الوجهُ الثاني: أن المرادَ بالكتابِ: القرآنُ، والمعنى: ما ضَيَّعْنَا في هذا الكتابِ من شيءٍ، بل جَمَعْنَا فيه كُلَّ شيءٍ يحتاجُ إليه الخلقُ. وقد نَصَّ اللَّهُ على هذا المعنَى صريحًا في سورةِ النحلِ، ليس فيه خلافٌ، وهو قولُه: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: آية ٨٩] فهذه في القرآنِ بلا خلافٍ تدلُّ على أنه يُبَيِّنُ كُلَّ شيءٍ؛ لأن في القرآنِ كُلَّ شيءٍ، والناسُ إنما يأخذونَ بقدرِ استعدادِ أَذْهَانِهِمْ، كُلٌّ يَغْرِفُ بحسبِ فَهْمِهِ، وقد ثبتَ في صحيحِ البخاريِّ عن أبي جحيفةَ أنه لَمَّا سألَ عَلِيًّا (رضي الله عنه): «هل خَصَّكُمْ رسولُ اللَّهِ - ﷺ - بشيءٍ؟» قال عَلِيٌّ (رضي الله عنه) فيما ثبتَ عنه في صحيحِ البخاريِّ: «لاَ والذي فَلَقَ الحبَّةَ وبرأَ النسمةَ، إلا فَهْمًا يُعطيه اللَّهُ رجلاً في كتابِ اللَّهِ، وما في هذه الصحيفةِ». قال: «وَمَا فِي هذه الصحيفةِ؟» قال: «العقلُ، وفِكَاكُ الأسيرِ، وألا يُقْتَلَ مسلمٌ بِكَافِرٍ» (١) فقولُ عَلِيٍّ (رضي الله عنه) في هذا الحديثِ الصحيحِ جوابًا لـ: «هل خصَّكم رسولُ الله بشيءٍ؟»: «لا، إلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ... » يُفهم منه أن مَنْ أعطاه اللَّهُ فهمًا في كتابِ اللَّهِ يُخَصُّ بخصائصَ مِنَ العلومِ لم يُخَصَّ بها غيرُه، وما ذلك إلا أن القرآنَ جَمَعَ كُلَّ شيءٍ، منه ما يَطَّلِعُ عليه كُلُّ الناسِ، ومنه ما يَطَّلِعُ عليه الراسخونَ في العلمِ، ومنه ما يَعْلَمُهُ النبيُّ، ومنه ما لا يَعْلَمُهُ إلا اللَّهُ (جل وعلا).
وَكُلُّ ما في السُّنَّةِ جَمِيعًا، فهو في كتابِ اللَّهِ؛ لأن اللَّهَ قال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: آية ٧]. فَالسُّنَّةُ كُلُّهَا تَشْمَلُهَا كلمةٌ مِنْ بَحْرِ القرآنِ. وهذا معنى قولِه: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ التفريطُ في الشيءِ: هو تَضْيِيعُهُ.
_________
(١) تقدم تخريجه في مقدمة الكتاب.
التفصيلَ والبيانَ، ولم يكن منه أنه حَرَّمَ ما ذَكَّيْتُمُوهُ وَذَكَرْتُمُ اسمَ اللَّهِ عليه، فما لكم ألا تَأْكُلُوا منه؟ لا مانعَ من الأكلِ منه.
وَاعْلَمْ أن هذه الآيةَ غَلِطَ فيها كثيرٌ من المفسرين (١) فقالوا: ﴿فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ فصَّلَهُ بقولِه: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ [المائدة: آية ٣] وهذا غلطٌ لا شكَّ فيه؛ لأن هذه الآيةَ التي نُفَسِّرُهَا من سورةِ الأنعامِ، وهي من القرآنِ النازلِ بمكةَ بإجماعِ علماء، إلا آياتٍ معروفةً منها (٢)، كقولِه: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ الآياتِ [الأنعام: آية ١٥١]، وقوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: آية ٩١] ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ [الأنعام: آية ٩٣] فهي آياتٌ معدودةٌ مدنيةٌ في سورةٍ مكيةٍ، أما جُلُّ سورةِ الأنعامِ فهي نازلةٌ في مكةَ قبلَ الهجرةِ بلا خلافٍ بين العلماءِ، وهي نازلةٌ قبلَ النحلِ بلا شكٍّ، والنحلُ من القرآنِ المكيِّ على التحقيقِ، وقد دَلَّ القرآنُ في مَوْضِعَيْنِ أن سورةَ الأنعامِ نَزَلَتْ قبلَ سورةِ النحلِ (٣):
أحدُهما: قولُه في سورةِ النحلِ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ [النحل: آية ١١٨] فهذا المحرمُ المقصوصُ من قبلُ المُحالُ عليه هو النازلُ في سورةِ الأنعامِ بالإجماعِ في قولِه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾ [الأنعام: آية ١٤٦].
الثاني: أن اللَّهَ قال في سورةِ الأنعامِ هذه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٦٩)، القرطبي (٧/ ٧٣).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٨٨) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.
الذي ادعى اليهود به أنهم قتلوه: أن الله ألقى شبهه على رجلٍ آخر، فظنوه إياه، فقتلوه، وظنوا أنهم قتلوه، والله يقول: ﴿لَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ﴾ إلى أن قال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ﴾ ثم قال: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ [النساء: آية ١٥٩] أي: بعيسى ابن مريم في آخر هذا الزمان ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي: قبل موت عيسى ابن مريم. وهذا هو التحقيق في معنى الآية والذي دلّ عليه ظاهر القرآن، وبينته السنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما قول بعضهم الذي يزعمونه عن ابن عباس أن معنى: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي: قبل موت ذلك الكتابي (١). فهو أمر غير معقول؛ لأن من أهل الكتاب من يموت في نومه، ومن يموت فجأة، ومن تأخذه سكتة قلبية، ومن يُقطع رأسه فجأة. فهذا لا يمكن أن يؤمن به قبل موته، أي: قبل موت الكتابي كما لا يخفى على أحد.
أما الأحاديث بأن عيسى حي، وأنه ينزل، فهي متواترة عن رسول الله ﷺ لا يطعن فيها إلا ملحد (٢).
أما قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ فيجاب عنه بأجوبة:
أحدها: أن المراد بها هنا: التوفي اللغوي، كما ذكرنا. أي: قابضك إليَّ وافياً بجسمك وبدنك، وغاية ما في الباب أنه قُدِّمت هنا الحقيقة اللغوية على الحقيقة العرفية التي هي إطلاق الوفاة على قبض الروح خاصة؛ لأن الحقيقة اللغوية هنا اعتضدت بظاهر القرآن وبالسنة المتواترة، والحقيقة اللغوية إذا قامت عليها مرجحات
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٤٦) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
وتُطلق العرب الفلاح على البقاء والدَّوَامِ في النَّعِيمِ، وكل مَنْ بَقِيَ بقاءً سرمديًّا في النعيم تقول له العرب: (أفلح) وتقول لذلك البقاء: (فلاح) ومنه بهذا المعنى قول الأضبط بن قُريع. وقيل: كعب بن زهير (١):

لكُلِّ هَمٍّ مِنَ الهُمُومِ سَعَهْ والمُسْيُ والصُبْحُ لا فَلاَحَ مَعَهْ
يعني: أن تَعَاقُبَ اللَّيْلِ والنَّهَارِ لا بقاء للحَيِّ مَعه، ومنه بهذا المعنى قول لبيد بن ربيعة أيضًا (٢):
لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكَ الْفَلاَحِ لَنَالَهُ مُلاعِبُ الرِّمَاحِ
يعني: لو أن حيًّا ينال البقاء ولا يموت لناله ملاعب الرماح.
وفي هذين المعنيين بكل منهما فُسِّر حديث الأذان والإقامة في قوله: «حي على الفلاح» فقال بعضهم: (حي على الفلاح) أي: الفوز بالمطلوب الأكبر وهو الجنة. وقال بعضهم: (حي على الفلاح) هَلُمَّ إلَى البَقَاءِ السَّرْمَدِيّ في النعيم الذي لا ينقطع في الجنة؛ لأنكم تنالون ذلك بالمواظبة على الصَّلَوات. وهذا معنى قوله: ﴿وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ كان بعض أفاضل العلماء يقول: هذه الأخيرة وهي قوله: ﴿وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ﴾ هي التي جاءت منها البليَّةُ إلى عَمِّهِ ﷺ أعني أبا طالب؛ لأن أبا طالب من الذين آمنوا برسول الله، فهو مؤمن برسول الله يقينًا (٣)، ولا يشك في نبوّته ورسالته، وقد صرح بذلك كثيرًا في شعره كقوله في شعره (٤):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١١١) من سورة الأنعام.
(٣) والمقصود يهذا الإيمان: التصديق لكن من غير انقياد وإذعان، وهذا لا يكفي في تحقيق الإيمان.
(٤) هذا أحد أبيات قصيدته المشهورة التي يذب فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية (٣/ ٥٣ - ٥٧).
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [البروج: الآية ١٠] يعني: أحرقوهم بنار الأخدود. هذا معنى من معاني الفتنة.
ومعناها الثاني: أن الفِتْنَةَ تُطْلَقُ عَلَى الاخْتِبَار، وهذا أَشْهَرُ مَعَانِيها، وهو في الحقيقة راجع إلى الأول؛ لأن وضع الذَّهَبِ فِي النَّارِ ليختبر بالنار أخالص هو أم زائف؟ وإطلاق الفتنة على الاختبار إطلاق مشهور مُسْتَفِيض في القرآن العظيم وفي كلام العرب، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [الجن: الآيتان ١٦، ١٧] ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: الآية ٣٥] أي: اختباراً وامتحاناً. إلى غير ذلك من الآيات.
وإطلاق الفتنة الثالث: تطلق الفتنة على نتيجة الاختبار بِشَرْطِ كَوْنِهَا سَيِّئَة خاصَّة؛ لأن المختبر إذا كانت نتيجة اختباره سيئة كان ضالاًّ؛ ولذا تُطْلَقُ الفِتْنَة على الكفر والضلال، يقولون: فَتَنَه عن دينه؛ أي: أضَلَّهُ. وهذا مفتون؛ أي: ضال في دينه. ومنه بهذا المعنى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: الآية ٣٩] أي: لا يَبْقَى فِي الدنيا شرك على أصح التفسيرين؛ لأن قوله: ﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ غاية غَيّا فيها القتال لِئَلاّ يكون في الدنيا شرك. وهذا بَيَّنَهُ النبي ﷺ بياناً صريحاً صحيحاً في قوله: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ» (١).
قال بعض العلماء: جاء للفتنة إطلاق رابع في سورة الأنعام، وهو أنها أُطلقت على الحجة. قال: ومنه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)﴾ وفي القراءة
_________
(١) السابق.


الصفحة التالية
Icon