وقولُه تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ الضميرُ عائدٌ إلى الأممِ المذكورةِ ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾.
وَيُشكلُ عليه: أنه رَدَّ عليه الضميرَ بصيغةِ ضميرِ العقلاءِ، والطيورُ والدوابُّ ليست من العقلاءِ؟
والجوابُ (١): أنه لَمَّا شَبَّهَهُمْ بالعقلاءِ وقال: ﴿أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ فعندَ هذا التشبيهِ بالعقلاءِ يُسوِّغُ ذلك أن يَبْنِيَ عليهم ضميرَ العقلاءِ.
وقد تقررَ في فَنِّ العربيةِ: أن غيرَ العاقلِ كُلَّمَا شُبِّهَ بالعاقلِ جرى عليه في الضمائرِ ونوع الصِّيَغِ ما يجري على العاقلِ (٢). ونظيرُه في القرآنِ قولُه تعالى في رُؤْيَا يوسفَ: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ قال: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: آية ٤] فَجُمِعَ جمعَ المذكرِ السالمِ المختصِّ بالعقلاءِ؛ لأنها لَمَّا اتَّصَفَتْ بالسجودِ أَشْبَهَتِ العقلاءَ من هذه الحيثيةِ، فَجَرَتْ عليها صيغةُ العقلاءِ. وكذلك قولُه: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: آية ١١] لأنه لَمَّا خاطبَ السماواتِ والأرضَ خطابَ العقلاءِ، وَصَرَّحَتْ بالإطاعةِ كما يطيعُ العاقلُ، أجرى عليها جمعَ المذكرِ السالمِ المختصِّ بالعاقلِ كما هنا.
﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ يَحْشُرُهُمُ اللَّهُ يومَ القيامةِ أحياء.
وقد جاء في حديثٍ عن أبي هريرةَ (٣)،
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ١٢١).
(٢) انظر: ابن جرير (٣/ ٢٥٦)، (١٥/ ٥٥٦)، فقه اللغة للثعالبي (٢٩٧)، البرهان للزركشي (٢/ ٢٤٦)، البحر المحيط (٤/ ١٩٩)، الدر المصون (٥/ ١٠٠)، قواعد التفسير (٣٠٧).
(٣) أخرجه ابن جرير (١٣٢٢٢)، (١١/ ٣٤٧)، وابن أبي حاتم في التفسير (٤/ ١٢٨٦)، وكذا الحاكم (٢/ ٣١٦) وقال: (صحيح على شرطه - أي مسلم - ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وأورده ابن كثير في التفسير (٢/ ١٣١)، والسيوطي في الدر المنثور (٣/ ١١) وعزاه لعبد الرزاق، وأبي عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم. وهو موقوف على أبي هريرة (رضي الله عنه) لكن له حكم الرفع.
لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: آية ١٤٨] فَبَيَّنَ أنهم سيقولونَه في المستقبلِ بدلالةِ حرفِ التنفيسِ الذي هو السينُ، ثم بَيَّنَ في سورةِ النحلِ أن ذلك الموعودَ به في المستقبلِ وَقَعَ وَثَبَتَ في سورةِ النحلِ حيث قال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [النحل: آية ٣٥] فَدَلَّ على أنها بعدَها، وإذا كانت سورةُ الأنعامِ التي فيها: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: آية ١١٩] نازلةً في مكةَ قبلَ الهجرةِ، وقولُه: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ [المائدة: آية ٣] من سورةِ المائدةِ نَزَلَتْ بعدَ الهجرةِ في المدينةِ في آخِرِ ما نَزَلَ من القرآنِ؛ لأَنَّ المائدةَ من آخِرِ ما نَزَلَ من سورِ القرآنِ، وفيها: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: آية ٣] المُؤْذِنَة بكمالِ الدينِ وَقُرْبِ انقضاءِ الوحيِ، كيف يكونُ هذا التفصيلُ المذكورُ في الأنعامِ في سورةِ المائدةِ، والمائدةُ لَمْ تَنْزِلْ إلا بعدَ ذلك بسنينَ كثيرةٍ؟ والتحقيقُ أن قولَه هنا: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: آية ١١٩] أنه هو التفصيلُ المذكورُ في سورةِ الأنعامِ؛ لأنها نَزَلَتْ جملةً واحدةً، وهذا مِمَّا فَصَّلَهُ في الأنعامِ، وهو قولُه: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: آية ١٤٥] فقولُه: ﴿لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا﴾ [الأنعام: آية ١٤٥] هذا التفصيلُ للحرامِ يدلُّ على أن ما ذَبَحْتُمْ وذكيتموه وذكرتم اسمَ اللَّهِ عليه أنه ليس من المحرمِ الذي فُصِّلَ لكم، وهذا معنَى قولِه: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾
(ما): موصولةٌ، وهي في محلِّ المفعولِ، والعائدُ إلى الصلةِ محذوفٌ، والتقديرُ: وقد فَصَّلَ لكم ما حَرَّمَهُ
رجحت على الحقيقة العرفية كما هو معروف في الأصول.
الثاني: أن نقول: إن الله قال: إنه متوفيه، ولا شك أنه متوفيه، ولكن لم يقل: إن تلك الوفاة أنها وقعت، ولا عيّن وقتها، غاية ما في الباب أنه قال: إنه متوفيه، وهو صادق، وهو متوفيه، ولكن أين أنه توفاه بالفعل؟ فإن قالوا: عطف عليه قوله: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: آية ٥٥] فذكر الوفاة قبل الرفع. قلنا: العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وإنما يقتضي مطلق التشريك (١)، وقد يكون المعطوف بالواو هو الأول، كما في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ [الأحزاب: آية ٧] وهو ﷺ بعد نوح بأزمان. وأجمع أهل اللسان العربي أنه يجوز أن تقول: جاء زيد وعمرو. ويكون المعطوف بالواو هو الأوَّل؛ لأن الواو لا تقتضي إلا مطلق التشريك.
فإن قال قائل: دل الحديث على أن الواو قد تقتضي الترتيب، كقوله ﷺ لما رقي على الصفا: «أبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» (٢) والترتيب بين الصفا والمروة بالواو في قوله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ الله﴾ [البقرة: آية ١٥٨] وفي رواية: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» وهنا واو، والنبي ﷺ جعل هذه الواو كأنها تقتضي الترتيب وتقتضي بدء ما بدأ الله به.
فالجواب ما أجاب به جماعة من قدماء علماء العربية من أنّ الواو كما أنها لا تقتضي الترتيب فإنها لا تمنع من أن يراد بها الترتيب إذا دلّ على ذلك دليل جازم خارج عن أصل الوضع، أما إذا تجردت
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٤٦) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.

لَقَدْ عَلِموا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكذَّبٌ لَدَيْنَا ولا يُعْنَى بقولِ الأَبَاطِلِ
وقوله في شعره الآخر (١):
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
فهو يعتقد أنه رسول الله حَقًّا ولا يشك في ذلك، فهو ممن آمن به قلبه وآمن به لسانه (.... ) (٢).
[٢١/أ] / ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)﴾ [الأعراف: آية ١٥٨].
معنى قوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ قل يا نبي الله ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ (أيُّ) هنا نُودي ليُتوصل به إلى نداء الاسم المقترن بـ (أل)؛ لأن ياء النداء لا تجتمع مع (أل)، فجعلت (أي) متصلة بالياء مناداة ليكون ذلك اتصالاً إلى نداء ما فيه الألف واللام؛ لأن (يا) النداء والألف واللام لا يجتمعان. و (الهاء) هاء تنبيه.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ﴾ أي: مرسلٌ من الله ﴿إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ ولم يرسل قبله نبي لعامة الخلق، إنما كان يرسل النبي لقومه ونحو ذلك، وهو ﷺ أُرسل للأسود والأحمر، وهذه من الأشياء التي فضله الله بها على جميع الرسل. ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ﴾ مرسل من الله إليكم أُبيّن لكم ما يأمركم به ربكم من عقائد وحلالٍ وحرام وغير ذلك.
_________
(١) البيت في الإصابة (٤/ ١١٦).
(٢) في هذا الموضع انقطع التسجيل.
الأخرى (١): ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)﴾ [الأنعام: الآية ٢٣] فهذه الفتنة هي في الحقيقة المعنى الثاني من هذه المعاني التي ذكرنا، وهي نتيجة الاختبار إذا كانت سيئة؛ لأنه إذا اتَّصَل الكافر بالمسلم، والمسلم بالكافر صار الكافر صديق المسلم، وصار المسلم صديق الكافر، فكل هذا ضلال مخالف لما جاء من الله، تتسبب عنه المحن والبلايا كما هو معروف.
وقوله: ﴿وَفَسَاد﴾ الفساد في لغة العرب هو ضد الإصلاح، فكل أمْرٍ ليس على وجهه الصحيح الذي هو إصلاح تسمية العرب فاسداً. ووصف هذا الفساد بالكبير؛ لأنه ضياع دين، وضعف إسلام، وقوة كفار، وإطلاعهم على عورات المسلمين بواسطة مَنْ يُصَادِقُهُمْ ويُوَالِيهِمْ من المسلمين، إلى غير ذلك من البلايا. وقد بَيَّنَ الله (جل وعلا) قبل هذا آيات تبيّن هذه الآية، فبيّن أن موالاة الكافر للمسلم لا يرخص منها في شيء إلا بقدر ما يدفع الضرورة عند الخوف، ويكون ذلك باللسان لتفادي الخوف فقط، كما تقدم في قوله: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: الآية ٢٨] أي: تخافوا منهم خوفاً كما قاله بعض العلماء. وقد قدمنا أنه (جل وعلا) بَيَّنَ أن الذي يتولى الكفار اختياراً رَغْبَة فيهم وفي دينهم أنه منهم، كما تقدم في قوله: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: الآية ٥١] فهذه الآيات الكريمة في القُرْآنِ العَظِيمِ، وبالأخص هذه الآية من أخريات سورة الأنفال تُبَيِّنُ لِلْمُسْلِم أنه تجب عليه مقاطعة الكافر والمُبَاعَدَة، منه واعتقاد أنه حرب عليه، وقد
_________
(١) مضت عند تفسير الآية (١٥٥) من سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon