وأبي ذَرٍّ (١) - وحديثُ أبي هريرةَ صَحَّحَهُ الحاكمُ وغيرُه - أن اللَّهَ يحشرهم هذا الحشرَ، ويعدلُ بينهم، حتى إنه ليقتصُّ لِلْجَمَّاءِ من الْقَرْنَاءِ التي كانت تَنْطَحُهَا في دارِ الدنيا. هكذا جاءَ في حديثٍ صَحَّحَهُ بعضُ العلماءِ، واللَّهُ تعالى أَعْلَمُ.
وهذه الآيةُ صَرَّحَتْ بأن الحيواناتِ والطيورَ كُلَّهَا يَحْشُرُهَا اللَّهُ بَعْدَ الموتِ، وظاهرُ هذا أنه حشرُ إحياءٍ بعدَ الموتِ، وتدلُّ عليه آيةُ التكويرِ: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [التكوير: آية ٥] في مَعْرِضِ يومِ القيامةِ.
فالقولُ الْمَرْوِيُّ عن ابنِ عباسٍ: أن حشرَ الطيورِ والدوابِّ: مَوْتُهَا. هذا القولُ رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ من
_________
(١) وأصله عند مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم) حديث: (٢٥٨٢) (٤/ ١٩٩٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
() أخرجه أحمد بألفاظ مختلفة (٥/ ١٥٣، ١٦٢، ١٧٢، ١٧٣)، وابن جرير. انظر: الأثرين رقم: (١٣٢٢٣، ١٣٢٢٤) (١١/ ٣٤٧ - ٣٤٨)، والطبراني في الأوسط (٦/ ١٧٣). وأورده ابن كثير في التفسير (٢/ ١٣١)، والهيثمي في المجمع (١٠/ ٣٥٢) وألمح إلى ضعفه. والسيوطي في الدر (٣/ ١١). وقال أحمد شاكر معلقا على أحد طرقه عند أحمد (٥/ ١٧٣): «وهذا إسناد حسن متصل» اهـ. وانظر: تعليقه على تفسير ابن جرير (١١/ ٣٤٨)، كما صحَّح الألباني (رحمه الله) بعض طرقه. انظر: السلسلة الصحيحة (٤/ ٦٠).
عليكم. وعلى قراءةِ (حُرِّم) فالرابطُ هو ضميرُ النائبِ المحذوف أي: ما حُرِّمَ هو عليكم وهذا معنَى قولِه: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ جَرَتِ العادةُ في القرآنِ أن اللَّهَ إذا ذَكَرَ هذه المحرماتِ الأكلِ، أنه يَسْتَثْنِي منها حالةَ الضرورةِ كما قال: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ ثم قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: آية ١٧٣] وقال في النحلِ: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١١٥)﴾ [النحل: آية ١١٥].
وقال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ﴾ [المائدة: آية ٣] وقال هنا: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ يعني: أن هذا الذي حَرَّمَهُ عليكم وَفَصَّلَ تحريمَه، إذا أَلْجَأَتْكُمُ الضرورةُ إليه فهو حلالٌ عليكم للضرورةِ؛ لأن الضرورةَ تُبِيحُ المحظوراتِ.

وَمَنْ يَأْتِ الأُمُورَ عَلَى اضْطِرَارٍ فَلَيْسَ كَمِثْلِ آتِيهَا اخْتِيَارَا (١)
فالميتةُ حرامٌ بالإجماعِ، ولكنَّ الإنسانَ إذا خَافَ على نفسِه الهلاكَ ولم يَجِدْ إلا الميتةَ أو الخنزيرَ أو ما جرى مجرَى ذلك فإنه يباحُ له ذلك الحرامُ. وقد قَدَّمْنَا في سورةِ البقرةِ كلامَ العلماءِ في الضرورةِ التي تبيحُ الميتةَ، وفي القَدْرِ الذي يُبَاحُ مِنْهَا هل هو ما يَسُدُّ الرمقَ ويمسكُ الحياةَ، أو هو الشبعُ والتزودُ حتى يجدَ غيرَها كما قَدَّمْنَاهُ مُوَضَّحًا (٢).
_________
(١) البيت لسيدي محمد بن الشيخ سيدي من أدباء شنقيط، وهو ضمن قصيدة له مذكورة مع ترجمته في كتاب: الوسيط في تراجم أدباء شنقيط ص٢٤٧.
(٢) انظر: المجموع (٩/ ٣٩)، المغني (١٣/ ٣٣٠)، المحلى (٧/ ٤٢٦)، القرطبي (٢/ ٢٢٥)، الأضواء (١/ ١٠٧).
من الأدلة فإنها لا تقتضي ترتيباً وإنما عرف الترتيب بها هنا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي دل على الترتيب دليل خارج، لا نفس أصل الواو. ومنه بهذا المعنى قول حَسّان (على رواية الواو) (١):
هَجَوتَ محمَّداً فأَجَبْتُ عَنْهُ وَعِنْدَ اللهِ في ذَاكَ الجَزَاءُ
لأن الواو هنا بـ «وأجبت عنه» الجواب بعد الهجاء. وهذا إذا دلت عليه قرينة ودليل خارج لا مانع من أن تكون الواو للترتيب، لكنها عند الإطلاق لا تكون للترتيب.
الثالث: قال بعض العلماء: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ [آل عمران: آية ٥٥] أي: منيمك؛ لأن الله -قالوا- لما أراد رفعه ألقى عليه النوم. أي: منيمك ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ في تلك النومة لئلا تنزعج من الرَّفْعِ إلى السَّمَاءِ، والله قد يطلق الوفاة على النوم، وأطلق الوفاة على النوم في موضعين من كتابه:
أحدهما: قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام: آية ٦٠] أي ينيمكم في الليل ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾.
الثاني: قوله ﴿الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾ [الزمر: آية ٤٢] فالحاصل أن هذه الآيات ليس فيها ما يدل على موت عيسى ابن مريم، وأن القرآن دلّ على أنه حي؛ لأن الله قال: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ [النساء: آية ١٥٩] والضمير عائد إلى عيسى على التحقيق لا إلى الكتابي كما بينا. وأحاديث النبي ﷺ الفائضة - وهو الصادق
_________
(١) السابق.
وقوله: ﴿جَمِيعًا﴾ يُعرب حالاً، ويُفسر بأنه توكيد، أي: إني رسول الله إليكم في حال كونكم جميعًا مجتمعين لم يتخلف منكم أحد ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾.
﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ قال بعض العلماء: هو في محل خَفْضٍ نعتٌ لله، إني رسول الله الذي. وهذا على هذا القول لم يمنع من تبعيته له الفصل بينهما بقوله: ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾.
وقال بعض العلماء: الفصل بينهما بقوله: ﴿إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ يمنع من الإتباع و ﴿الَّذِي﴾ في محل نصب منصوبًا على المدح، أو محل رفع خبر مبتدأ محذوف، كما لا يخفى، وهذا معنى قوله: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ هذا الذي جئتكم مرسلاً منه ينبغي أن يُهاب، وأن يُخاف منه، وأن تُحترم رسله، وتُطاع أوامره، وتجتنب نواهيه لشدةِ عظمته، وشدة الخوف من بأسه، وشدة الرغبة فيما عنده، فلا ينبغي أن يُعصى، فهذا الذي أرسلني؛ لأن هذه صفاته ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ هو ملك السماوات والأرض وهو المعبود وحده.
﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ أي: لا معبود يُعبدُ بحق لا في السماء ولا في الأرض ولا في غيرهما إلا هو وحده جل وعلا.
﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ هو الذي يحييكم ويميتكم. والكفار كانوا يقرون بإماتتين وإحياءة وينكرون إحياءة، ويوم القيامة أقروا بالإحياءتين والإماتتين فقالوا: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا﴾ [غافر: آية ١١] فالإماتتان: الأولى منهما: هي أطوارك أيها
جاءت أحاديث كثيرة تُؤَيِّدُ هذا المعنى، ففي بعض الأحاديث في رجل أخذ النبيُّ ﷺ عند إيمانه قال: «وأن لاَ تَرَى نَارَ مُشْرِكٍ إلاَّ وأنْتَ حَرْبٌ علَيْهِ» (١) وفي الحديث الآخر: «لا تَتَرَاءَى نَارُ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ» (٢)
فالعداوة يلزم أن تكون بين المسلمين
[١٠/أ] والكفار/ [كما قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ﴾] (٣) ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: الآية ٤] هذا الذي ينبغي أن يسير عليه المسلمون ويَتَجَنَّبُوا هَذِهِ الفِتَن والفَساد الكبير والبلايا التي طبَّقت الدنيا بسبب مُوَالاَةِ المُسْلِم للكافر ومجافَاة المسلم للمسلم؛ ولذا قال تعالى: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِير﴾ [الأنفال: الآية ٧٣] والله ما فعلوه اليوم، والله إن في الدنيا اليوم لفتنة وفساداً كبيراً منتشراً.
_________
(١) أخرجه عبد الرزاق (١١/ ٣٣٠ _ ٣٣١)، وابن جرير (١٤/ ٨٢ _ ٨٣) عن الزهري مرسلاً.
(٢) لفظ الحديث: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ».. قالوا: يا رسول الله لم؟! قال: «لا تَرَاءَى نَارُهُمَا» أخرجه أبو داود في الجهاد، باب النَّهْيِ عن قتل مَنِ اعْتَصَمَ بالسجود، حديث رقم: (٢٦٢٨) (٧/ ٣٠٣)، والترمذي في السير، باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، حديث رقم: (١٦٠٤، ١٦٠٥) (٤/ ١٥٥)، والنسائي في القسامة، باب القود بغير حديدة، حديث رقم: (٤٧٨٠) (٨/ ٣٦). وانظر: الإرواء (٥/ ٢٩ - ٣٣)، السلسلة الصحيحة (٢/ ٢٣٠).
(٣) في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.


الصفحة التالية
Icon