوا في قدرة الله حتى زعموا أنه تقع في ملكه أفعال العبيد من غير قدرته ولا مشيئته!! وهذا تفريط في صفات الخالق (جل وعلا)، فإنه (جل وعلا) لا يمكن أن يقع في خلقه تحريكة ولا تسكينة ولا طرفة عين
العلماء، يستدل قائل كل من القولين عليه بأدلة كثيرة، وقد كان أبو قتادة (رضي الله عنه) يوم حنين رأى رجلاً من المشركين يُرِيدُ أَنْ يقتل رجلاً من المسلمين، فجاءه من خلفه فضربه على حبل عاتقه بالسيف، قال: فرجع إليَّ فَضَمَّنِي ضَمَّة شممت منها رِيح الموت، ثم أدْرَكَهُ المَوْتُ فأرسلني. ثم لما جلس النبي ﷺ بعد انتهاء المعركة وقال: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ». قلت: من يشهد لي -بعد مرات- فقال رجل: صدق يا رَسُول الله سلبه عندي، أرضه منه. وقال له أبو بكر (رضي الله عنه): لا ها الله لا يعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله ويعطيك سَلَبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ، أَعْطِهِ سَلَبَهُ» قال أبو قتادة (رضي الله عنه): فاشتريت به مخرفاً -يعني حائطاً يُخْرف منه الثمار- وكان أول مال تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلاَم (١). هكذا قال أبو قتادة رضي الله عنه.
واعلموا أن بعض العلماء قال: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ إذا قال: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ». هل يملك القاتل سلب القتيل بمجرَّدِ قَتْلِهِ، أو لا بد أن ينفذه له الإمام؟ فقال بعض العلماء: يملكه؛ لأن ذلك هو مقتضى كلامه صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض العلماء: لا يملكه إلا بتنفيذ الإمام. واستدلوا لهذا بأدلة منها: ما ثبت أن أبا جهل -لعنه الله- يوم بدر ابْتَدَرَهُ مُعَاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء (رضي الله عنهما) فأطارا قدمه بنصف ساقه، ثم جاءا النبي ﷺ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته.
_________
(١) البخاري في فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب. حديث رقم: (٣١٤٢) (٦/ ٢٤٧)، ومسلم في الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل. حديث رقم: (١٧٥١) (٣/ ١٣٧٠).