طُرُقٍ (١)، والظاهرُ أنه خلافُ الصحيحِ، وأن الصحيحَ ما عليه الجمهورُ، وَدَلَّ عليه ظاهرُ القرآنِ: أنه حَشْرٌ بعدَ الموتِ، كما قال: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [التكوير: آية ٥].
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: آية ٣٩]. ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ المعنى أن الذين كَذَّبُوا بآياتِ اللَّهِ - كالذين جَحَدُوا هذا الوحيَ الْمُنَزَّلَ (القرآنَ العظيمَ)، وزعموا أنه شِعْرٌ أو سِحْرٌ أو كهانةٌ أو أساطيرُ الأولين، ونحو ذلك - قال اللَّه فيهم: إنهم صُمٌّ بُكْمٌ.
الصُّمُّ: جمعُ الأَصَمِّ. وقد تقررَ في فَنِّ التصريفِ: أن صيغةَ (أَفْعَل) إذا كانت صفةً مشبهةً، وكذلك أُنْثَاهَا (فَعْلاء) ينقاسُ جَمْعُ كُلٍّ منهما تفسيرًا على (فُعْل) (٢)، كالأصمِّ والصُّمِّ، والأعمى والعُمْيِ، والأبكمِ والبُكمِ، والأحمرِ والحُمرِ، إلى غيرِ ذلك.
ومعنى صُمٍّ: أنهم صُمٌّ عن سماعِ الحقِّ وإن كانوا يسمعونَ غيرَه. كما بَيَّنَّا أنه قال عن المنافقين: ﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ [البقرة: آية ١٨] فَحَكَمَ عليهم بالبَكَمِ مع أنه يقولُ فيهم: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ [الأحزاب: آية ١٩] ومن أَيْنَ لِلْبُكْمِ أن تكونَ لهم الألسنةُ الحدادُ؟ وقال في المنافقين: ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾
_________
(١) أخرجه ابن جرير من طريقين. انظر: الأثرين رقم (١٣٢١٩، ١٣٢٢٠) (١١/ ٣٤٦) وابن أبي حاتم في التفسير (٤/ ١٢٨٦). وأورده ابن كثير (٢/ ١٣١) من طريق ابن أبي حاتم.
(٢) انظر: ضياء السالك (٤/ ١٩١).
وقولُه: ﴿إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ يدلُّ على أن هذه المحرماتِ التي فَصَّلَهَا اللَّهُ، وَبَيَّنَ أنها حرامٌ إذا اضْطُرَّ الإنسانُ إليها وَأَلْجَأَتْهُ الضرورةُ إليها كانت حلالاً عليه؛ لأَنَّ نَبِيَّنَا - ﷺ - بُعِثَ بالحَنِيفِيَّةِ السمحةِ، وسُهِّلَ له فيها كُلَّ التسهيلِ، وَرُفِعَتْ عنا على لسانِه الآصارُ- وهي أثقالُ التكليفِ التي كانت على مَنْ قَبْلَنَا- وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أَبِي هريرةَ وابنِ عباسٍ رضي الله عنهم أن النبيَّ - ﷺ - لَمَّا قَرَأَ: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ الآيات [البقرة: آية ٢٨٦]. أن اللَّهَ قال: «قَدْ فَعَلْتُ» في روايةِ ابنِ عباسٍ عند مسلمٍ، وأن اللَّهَ قال: «نَعَمْ» في روايةِ أبي هريرةَ عندَ مسلم (١). وَلِذَا كان من علاماتِ نُبَوَّتِهِ - ﷺ - أنه يُحِلُّ الطيباتِ وَيُحَرِّمُ الخبائثَ ويضعُ الآصارَ والأغلالَ وأثقالَ التكليفِ التي كَانَتْ على مَنْ قَبْلَنَا؛ لأن ذلك من صفاتِه في الكتبِ المتقدمةِ كما يأتي في سورةِ الأعرافِ في قولِه: ﴿النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: آية ١٥٧] والآصارُ والأغلالُ هي: الأثقالُ التي كانت شديدةً في التكليفِ على مَنْ قَبْلَنَا؛ لأن مَنْ قَبْلَنَا ربما إذا أَذْنَبَ الواحدُ منهم ذنبًا لا تُقْبَلُ توبتُه حتى يُقَدِّمَ نفسَه للموتِ والقتلِ، كما قَدَّمْنَاهُ في البقرةِ (٢)
في قولِه: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ﴾ [البقرة: آية ٥٤] وما كانوا تصحُّ صلاتُهم إلا في المساجدِ، ولا تصحُّ صلاتُهم إلا بالماءِ،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩٠) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٩٠) من سورة الأنعام..
المصدوق - مصرحة بذلك، وهو الحق الذي لا شك فيه، فادعاء أنه مات هو من الفِكَر الإلحادية، كادعاء القاديانية أنه رُفع إلى السماء ثم نزل ومرض ومات مريضاً بكشمير!! وغير ذلك من الخرافات التي لا أساس لها (١).
ومن المؤسف أن بعض المنتسبين للعلم يَتَشَبَّعُون بالفِكَر الإفرنجية ويُقْدمون على هذا الإلحاد، ويقولون: إنَّ عيسى قد مات. مع أن الأحاديث النبوية الصريحة الصحيحة مستفيضة بأنه حي، وأنه سينزل في هذه الدنيا، وأن الله نص على ذلك في قوله: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ أي: قبل موت عيسى، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، ودلَّ عليه ظاهر القرآن، لا (موته) أي: الكتابي؛ لأنه من المُشَاهَد أن من أهل الكتاب من يموت قبل أن يؤمن بعيسى، كالذي ينام فيموت نائماً، وكالذي تأتيه سكتة قلبية فيموت من حينه، وكالذي يُقْطع رأسه فجأة ولا تكون له فرصة ليؤمن بعيسى. وهذا معنى قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ [الأعراف: آية ٣٧] أي: تعبدون من دونه من المعبودات والأصنام والأوثان.
﴿قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا﴾ [الأعراف: آية ٣٧] أي: غابوا واضمحلوا. وقد بيّنا أن الغيبوبة والاضمحلال من أنواع إطلاقات الضلال في القرآن (٢).
﴿وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ والعياذ بالله؛ لأن الكفار إذا عاينوا الحقيقة شهدوا على أنفسهم، وأقروا حيث
_________
(١) انظر: القاديانية لإحسان إلهي ظهير ص١٩٩.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٩) من سورة الأنعام.
الإنسان قبل أن تحيا، فالذي تمكثه وأنت نطفة كأنك ميت، والذي تمكثه في بطن أمك وأنت علقة كأنك ميت، والذي تمكثه وأنت مضغة كذلك، فإذا نفخ الله فيك الروح فقد أحياك الإحياءة الأولى بعد الإماتة الأولى. ثم إذا أمَاتك المرة الثانية وصرت إلى القبر فقد مِتَّ الموتة الثانية، ثم يحييك حياة البعث، وهي الإحياءة الثانية التي كانوا ينكرون؛ ولذا قالوا لما أحياهم الإحياءة الثانية وعاينوها وبُعثوا: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا﴾ [غافر: آية ١١] وقد أوضح الله هاتين الإحياءتين والإماتتين في سورة البقرة في قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ الآية [البقرة: آية ٢٨] هذا معنى قوله: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ ومن كان يحيي ويميت فهو الذي يُخاف منه غاية الخوف؛ لأنه لا يقع على الإنسان في هذه الدار الدنيا حادث أعظم من الموت الذي يقطعه عن كل شيء.

والمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ فيمَا يَمُرُّ عَلَى الجِبِلَّهْ (١)
ولا شيء أعظم -من التصرفات- من إحياء الإنسان بعد موته والإتيان به حيًّا بعد أن صار عظامًا رميمًا -سبحان ربنا وخالقنا ما أعْظَمَهُ! وما أعظم قدرته (جل وعلا)! وما أظهر براهين توحيده! - وهذا معنى قوله: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ﴾ أي: صَدِّقُوا بِهِ وَبِكُلِّ مَا يجب له، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿النَّبِيِّ الأُمِّيِّ﴾ [الأعراف: آية ١٥٨] قرأ نافع هنا في
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥٧) من هذه السورة.
وقد تكون الفتنة والفساد الكبير بأسباب أُخَر غير هذا، وقد تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الأصُول أن جزاء الشرط يجوز أن يكون أعَمّ مِنْ شَرْطِهِ، لا مانع من ذلك، فلا يلزم أنه لا تكون فتنة وفساد كبير إلا مِنْ هَذَا، فقد تكون فتنة وفساد كبير لأسباب أخر، فإنك لو قلت مثلاً: إن بلت انتقض وضُوؤك. لا يلزم من هذا أنه لا ينتقض وضوؤك إلا مِنَ الْبَوْلِ، فَقَدْ تَكُون نواقض أخر غير هذا؛ ولذا قد يوجد الفتنة والفساد الكبير لأسْبَابٍ أُخَر غير هذا المذكور؛ ولذا جاء في السنن وغيرها من حديث أبي حاتم المُزَنِيّ (رضي الله عنه) وحديث أبي هريرة أن النبي (صلوات الله وسلامه عليه) قال: «إذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» في بعض روايات الحديث: «وفَسَاد عَرِيض» وفي بعضها. «وفَسَاد كَبِير». قالوا: يا رَسُول الله وإن كان فيه؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فأنْكِحُوه إلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسَادٌ عَرِيضٌ» أو «فَسَادٌ كَبِيرٌ» (١).
_________
(١) حديث أبي حاتم المزني أخرجه الترمذي في النكاح، باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه، حديث رقم: (١٠٨٥) (٣/ ٣٨٦)، والبيهقي (٧/ ٨٢)، والدولابي في الكنى (١/ ٢٥). وانظر: السلسلة الصحيحة (١٠٢٢)، الإرواء (١٨٦٨).
وحديث أبي هريرة أخرجه الترمذي (الموضع السابق) حديث رقم: (١٠٨٤) (٣/ ٣٨٥)، وابن ماجه في النكاح، باب الأكفاء، حديث رقم (١٩٦٧) (١/ ٦٣٢)، والدوري في (جزء فيه قراءات النبي صلى الله عليه وسلم) ص ١٠٣ - ١٠٤، والحاكم (٢/ ١٦٤، ١٦٥)، والخطيب (١١/ ٦١).
وانظر: الإرواء (٦/ ٢٦٦).
تنبيه: ورد في هذا المعنى أيضاً حديث عن ابن عمر (رضي الله عنهما)، وهو في الكامل (٥/ ١٧٢٨) والدولابي في الكنى (٢/ ٢٧).


الصفحة التالية
Icon