يقول أحدُ تلامذةِ الشيخِ: «ومرةً من المراتِ أَحْصَيْتُ أربعين مُسَجِّلاً للصوتِ تُسَجِّلُ دُرُوسَهُ» (١) اهـ.
إلا أن من المؤسفِ أن الْمُتَدَاوَلَ بين أيدينا منها يُعَدُّ ضئيلاً مقارنةً بكثرةِ تلك الدروسِ! والظاهرُ أن جميعَ الدروسِ الْمُسَجَّلَةِ في المسجدِ النبويِّ والمتداولةِ إنما هي من المرةِ الثانيةِ من المرتين اللتين فَسَّرَ فيهما الشيخُ (رحمه الله) القرآنَ، وقد مَاتَ ولم يُتِمَّهَا وقد صَرَّحَ (رحمه الله) بذلك عند تفسيرِ الآيةِ رَقْمِ (٩٩) من سورةِ الأعرافِ.
هذا وقد تَطَلَّبْتُ ما سُجِّلَ من تلك الدروسِ العامرةِ فَوَقَعَ لي منها سبعُ نُسَخٍ (٢)،
في كُلِّ نسخةٍ منها زياداتٌ - ولو يسيرةً - قد سَقَطَتْ من النسخِ الأخرى، وبعد استعراضِ محتوياتها والمقارنةِ بينها صَنَعْتُ من مجموعها نسخةً مكمَّلةً تَحْوِي جميعَ التفسيرِ الْمُسَجَّلِ في تلك النسخِ، وبهذا أَمْكَنَ التخلصُ من كثيرٍ من المسحِ والانقطاعِ في التسجيلِ الواقعِ في كُلِّ نسخةٍ مما وَقَفْتُ عليه من تلك الدروسِ المسجلةِ، ثم رَقَّمْتُهَا ترقيمًا خاصًّا وهو ما سَأَذْكُرُهُ قريبًا إن شاءَ اللَّهُ تعالى (٣).
_________
(١) نقله صاحب كتاب: جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف ص٦٩.
(٢) بعد المقارنات بين هذه النسخ وتكرار سماعها تبين لي بما لا يدع مجالا للشك أنها تدور على نسخة واحدة في الأصل قد سُجِّلت منها، وهي نسخة الشيخ عطية (رحمه الله) إلا أن قلة العناية بالتسجيل أدى إلى هذا التفاوت، والله المستعان.
(٢) ولتسهيل الوقوف على هذه النسخة بعثت بنسخة منها للمكتبة الصوتية في المسجد النبوي، كما تجدها أيضا في تسجيلات البخاري بمكة، بالإضافة إلى بعض المواقع في الشبكة العنكبوتية، مثل:
١ - موقع رسالة الإسلام http://www.islammessage.com
٢ - موقع السلفيون http://www.alsalafyoon.com
تنبيه: عند تصحيح طباعة هذا الكتاب وقفت على نسخة صوتية جديدة لهذه الدروس تفضل بها الشيخ الدكتور بسام الغانم فوجدت فيها بعض المادة التي ذهبت من النسخ الأخرى بسبب انقطاع التسجيل أو المسح، فألحقتها في مراضعها من الكتاب، وهي إجمالا على النحو التالي:
١ - زيادة بقدر سطرين ضمن تفسير الآية (٣٥) من سورة الأعراف.
٢ - زيادة بقدر ثلاثة أسطر ضمن تفسير الآية (٤٥) من سورة الأعراف.
٣ - زيادة بقدر ورقتين ضمن تفسير الآية السابقة.
٤ - زيادة بقدر خمسة أسطر ضمن تفسير الآية (٤٨) من سورة الأعراف.
٥ - زيادة بقدر ثلاثة أسطر ضمن تفسير الآية (٥٢) من سورة الأعراف.
(٣) ٦ - زيادة كثيرة بقدر شريط لمدة ساعة تقريبا ضمن تفسير الآية (٥٤) من سورة الأعراف....
٧ - زيادة بقدر نصف سطر ضمن تفسير الآية (٦٨) من سورة الأعراف.
٨ - زيادة بقدر سطر ضمن تفسير الآية (٨١) من سورة الأعراف.
قدرتِه (جل وعلا)؛ ولذا قال: ﴿إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ﴾.
﴿ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ﴾ معناه: عندما يَبْدُو وَيَطْلُعُ.
والينعُ: تقول العربُ: «يَنَعَ الثمرُ، يَيْنَعُ، ويَينِعُ يَنْعًا، فهو يَانِعٌ» إذا نَضِجَ وأدركَ وصارَ صَالِحًا للأَكْلِ (١). معناه: انْظُرُوهُ عندَ حالتِه الأُولَى، وانظروه عندَ يَنْعِهِ. أي: طِيبِهِ، وَنُضْجِهِ، وإدراكِه صَالِحًا للأكل، تعرفونَ بذلك أن الذي نقلَه من الطَّوْرِ الأولِ عندما يثمر إلى الحالةِ التي أَيْنَعَ فيها وصارَ صَالِحًا للأكل تعلمونَ أن ذلك فِعْلُ عَلِيمٍ قديرٍ عظيمٍ، هو رَبُّ كُلِّ شيءٍ، ومعبودُ كُلِّ شَيْءٍ؛ ولذا قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
[١٢/أ] / ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (١٠٤)﴾ [الأنعام: الآيات ١٠٠ - ١٠٤].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)﴾. [الأنعام: آية ١٠٠].
قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا نافعًا: ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ﴾ بتخفيفِ الراءِ. وقرأه نافعٌ وحدَه: ﴿وَخَرَّقُوا﴾ بتشديدِ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٥٨١)، القرطبي (٧/ ٥٠)، الدر المصون (٥/ ٨٢).
ومن تدبر آيات القرآن وَجَدَ القرآن العظيم يدعو إلى كل تقدم حيوي في جميع ميادين الحياة، إلا أنه يدعو الخلق إلى أن يطيعوا خالقهم، ويسترشدوا بإرشاد خالق السماوات والأرض، ليدلهم على ما يصلحهم في دينهم ودنياهم، ومعاشهم، ومعادهم، سبحانه (جل وعلا) ما أحكمه! وما أجهل من خالف تعاليمه! إلا أن الذي يذهب عن نور القرآن هو في الحقيقة كالخفاش، وأنتم تعلمون أن الخفاش لا يكاد ينتفع بنور الشمس؛ لأن نور الشمس لا ينتفع به إلا من أعطاه الله بصيرة، أما الخفافيش الذين سلب الله بصائرهم لا يكادون ينتفعون بنور الشمس، فإذا انتشرت أنوار الشمس، وانتشر العالم في ضوء سبيل لا ينفق الإنسان فيه على كهرباء، ولا على زيت، ولا فتيلة، فنور رب العالمين سبيل مبذول للأسود والأحمر، فالخفاش في ذلك الوقت لا ينتفع بهذا النور، فإذا كان الظلام خرج من محله يطير ويفرح ويمرح؛ لأن الظلام هو الذي يلائمه!! فالقرآن العظيم إنما يلائم البصائر النيرة، والأرواح الكريمة، أما الأرواح الخنازيرية الخسيسة البهيمية فهي خفافيش البصائر، لا يلائمها إلا الظلام والنتن، كما أن الجُعَل لا يلائمه إلا النتن، وكما أن الخفاش لا يلائمه إلا الظلام.

خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ فَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ (١)
﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة: آية ٢٠] لأن القرآن أعظم نور، والخفافيش البصائرية يقضي عليها ويعميها زيادة ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت: آية ٤٤] والعياذ بالله جل وعلا.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
إلا بمشيئته وإرادته (جل وعلا) وله الحكمة البالغة في كل ما يشاء. وهذا المذهب الذي يقول: إن العبد يخلُق أعمال نفسه بلا تأثير لقدرة الله فيها هو الذي ردّت عليه هذه الآية الكريمة الرد الواضح كما ترون؛ لأن الله إذا بيّن أنه هو الذي طبع على قلبه فمنعه من سماع الحق لحكمة كيف يقول الإنسان إن ذلك الشر لم يقع بمشيئته (جل وعلا) فهذه الآية وأمثالها تردّ ردًّا صريحًا على مذهب المعتزلة أقوى رد وأعظمه، فهم ينتحلون شُبهًا وتأويلات كل عاقل يعرف أنها باطلة.
المذهب الثاني: هو مذهب الجبرية، وهؤلاء ضلّوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا تأثير له ولا فعل له، وأن هذا كله فعل الله، وأن الله لا يعذب العبد بذنب؛ لأن الله هو الذي شاءه وقدّره عليه، وهذا من أخطر الباطل كما ترون.
المذهب الثالث الذي هو الحق: مذهب المسلمين وسلف هذه الأمة وجماعتها: أن العبد خَلَقَ الله له قدرة وإرادة، وله مشيئة وفعل يختار ويفعل ويقدر، إلا أن قدرة الله وإرادته تصرفان قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به العلم الأزلي فيأتيه طائعًا مختارًا.
وهنا سنّة سنتكلم عليها لعل الله ينفع بها، فلنضرب مثلاً: مناظرة للجبريّ ومناظرة للقدري:
أما مناظرة الجبري فانقطاعه فيها قريب، وهي واضحة؛ لأن الجبري لو قال: أنا لا فعل لي، وهذا فعل الله، وأنا لا أوخذ بشيء من ذلك؛ لأن الله فعل هذا ولا ذنب لي. فإنك لو فقأت عينه، أو ضربته ضربًا مؤلمًا، أو قتلت ولده لا يجعل لك القدر حجة،
فقال: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» قالا: لا. فنظر في السيفين وقال: «كِلاَكُمَا قَتَلَهُ» (١). وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. قالوا: لو لم يتوقف هذا على تَنْفِيذ الإمام لكان معاذ بن عفراء شريكاً لمعاذ بن الجموح؛ لأن النبي ﷺ صرّح بأنهما قتلاه، في أدلة أُخرى غير هذا.
قال علماء الأصول: منشأ هذا الخلاف: خلاف العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ» هل يملكه دون تنفيل الإمام أو لا بد من تنفيل الإمام؟ منشأ الخلاف: هل قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ» حكماً منه، أو فتوى (٢)؟ فعلى أنه حكم يختص بمن قيل له ولا يعم، وعلى أنه فتوى يعم. وذكروا عن أبي طلحة (رضي الله عنه) أنه في يوم حنين قتل عشرين رجلاً. وفي بعض الروايات: واحداً وعشرين رجلاً، وأخذ أسلابهم كلهم (٣). وكان يقول في يوم حنين (٤):
أَنَا أَبُو طَلْحَةَ وَاسْمِي زَيْد وكل يوم في سِلاَحِي صَيْدُ
_________
(١) البخاري في فرض الخُمس، باب «من لم يخمس الأسلاب... ». حديث رقم: (١٣٤١) (٦/ ٢٤٦). وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الحديثين (٣٩٨٨، ٣٩٦٤). ومسلم في الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل. حديث رقم: (١٧٥٢) (٣/ ١٣٧٠ - ١٣٧٢).
(٢) انظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص١١٦ - ١١٩، الأضواء (٢/ ٣٩٣).
(٣) أحمد (٣/ ١١٤، ١٢٣، ١٩٠، ٢٧٩)، الدارمي (٢/ ١٤٧)، أبو داود، كتاب الجهاد، باب في السلب يُعطى القاتل، حديث رقم: (٢٧٠١) (٧/ ٣٨٨).
(٤) البيت في الاستيعاب لابن عبد البر (٤/ ١١٣)، تاريخ دمشق (١٩/ ٣٩٧)، الإصابة (٤/ ١١٣).


الصفحة التالية
Icon