لاَ تَأْمَنَّنَّ فَزَارِيًّا خَلَوْتَ بِهِ عَلَى قَلُوصِكَ وَاكتُبْهَا بِأَسْيَارِ
يعني: خِطْ فَرْجَهَا بأسيارٍ لئلا يفعلَ بها؛ ولأجلِ هذا المعنى قيلَ للكتيبةِ: (كتيبة)؛ لأنها جماعةٌ من الجندِ يَنْضَمُّ بعضُها إلى البعضِ حتى تكونَ كتلةً مُجتمعةً.
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ (١)
هذا أصلُ مادةِ (الكافِ والتاءِ والباءِ) في لغةِ العربِ.
ومعنى الكتابةِ (٢): هي مصدرُ سيال، أنكَ تضمُّ نفسَ حرفٍ إلى حرفٍ إلى حرفٍ، حتى يجتمعَ من ذلك نقوشٌ دالةٌ على ألفاظٍ ومعانٍ.
و (الكتابُ) في قولِه هنا: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ﴾ أكثرُ الْمُحَقِّقِينَ على أنه اللوحُ المحفوظُ (٣)، أي ما فَرَّطْنَا فيما كَتَبْنَا في اللوحِ المحفوظِ، ما ضَيَّعْنَا فيه شَيْئًا.
و (مِنْ) هنا هي التي تُزَادُ قبلَ النكرةِ التي تَكَلَّمْنَا عليها الآنَ (٤)، وهي هنا مزيدةٌ قبلَ المفعولِ؛ لأن التفريطَ: التضييعُ. أي: ما ضَيَّعْنَا شيئًا في الكتابِ، بل كَتَبْنَا فيه كُلَّ شيءٍ، ومن ذلك: آجالُ الطيورِ وأعمارُها وأرزاقُها وأقدارُها وألوانُها والوقتُ الذي تُولَدُ فيه، والوقتُ الذي تموتُ، كما فَعَلْنَا ذلك بِبَنِي آدمَ.
_________
(١) البيت للنابغة، وهو في ديوانه ص (٣٢).
(٢) انظر: الكليات ص (٧٦٧).
(٣) انظر: ابن جرير (١١/ ٣٤٤ - ٣٤٦:)، البغوي (٢/ ٩٥)، القرطبي (٦/ ٤٢٠)، شفاء العليل لابن القيم ص٤٠، البحر المحيط (٤/ ١٢٠).
(٤) مضى قريبا.
وحفصٍ: ﴿فُصِّلَ لكم ما حُرِّم﴾ لابنِ عامرٍ وابنِ كثيرٍ وأبِي عمرٍو: ﴿فَصَّل لكم ما حُرِّم﴾ لحمزةَ والكسائيِّ وشعبةَ عن عاصمٍ.
والجمهورُ- غيرُ الكوفيين- قرؤوا: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيَضِلُّونَ﴾ بفتحِ الياءِ. وقرأَ الكوفيونَ الثلاثةُ- أعني: عَاصِمًا، وَحَمْزَةَ، والكسائيَّ- ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ﴾ بضمِّ الياءِ (١) ﴿بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ هذه القراءاتُ في الآيةِ.
ومعنَى الآيةِ الكريمةِ (٢) ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ (ما) استفهاميةٌ، أَيُّ شيء ثَبَتَ لكم يمنعُكم من أن تأكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليه؟ والاستفهامُ هنا بمعنَى الإنكارِ (٣)، أي: لا يوجدُ شيءٌ يمنعُكم من ذلك. وقال بعضُ العلماءِ: هو بمعنَى التقريرِ بأن يقولوا: ليس هنالك شيءٌ يَمْنَعُنَا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليه. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ أيُّ شيءٍ ثَبَتَ لكم يمنعُكم من ذلك؟ والمعنَى: لاَ شيءَ يمنعُ من ذلك؛ لأنكم ذَكَّيْتُمُوهُ، وَذَكَرْتُمُ اسْمَ اللَّهِ عليه، وفعلتُم فيه الطريقةَ الشرعيةَ التي أُمِرْتُمْ بها، فأيُّ مانعٍ يَثْبُتُ يمنعُكم من أَكْلِ هذا؟ والمعنَى: لا مانعَ منه، وإنما جاءَ المانعُ في الأكلِ مما لم يُذْكَرِ اسمُ اللَّهِ عليه. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ أي: والحالُ أنه حلالٌ كماءِ المزنِ؛ لأَنَّ اللَّهَ فَصَّلَ لكم ما حَرَّمَ عليكم، أي: أَوْضَحَهُ وَبَيَّنَهُ غايةَ البيانِ والإيضاحِ، ولم يَجْعَلْ مِمَّا حَرَّمَ عليكم ما ذبحتموه وذكيتموه وَسَمَّيْتُمُ اللَّهَ عليه، فإذا كان اللَّهُ فصَّل لكم ما حَرَّمَهُ عليكم
_________
(١) المصدر السابق ص ٢٠١.
(٢) انظر: الأضواء (٢/ ٢٠٨_ ٢٠٩).
(٣) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢١١).
ربه: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: آية ١١٦] هذا كلامه يوم القيامة ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ إلى أن قال: ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ أي: قبضتني إليك ورفعتني إلى السماء ﴿كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ وقول عيسى هذا يوم القيامة لا حجة فيه على أنه قد مات، أما آية قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: آية ٥٥] فهي قول في دار الدنيا لا في الآخرة. واحتج به بعض الملاحدة الذين يزعمون أن عيسى قد مات!! وهذه فكرة إلحادية.
والتحقيق الذي دلت عليه السنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن العظيم -الوحي المنزّل- أن عيسى لم يمت إلى الآن، وأنه حي في السماء، وأنه سينزل في هذه الأمة في آخر الزمان ليقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويقتل المسيح الدجَّال، وهو نازل لا محالة، دلَّ على ذلك السنة المتواترة عن رسول الله، والقرآن العظيم (١).
أما القرآن العظيم فقد دل عليه دلالة صريحة - وإن قيل فيها قول يخالفها؛ لأن القول المخالف باطل وإن نسبوه لابن عباس؛ لأنه باطل؛ لأن ظاهر القرآن خلافه، والعقل لا يقبله أيضاً - ذلك أن الله قال عن عيسى ابن مريم: ﴿مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء: الآيتان ١٥٧، ١٥٨] ثم قال (٢): ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: آية ١٥٧] بيَّن أن السبب
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٤٦) من سورة الأنعام.
(٢) هذا الجزء من الآية متقدم على المذكور قبله من الآية (١٥٧).
خَفَافِيشُ أَعمَاهَا النهارُ بِضَوئِهِ فَوَافَقَها قِطْعٌ من الليلِ مُظْلِمُ (١)
فإذا رأيت من لا يقبل كتاب الله ولا يطلب الهدى فيه، ويذهب ويزعم أن الهدى في زبالات أذهان الكفرة الفجرة الخنازير الحمير فاعلم أنه خفاش البصيرة يقينًا لا شك في ذلك، وأنه إنما عمي عن نور القرآن الذي هو أعظم من نور الشمس كما أعمى نور الشمس الخفاش، كما هو مشاهد:
مِثْلُ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى نُورًا ويُعْمِي أَعْيُنَ الخُفَّاشِ (٢)
كما هو معروف، وهذا معنى قوله: ﴿وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٥٧] المفلحون: جمع المفلح، وهو اسم فاعل (أفْلَحَ) والعَرَب تقول: (أفلح) إذا نال الفلاح، والفلاح يُطلق في اللغة العربية إطلاقين معروفين صحيحين (٣):
أحدهما: تُطلق العرب الفلاح على الفوز بالمطلوب الأكبر، فَمَنْ فَازَ في مطلوبه الأكبر تقول العرب: «أفلح»، ومنه قول لبيد بن ربيعة (٤):
فَاعْقِلي إِنْ كُنْتِ لمَّا تَعْقِلي ولَقْد أَفْلَح مَنْ كَانَ عقَلْ
يعني: فاز بأكبر المطلوب من كان عنده العَقْل؛ لأنه رأس الخيرات.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٨) من سورة الأعراف.
(٤) مضى عند تفسير الآية (٨) من سورة الأعراف.
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} وهذا المشاهد الآن، فإن مَنْ يُسَمَّوْنَ بالمسلمين تولوا الكفار وقاطعوا المسلمين، وصار هذا الكافر وهذا المسلم يزعمان أنهما أَخَوَان، وأنهما تجمعهما العصبية الفلانية، أو القومية الفلانية، وأن هذه الدولة الكافرة صديقة، وأن هذين الشعبين شقيقان وما جرى مجرى ذلك.
فلم يفعلوا ما أمر الله بأن يفعلوه فكانت فتنة في الأرض وفساد كبير. ومن عِظم هذه الفتنة اختلاط الحابل بالنابل؛ لأن المسلمين إذا صادقوا الكفار أعانُوهُمْ عَلَى أَذِيَّةِ المُسْلِمِينَ وقَتْلهم وكل ما يريدونه بهم، وأطلعوهم على عوراتهم، إلى غير ذلك، فانتشر في الدنيا الفساد العريض العظيم، وانتشرت الفتنة، وهذا مشاهد يجب على المؤْمِنِينَ أنْ يَعْتَبِرُوا بهذا فيقطعوا ولايتهم من جميع الكفار، ويصدقوا ولاية بعضهم لبعض لئلا تتمادى بهم هذه الفتنة والفساد الكبير.
وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً (١) أن الفتنة جاءت في القرآن لمعانٍ معروفة، أشهر معاني الفتنة: أن أصل الفتنة هي وَضْعُ الذَّهَبِ فِي النَّارِ ليُمْتَحَن بسبكه في النار: أخالص هو أم زائف؟ تقول العرب: فتنت هذا الذهب؛ أي: جعلته في النار وأذَبْتُهُ فيها؛ لأنه إذا ذاب تبين أخالص هو أم زائف؟ ولذا صار يأتي في القرآن وفي كلام العرب إطلاق اسم الفتنة على مطلق الوضع في النار، ومنه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣)﴾ [الذاريات: الآية ١٣] أي: يوضعون فيها ويحرقون. ومنه على أحد التفسيرين قوله تعالى:
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon