بالناسِ، والصحابةُ يسمعونَ حَنِينَهُ، حتى جاءه النبيُّ - ﷺ - يُسَكِّتُهُ كما تُسَكِّتُ الأُمُّ وَلَدَهَا (١). وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ أن النبيَّ - ﷺ - قال: «إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ بِمَكَّةَ» (٢).
وقد قال اللَّهُ (جل وعلا) في كتابِه: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا﴾ - أي: مِنَ الحجارةِ - ﴿لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: آية ٧٤] لما يُصْعَقُ مِنْ أَعْلَى الجبلِ إلى أسفلِه نازلاً خوفًا من رَبِّ العالمين (جل وعلا)، كما قال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: آية ٢١] وقد قال جل وعلا: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ﴾ [ص: آية ١٨] فصرَّح بتسبيحِ الجبالِ، وقد قال جل وعلا: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ [الأحزاب: آية ٧٢] والإشفاقُ: الخوفُ. معناه: أن هذه الجماداتِ، من السمواتِ والأرضِ والجبالِ، عندها إدراكٌ يعلمُه اللَّهُ، ونحن لا نعلمُه، حيث أَبَتْ من التزامِ التكليفِ وَأَشْفَقَتْ، وهذه حقائقُ دَلَّ عليها الكتابُ والسنةُ. وَالْمُلْحِدُونَ الذين يقولونَ: «هذه أمثلةٌ وتخييلٌ وتصويرٌ بما ليس بواقعٍ».
كل ذلك من صَرْفِ كتابِ اللَّهِ عن ظاهرِه المتبادرِ منه بغيرِ دليلٍ، وذلك لا يجوزُ؛ إذ لا مانعَ عقلاً أن يخلقَ اللَّهُ للجماداتِ إدراكاتٍ يعلمُها هو ونحن لا نعلمُها، كما قال تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾ [الإسراء: آية ٤٤] وكذلك يخلقُ للبهائمِ إدراكاتٍ، وقد نصَّ القرآنُ على كثيرٍ من ذلك،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٧) من سورة الأنعام.
(٢) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي - ﷺ - وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. حديث (٢٢٧٧) (٤/ ١٧٨٢).
أما الإطلاقُ الأولُ المشهورُ: فهو إطلاقُ الآيةِ بمعنَى (العلامةِ). تقولُ العربُ: «الآيةُ بَيْنِي وبينَك كذا». أي: العلامةُ بَيْنِي وبينَك كذا. ومنه قولُه تعالى: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ [البقرة: آية ٢٤٨] أي: علامةُ مُلْكِهِ أن يأتيَكم التابوتُ. وقد جاءَ في شعرِ نابغةِ ذبيانَ- وهو عربيٌّ جاهليٌّ- تفسيرُ الآياتِ بالعلاماتِ حيث قال (١):

تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
ثُمَّ بَيَّنَ أن مرادَه بالآياتِ: (علاماتُ الدارِ) فقال:
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْيًا أُبِينُهُ وَنُؤْيٍ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ
إطلاقُ الآيةِ الآخَرُ في لغةِ العربِ: تُطْلِقُ العربُ الآيةَ على (الجماعةِ)، وهو إطلاقٌ عربيٌّ مشهورٌ، يقولونَ: «جاء القومُ بآيتِهم»؛ أي: بجماعتِهم، ومنه بهذا المعنَى: قولُ بُرج بن مُسْهِر الطائيِّ (٢):
خَرجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لاَ حَيَّ مِثْلَنَا بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلاَ
أي: بِجَمَاعَتِنَا.
إذا عرفتُم أن (الآيةَ) تُطْلَقُ في لغةِ العربِ إِطْلاَقَيْنِ: تطلقُ بمعنَى (العلامةِ)، وتطلقُ بمعنَى (الجماعةِ)، فَاعْلَمُوا أن (الآيةَ) في القرآنِ تُطْلَقُ أيضًا إطلاقين:
تُطْلَقُ على الآيةِ الكونيةِ القدريةِ، وهي: ما نَصَبَهُ اللَّهُ كَوْنًا وَقَدَرًا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة البقرة.
(٢) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٧٣) من سورة البقرة.
الأرواح. وإسناده لملائكة كثيرين؛ لأن لملك الموت أعواناً كثيرين يقبضون معه أرواح الناس بأمره. قال بعض أهل العلم: يقبض أعوانه الروح حتى تبلغ الحلقوم فيأخذها ملك الموت (١). والآيات دلت على أن له أعواناً كثيرة من الملائكة يقبضون معه الأرواح، كقوله هنا: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ وكقوله: ﴿تَوَفَّتهُ رُسُلنَا وَهُم لاَ يُفَرِّطُونَ﴾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ﴾ ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الأنفال: آية ٥٠] عياذاً بالله جلَّ وعلا.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ﴾ [الأعراف: آية ٣٧] أي: ذلك الإنسان الذي استكمل في دار الدنيا نصيبه من الكتاب، بأن أكل جميع ما كُتب له من الرزق، ونال ما كُتب له من الشهوات واللذات والأجل، ونال ما قَدَّر الله عليه من الشرور في الدنيا، حتى إذا انقضى أجله، وجاء الوقت المحدد لموته جاءته ﴿رُسُلُنا﴾ أي: ملك الموت وأعوانه ليقبضوا روحه وينزعوها من بدنه، وسنذكر كيفية ذلك في قوله: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾ [الأعراف: آية ٤٠] في الآيات القريبة.
﴿جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ ﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ في هذه الآية وجهان من التفسير (٢): التحقيق أنها الوفاة بقبض الأرواح في دار الدنيا، وأنهم إذا جاءهم [الملائكة] (٣) يقبضون أرواحهم في دار الدنيا يوبخونهم ويقرعونهم عند أخذ الروح، ويقولون لهم: أين
_________
(١) السابق.
(٢) انظر: ابن كثير (٢/ ٢١٢).
(٣) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
أن الواحد منهم كان لا يصلي إلا بالماء، ولا يصلي إلا في الكنيسة، وإذا مست النجاسة شيئًا من ثوبه لزم أن يقرضه بمقراض، إلى غير ذلك من التشديدات (١)؛ بخلاف هذه الأمة فقد رُفع عنها ذلك، فجُعلت لها الأرض كلها مسجدًا وطهورًا، وأُجيز لها إزالة النجاسة بالماء، وسهل لها كل شيء كان مُصَعَّبًا على من قبلها، وهذا معنى قوله: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾.
وهنا عَبَّر عن التكاليف الشاقة بالأغلال؛ لأن الأغلال كأنها تُقَيِّدُ صاحبها وتمنعه، وكذلك التكاليف الشاقة والأغلال التي كانت عليهم جاء النبي بوضعها كلها، وجاء بحنيفيةٍ سمحة، فالأرض فيها طهور، والأرض كلها مسجد، والماء يطهر كل شيء، وكل من استعصى عليه شيء وشق عليه رخص له فيه ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: آية ٧٨] أي: من ضيق ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: آية ١٨٥]، والآيات في مثل ذلك كثيرة، وهذا معنى قوله: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ أي: أثقال التكاليف التي كانت عليهم جاء ﷺ بإزالتها ووضعها؛ لأنه (صلوات الله وسلامه عليه) جاء بالحنيفية السمحة التي لا حرج فيها. وهذا معنى قوله: ﴿وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾.
﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ﴾ أي: صدقوا به ﷺ وبما جاء به: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ﴾ قرأ الجمهور: ﴿عَزَّرُوه﴾ وفي بعض القراءات -غير السبعة-: بتخفيف الزاي (٢).
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٣٠٠).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٤٠٤)، الدر المصون (٥/ ٤٨١).
وقوله: ﴿وَالَّذينَ كَفَرُواْ﴾ مبتدأ، و ﴿بَعْضُهُمْ﴾ مبتدأ آخر، و ﴿أَوْلِيَاء﴾ خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول كما هو واضح. وقد قَدَّمْنَا في هَذِهِ الدروس مراراً (١) أن مادة الكاف والفاء والراء (كَفَرَ) أن معناها في لغة العرب التي نزل بها القرآن: السّتْر والتغطية، فكل شيء غطيته وسترته فقد كفرته، وهذا معنى معروف في كلام العرب مشهور مبتذل في كلامهم جدّاً، ومنه سَمَّتِ العَرَبُ اللَّيْلَ كافِراً؛ لأنه يكفر الأجرام ويغطيها عن العيون بظلامه، ومنه قول لبيد بن ربيعة (رضي الله عنه) في معلقته (٢):
حَتَّى إذا أَلقَتْ يَداً في كَافرٍ وأَجنَّ عَورَاتِ الثغُورِ ظَلاَمُهَا
ومن هذا المعنى قول لبيد أيضاً في معلقته هذه (٣):
يعلُو طَرِيقَةَ مَتْنِهَا مُتَوَاترٌ في لَيْلَةٍ كَفَرَ النّجُومَ غَمَامُهَا
يعني: ستر النجوم وغَطَّاهَا غَمَامُهَا. هذا أصل المادة، وتكفير السيئات من هذه المادة؛ لأن الله يغطيها ويسترها بحلمه حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها، وإنما قيل للكافر (كافر) لأنه يغطي أدِلَّة التوحيد بجحوده مع وضوحها، ويغطي نعمة الله ويسترها كأنه ليس عليه إنعام من الله حيث يأكل رزقه ويتقلب في نعيمه ويعبد غيره.
وقوله (جل وعلا) في هذه الآية الكريمة: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ﴾ هي (إن) الشرطية أُدْغِمَتْ فِي (لا) النافية. والمقرر في علم العربية: إن
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأعراف.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأعراف.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon