وَجَمَعْتَ بعضَه مع بعضٍ فقد كَتَبْتَهُ؛ ولذا قيلَ للخياطةِ: كتابةٌ. وفي ألغازِ الحريريِّ في مقاماتِه (١):

وَكَاتِبِينَ وَمَا خَطَّتْ أَنَامِلُهُمْ حَرْفًا وَلاَ قَرَؤُوا مَا خُطَّ فِي الْكُتُبِ
يعني بهم: الْخَيَّاطِينَ؛ ولأجلِ أن الخياطةَ تُسَمَّى كتابةً؛ لأنها تضمُّ طَرَفَيِ الثوبِ، وتجمعُ بعضَها إلى بعضٍ، أو طَرَفَيِ الأَدِيمِ، وتضمُّ بعضَها إلى بعضٍ؛ لأجلِ ذلك سَمَّتِ العربُ الرقعةَ التي في السِّقاءِ، سَمَّوْهَا: (كُتْبةً). وَسَمَّوُا الثوبَ الذي تُخَاطُ به الرقعةُ في السِّقاءِ: (كُتْبَةً)، وجمعها: (كُتَب). وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ غيلانَ ذِي الرُّمَّةِ (٢):
مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الْمَاءُ يَنْسَكِبُ كَأَنَّهُ مِنْ كُلَى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ
وفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا مُشَلْشَلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الكُتَبُ
يعني بالكُتَبِ: الثغورُ التي تكونُ في الكُتْبَةِ يسيلُ منها الماءُ. يُشَبِّهُ ذلك الماءَ السائلَ بدمعِه؛ ولأجلِ هذا كانت العربُ تُسَمِّي الخياطةَ: كتابةً. ومنه قولُ عمرِو بنِ دارةَ (٣)
يهجو فَزَارَةَ، يهجوهم وَيُعَيِّرُهُمْ بأنهم يفعلونَ الفاحشةَ مع إناثِ الإبلِ، قال (٤):
_________
(١) مقامات الحريري ص (٣٤٧).
(٢) البيت في اللسان (مادة: سرب) (٢/ ١٢٧)، (مادة: كتب) (٣/ ٢١٧) والوفراء: الوافرة.
(٣) والغرفية: المدبوغة بالغَرْف، وهو شجر يُدبغ به. وأثاى: أفسد. والخوارز: جمع خارزة.
() نسبه في الشعر والشعراء ص ٢٥٨ لسالم بن دارة.
(٤) البيت في المقاييس في اللغة، كتاب الكاف، باب الكاف والتاء وما يثلثهما، (مادة: كتب) ص (٩١٨)، الشعر والشعراء ص ٢٥٨، اللسان (مادة: كتب) (٣/ ٢١٧)، تفسير الماوردي (١/ ٢٤)، القرطبي (١/ ١٥٨)، والدر المصون (١/ ٨٥).
الصحيحِ أن: «الإيمانَ بضعٌ وَسِتُّونَ» وفي بعضِ الرواياتِ: «بضعٌ وسبعونَ شعبةً، أَعْلاَهَا شهادةُ أن لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إماطةُ الأَذَى عن الطريقِ» (١) فَسَمَّى إماطةَ الأَذَى عن الطريقِ (إيمانًا). وفي الحديثِ الصحيحِ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا» (٢) فَسَمَّى الصومَ (إيمانًا) «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا» (٣) فَسَمَّى القيامَ (إيمانًا). وقد قَدَّمْنَا في قولِه: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: آية ١٤٣] أن معناه: وما كانَ اللَّهُ ليضيعَ صلاتَكم إلى بيتِ المقدسِ قبلَ نسخِ القبلةِ، كما قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وهذا معنَى قولِه: ﴿إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨)﴾.
﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)﴾ [الأنعام: آية ١١٩].
في هذه الآيةِ الكريمةِ قراءاتٌ سبعياتٌ (٤): قرأ نافعٌ وحفصٌ عن عاصمٍ: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ ببناءِ الفعلين للفاعلِ.
وقرأ ابنُ عامرٍ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو: ﴿وقد فُصِّل لكم ما حُرِّم عليكم﴾ ببناء الفِعْلَيْنِ للمفعولِ والتركيبِ للنائبِ.
وقرأ هذا شعبةُ عن عاصمٍ وحمزةَ والكسائيِّ: (وقد فَصَّل لكم ما حُرِّم عليكم} ببناءِ «فصَّل» للفاعلِ، و «حُرِّم» للمفعولِ. فتحصَّل أنها ثلاثُ قراءاتٍ سبعياتٍ: ﴿فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ﴾ لنافعٍ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
(٤) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٠٢.
وهذه الآية أُطلقت فيها الوفاة على معناها العُرْفِيّ. واعلموا أن معنى (توفاه) تطلق في اللغة العربية إطلاقين (١): إطلاقا لغويّاً، وإطلاقا عرفيّاً.
أما إطلاقها اللغوي: فهو أخذ الشيء كاملاً بجميعه وافياً. تقول العرب: توفيت دَيْني: إذا أخذته وافياً كاملاً لا ينقص منه شيء. فكل شيء أخذته وافياً بتمامه فقد توفيته، وهذا معناها في اللغة العربية.
ومعناها في العرف: تقول العرب: توفاه الله. إذا قبض روحه وحدها دون جسمه. هذا معناها العرفي، وذلك معناها اللغوي.
والقاعدة المقررة عند جمهور الأصوليين: أن الحقيقة العرفية تُقدم على الحقيقة اللغوية ما لم يقم دليل يرجح الحقيقة اللغوية (٢).
وذكر بعض علماء الأصول عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه لا يقدم العرفية على الحقيقة اللغوية؛ لأن العرفية وإن ترجحت في الاستعمال فالحقيقية قد ترجحت بأصل الوضع (٣).
وهذا تترتب عليه مسألة غلط فيها كثير من الناس، وأضل الملحدون فيها كثيراً من الناس، وهي قضية عيسى ابن مريم (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام)؛ لأن الله عبر عنه بالوفاة [٦/ب] في قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ [آل عمران: آية ٥٥] أما قوله (جلَّ وعلا) عنه:/ ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ [المائدة: آية ١١٧] من كلام عيسى يوم القيامة، ولا يأتي يوم القيامة إلا وعيسى قد مات قطعاً، لا نزاع في موته قبل يوم القيامة؛ لأن ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ من كلام عيسى يوم القيامة إذا قال له
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٤٦) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) انظر: شرح الكوكب المنير (٣/ ٤٣٥)، نثر الورود (١/ ١٥٦).
البصائر يعميهم النور، والله قد صرح في سورة الرعد أن من لم يعلم أحقية هذا القرآن وأنه الحق الذي لا شك فيه أن ذلك إنما جاءه من قِبل عماه؛ لأن الأعمى إذا كان يعجز عن رؤية الشمس لا يؤثر ذلك في ظهور الشمس شيئًا!! فنحن نقول: لا شك في وضوح الشمس وإن كان الأعمى لا يراها!! كذلك القرآن معجزته ونوره أوضح وأعظم من نور الشمس، ولا ينافي ذلك أن هنالك عميانًا لا يرون الشمس في رابعة النهار!!
إِذَا لمْ يكنْ للمرءِ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ فلا غَرْوَ أنْ يَرْتَابَ والصُّبْحُ مُسْفِرُ (١)
والله صرح بهذا في سورة الرعد في قوله: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾ [الرعد: آية ١٩] فصرح أن الذي منعه من أن يعلم أنه الحق إنما هو عماه.
.............................. وَلاَ تَرَى الشَّمْسَ عَيْنٌ تَشْتَكِي العَوَرَا
كما هو معروف. فهؤلاء -والعياذ بالله- الذين يعدلون عن هذا النور الذي هو أعظم من نور الشمس في رابعة النهار، وأوضح وأشد كشفًا وإيضاحًا لحقائق الأشياء وإيضاح الحق من الباطل، والحسن من القبيح، والنافع من الضار، هم خفافيش البصائر قطعًا والخفاش إذا ارتفع شعاع الشمس، وانتشر ضوؤها على الدنيا، وصار جميع الناس يمشون في ذلك الضوء، يقضون جميع حوائجهم، أعمى ذلك الضوء الخفافيش، فإذا جاء الظلام وزال النور قام الخفاش يفرح ويمرح، وذلك الظلام عنده كأنه ضوء.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
أي: ما ذكر من الأشياء المتعددة من اثنين فصاعداً، وهذا موجود في الضمائر، وفي كلام العرب، ولما أنشد رؤبة بن العجاج في رجزه (١):
فيها خُطوطٌ من سَوادٍ وَبَلَقْ كأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
قال له رجل: لِمَ قلت: «كأنَّهُ» إذا كنت تعني الخطوط فالصواب أن تقول: «كأنَّهَا» وإذا كنت تعني السواد والبلق فهلا قلت: «كَأَنَّهُمَا» فأي وجه لقولك: «كأنه»؟ قال: كأنه أي: ما ذُكر. ومِنْ أَصْرَحِ الأدِلَّةِ القرآنية في ذلك هو قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ﴾ (به) أي: بجميع ما ذُكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم كما لا نزاع فيه. وهذا معنى معروف في كلام العرب، وقد قدمنا بعض شواهده في سورة البقرة في الكلام على قوله: ﴿إنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ (٢) أي: بين ذلك المذكور من الفارض والبكر. ومن نظيره في الإشارة قول ابن الزبعرى السهمي (٣):
إِنَّ لِلْخَيْرِ ولِلشَّرِّ مَدًى وكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وقَبَل
أي: كلا ذلك المذكور.
والمعنى: إلا تفعلوا ذلك الذي ذكرنا من موالاة بعضكم لبعض موالاة صدق، ومقاطعتكم للكفار مقاطعة كاملة، وترك الكفار يوالي بعضهم بعضاً إلا تفعلوا هذا ﴿تَكُنْ﴾ أي: تقع {فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ
_________
(١) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(٢) راجع الموضع السابق، وكذا ما ذكره عند تفسيره للآية (٦٩) من سورة البقرة.
(٣) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon