نصَّ على قضيةِ النملةِ وَخُطْبَتِهَا العظيمةِ التي قَالَ فيها: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ [النمل: آية ١٨] وذكر قصةَ الهدهدِ ومحاجتَه لسليمانَ، ونسبتَه الإحاطةَ لنفسِه ونفيَها عن سليمانَ ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: آية ٢٢] وَبَيَّنَ أنه يَفْهَمُ أن يذهبُ بالكتابِ إلى بلقيسَ وجماعتِها ﴿اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ [النمل: آية ٢٨].
وقوله (جل وعلا) في هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: آية ٣٨] في المرادِ بالكتابِ هنا وَجْهَانِ معروفانِ (١):
أَوَّلاً: الكتاب (فِعال) بمعنى (مفعول)، بمعنى المكتوبِ، قال بعضُ العلماءِ: هو هذا القرآنُ العظيمُ؛ لأنه مكتوبٌ عند الملائكةِ في صُحُفٍ، كما قال تعالى: ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)﴾ [عبس: الآيات ١٣ - ١٥] ومكتوب في اللوحِ المحفوظِ، كما قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)﴾ [البروج: الآيتان ٢١، ٢٢].
الوجهُ الثاني: أن المرادَ بالكتابِ: اللوحُ المحفوظُ؛ لأنه مكتوبٌ فيه جميعُ وقائعِ ما كانَ وما يكونُ إلى يومِ القيامةِ، وأصلُ مادةِ (الكتابةِ) - مادة (الكافِ والتاءِ والباءِ) (كتب) - معناها في لغةِ العربِ: الضمُّ وَالْجَمْعُ (٢)، فَكُلُّ شيءٍ ضَمَمْتَ بعضَه إلى بعضٍ
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤٢٠)، البحر المحيط (٤/ ١٢٠).
(٢) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الكاف، باب الكاف والتاء وما يثلثهما (مادة: كتب) ص (٩١٧)، المفردات (مادة: كتب) ص (٦٩٩).
دَالاًّ على ربوبيتِه، وأنه المعبودُ وحدَه، وهي بهذا المعنَى من الآيةِ بمعنَى (العلامةِ) قَوْلاً واحدًا، كقولِه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ (١٩٠)﴾ [آل عمران: آية ١٩٠] أي: علاماتٍ واضحاتٍ لأصحابِ العقولِ على أن لهذا الكونِ مُدَبِّرًا هو رَبُّ كُلِّ شيءٍ، وهو المعبودُ وحدَه جل وعلا.
الإطلاقُ الثانِي في القرآنِ: إطلاقُ الآيةِ بمعنَى الآيةِ الشرعيةِ الدينيةِ، كآياتِ هذا القرآنِ العظيمِ، كقولِه: ﴿رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ [الطلاق: آية ١١] فهي بهذا من الآيةِ الشرعيةِ الدينيةِ، والآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ قِيلَ: من الآيةِ بمعنَى (الجماعة)؛ لأَنَّ الآيةَ جَمَعَتْ كلماتٍ من القرآنِ اشْتَمَلَتْ على بعضِ معانِيه ومقاصدِه.
وقال بعضُ العلماءِ: الآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ أيضًا من الآيةِ بمعنَى (العلامةِ)؛ لأنها علاماتٌ على صدقِ مَنْ جاء بها؛ لِمَا فيها من الإعجازِ؛ ولأَنَّ لَهَا علاماتٍ: مبادئَ ومقاطعَ تدلُّ على انتهاءِ هذه الآيةِ وابتداءِ هذه.
وهذا معنَى قولِه: ﴿إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨)﴾.
والإيمانُ في لغةِ العربِ: التصديقُ (١)، ومنه قولُه: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا﴾ [يوسف: آية ١٧] أي: بِمُصَدِّقٍ لنا في أن يوسفَ أَكَلَهُ الذئبُ ﴿وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (١٧)﴾ [يوسف: آية ١٧].
والإيمانُ في اصطلاحِ الشرعِ في مذهبِ أهلِ السنةِ والجماعةِ: هو التصديقُ الكاملُ من جميعِ الجهاتِ، أَعْنِي: تصديقَ القلبِ بالاعتقادِ، واللسانِ بالإقرارِ، والجوارحِ بالعملِ؛ وَلِذَا ثَبَتَ في
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٥) من سورة البقرة.
شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ أيْنَ مَنْ كنْتُمْ تعبدون مع الله؟ نادوهم فلينقذوكم منا ويخلصوكم منِ هذا الموت وما بعده من العذاب. وعلى هذا القول فقوله: ﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ يعني: بقبض الأرواح. وفيه قولٌ آخر، وهو ضعيف، إلا أنه ذكره جماعة من علماء التفسير (١)، أن هذا يوم القيامة إذا حشر الخلق جاءت رسل الله، وهم الملائكة الموكلون بالنار يتوفونهم، أي: يأخذون أهل النّار وافين؛ لأن جميع أهل النار مكتوبون في ديوان، مُعَيَّنة به أسماؤهم، وأسماء آبائهم، وأنسابهم، وقبائلهم، والملائكة الموكلون عندهم السجلات يأخذونهم واحداً واحداً حتى يستوفوا العدد المكتوب. هذا قول في الآية. والأوّل هو الصحيح. وعلى هذا القول فقوله: ﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ يأخذون عددهم وافياً. والقول الأوّل: ﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ بقبض الأرواح.
﴿قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ يقوله لهم الملائكة عند قبض الروح توبيخاً وتقريعاً، ويضربونهم أيضاً مع ذلك، كما قال جلّ وعلا: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الأنفال: آية ٥٠] والعياذ بالله.
﴿أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ (أين) هنا هي الاستفهامية. و (ما) موصولة. أين الذين كنتم ﴿تَدْعُونَ﴾؟ أي: تعبدون ﴿مِن دُونِ الله﴾، أي: مع الله (جلّ وعلا) وتجعلونهم شركاء معه؟ أين هم؟ نادوهم فليحضروا فليخلصوكم وينقذوكم!! وهذا من التوبيخ والتقريع والتعذيب.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤١٥).
قال بعض العلماء: ﴿وَعَزَّرُوهُ﴾ أي: مدحوه وأثنوا عليه ثناءً عظيمًا.
قال بعض العلماء: ﴿وَعَزَّرُوهُ﴾ أي: منعوه من أن يناله أحدٌ بسوء، حتى لا يقوى أحدٌ على أن يصل إليه، ولا يؤذيه بأذيَّةٍ ما. والمعاني في التعزير تدور حول هذا؛ لأن أصله يُشعر بالتعظيم، وهذا معنى قوله: ﴿وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ﴾.
﴿وَنَصَرُوهُ﴾ النصر في لغة العرب: إعانة المظلوم، أي: أعانوه على أعدائه الذين ظلموه وكذبوه، وكل من كذبه فهو ظالمٌ له، وهذا معنى قوله: ﴿وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ﴾.
﴿وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ﴾ النور الذي أُنزل معه ﷺ هو هذا القرآن العظيم؛ لأنه النور الذي أنزله الله من السماء يبصر الناس ببصائرهم في ضوئه الحق حقًّا، والباطل باطلاً، والحسن حسنًا، والقبيح قبيحًا، فهو أعظم نور يُكشفُ به ظلمات الباطل ويُرى في ضوئه الحق واقعًا كما ينبغي. وقد سماه اللهُ نورًا في آياتٍ كثيرة كقوله: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾ [التغابن: آية ٨] وقوله: ﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ﴾ [الشورى: آية ٥٢] ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (١٧٤)﴾ [النساء: آية ١٧٤] فهذا النور العظيم لمّا صرح الله في آياتٍ كثيرةٍ من كتابه أنه نوره الذي أنزله مع سيد الخلق (صلوات الله وسلامه عليه) ليكشف به ظلمات الجهل والباطل كان على المؤمن ألا يطلب الضوء إلا في نوره، ولا يطلب الهدى إلا منه، فالذين يتركون هذا النور ويطلبون الهدى في الظلام الذي جاءت به الكفرة الفجرة دليل على أنهم خفافيش
(إن) الشرطية التي تجزم فعلين إن جاءت بعدها (لا) النافية لا تمنع عملها من الجزم، فهي (إن) الشرطية، وفعل الشرط هو قوله: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ﴾ مجزوم بحذف النون، وجزاء الشرط هو قوله: ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ﴾ والتحقيق: أن (تكن) أنه هنا تام، وأن (فتنة) فاعله، وليس من الأفعال الناقصة الناسخة كما هو الصواب، والضمير في قوله: ﴿تَفْعَلُوهُ﴾ أما الضمير المرفوع الذي هو الواو فهو عائد إلى النبي ﷺ وأصحابه، وهو يتناول جميع المسلمين إلى يوم القيامة. وأما الضمير المنصوب فهو ضمير الواحد الغائب -أعني الهاء في قوله: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ﴾ - فلعلماء التفسير في مرجع هذا الضمير أقوال معروفة (١) سنذكر طرفاً منها ونبيّن الصواب فيها -إن شاء الله-: قال بعض العلماء: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ﴾ راجع إلى الميراث المفهوم من قوله: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ لأنه يدخل فيها ولاية الميراث، إلا تتركوا الكافر يرث الكافر، والمسلم يرث المسلم دون الكافر تكن فتنة. وهذا مروي عن ابن عباس (٢) وغيره، ومعه أقوال شبهه.
والتحقيق الذي لا شك فيه -إن شاء الله- أن الضمير -الهاء- في قوله: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ﴾ عائد إلى ما ذكره الله (جل وعلا) من ولاية المسلمين بعضهم بعضاً ومقاطعتهم للكفار، وولاية الكفار بعضهم بعضاً، وقد جرت العادة في كلام العرب الذي نزل به القرآن، وفي القرآن العظيم، أنه يرجع الضمير أو ترجع الإشارة إلى أشياء متعددة ويرجع الضمير إليها بصيغة الإفراد (٣)، كأنه يعني بالضمير
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٦٤١).
(٢) أخرجه ابن جرير (١٤/ ٨٦) من طريق علي بن أبي طلحة.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon