[المنافقون: آية ٤] أي لِفَصَاحَتِهِمْ وحلاوةِ ألسنتِهم، مع أنه يحكمُ بأنهم بُكْمٌ.
وهذا (الصَّمَمُ) وهذا (البَكَمُ) المرادُ به: أنهم صُمٌّ عن سماعِ ما يُقَرِّبُهُمْ إلى اللَّهِ ويدخلُهم الجنةَ، وإن سَمِعُوا غيرَه، بُكْمٌ عن النطقِ بالحقِّ وإن تَكَلَّمُوا بغيرِه.
والعادةُ المعروفةُ في العربيةِ: أنهم يطلقونَ على قليلِ الْجَدْوَى اسمَ (لا شيءَ). وأنهم يُطْلِقُونَ على السماعِ الذي لا فائدةَ فيه، اسمَ: (الصَّمَمِ) (١). ومنه قولُ قُعْنُبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ (٢):

صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
ومعنى (أَذِنُوا): أَنْصَتُوا بآذانٍ صاغيةٍ. فهو يقولُ: (صُمٌّ إذا سَمِعُوا) يُصَرِّحُ بأنهم صُمٌّ في الوقتِ الذي يصرحُ بأنهم يسمعونَ، كما في الآياتِ؛ لأن السماعَ الذي لا فائدةَ فيه يُطْلَقُ عليه اسمُ (الصَّمَمِ) وقد قال النبيُّ - ﷺ - لَمَّا سُئِلَ عن الكهانِ، قال في الكهان: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» (٣). نَفَى عنهم اسمَ (الشيءِ) لِخَسَاسَتِهِمْ وقلةِ فائدتِهم، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ.
والذي عليه الجمهورُ: أن هذا الصممَ والعَمَى في الدنيا، كما
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٦) من هذه السورة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من هذه السورة.
(٣) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب الكهانة، حديث (٥٧٦٢)، (١٠/ ٢١٦) وأخرجه في موضعين آخرين، انظر: الحديثين رقم: (٦٢١٣، ٧٥٦١)، ومسلم في الصحيح، كتاب السلام، باب: تحريم الكهانة، وإتيان الكهان، حديث: (٢٢٢٨) (٤/ ١٧٥٠).
ولا طهارتُهم من الخبثِ إلا بالماءِ، فهي آصارٌ وتكليفاتٌ وأثقالٌ شديدةٌ رَفَعَهَا اللَّهُ عَنَّا على لسانِ نَبِيِّنَا - ﷺ - حيث قال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: آية ٧٨] ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: آية ٢٨٦] ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: آية ١٦] ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: آية ١٨٥] ونحو ذلك من الآياتِ، ولذا قال هنا: ﴿إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ والطاءُ في قولِه: ﴿مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ أصلُها مبدلةٌ من تاءِ الافتعالِ، وقد تَقَرَّرَ من فَنِّ العربيةِ (١): أن تاءَ الافتعالِ إذا جاءَ بعدَ واحدٍ من حروفِ الإطباقِ أنه يُبْدَلُ طاءً، والحقيقةُ: أصلُ مادةِ هذا الفعلِ (ضَرَرَ). ففاء المادةِ: ضادٌ، وعينها: راءٌ، ولامُها: راءٌ. فَدَخَلَهَا تاءُ الافتعالِ، كما تقولُ في قَرُبَ: اقتربَ، وفي كَسَبَ: اكتسبَ، وفي ضررَ: اضترر فأُبدلت تاءُ الافتعالِ طاءً، ثم بُنِيَ الفعلُ للمفعولِ ورُكِّبَ للنائبِ، فقيل: اضْطُرِرْتُمْ (٢).
والمعنَى: أن هذه المحرماتِ التي فَصَّلَهَا اللَّهُ لنا أن محلَّ تحريمِها علينا ما لم تُلْجِئْنَا إليها ضرورةٌ، فَإِنْ أَلْجَأَتْنَا إليها ضرورةٌ فهي حلالٌ لنا.
وقد قَدَّمْنَا كلامَ العلماءِ في قولِه: ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ فالإنسانُ إذا خاف على نفسِه الهلاكَ جازَ له أَكْلُ الميتةِ إن لم يَجِدْ غيرَها، وجاز له أكلُ الخنزيرِ إن لم يجد غيرَه، وجازَ له ما حُرِّمَ عليه للضرورةِ. وأعظمُ الأشياءِ هو كلمةُ الكفرِ إذا أُلْجِئ الإنسانُ وَأُكْرِهَ
_________
(١) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٥١١).
(٢) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (١/ ٥٤)، القرطبي (٢/ ٢٢٥)، شرح الكافية (٤/ ٢١٥٨)، البحر المحيط (١/ ٣٧٣)، الدر المصون (٢/ ١١٣)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٤٢٥.
لا ينفع الإقرار ولا ينفع الندم. كما قال تعالى: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (١١)﴾ [تبارك: آية ١١] والعياذ بالله جلَّ وعلا، كما أنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، وتشهد عليهم جلودهم ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا الله الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت: آية ٢١].
﴿قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)﴾ [الأعراف: الآيات ٣٨ - ٤٣].
يقول الله جلَّ وعلا: ﴿قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (٣٨)﴾ [الأعراف: آية ٣٨].
لما اعترف الكفار بكفرهم، وندموا حيث لا ينفع الندم، وقال الله عنهم: ﴿وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ [الأعراف: آية ٣٧]
الموضعين وفي جميع القرآن (النبيء) بالهمزة إلا في موضعين من سورة الأحزاب قرأ في رواية قالون بالإدغام موافقة للجمهور (١).
وعلى قراءة نافع فالنبيء من (النبأ)، والنبأ (٢): هو الخبر الذي له الشأن، فكل نبأ خبر، وليس كل خبر نبأ.
وعلى قراءة الجمهور: فقيل هي كقراءة نافع، أصلها من (النبأ) إلا أنّ الهمزة أُبدلت ياءً، وأُدغمت فيها الياء التي بعد الباء. وقال بعض العلماء: (النبي) في قراءة الجمهور من النَّبْوَة وهي الارتفاع؛ لارتفاع شأن الأنبياء ومكانتهم بالوحي الذي فضلهم الله به. وهذا معنى قوله: ﴿وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ ويؤمن بكلمات الله، ومن كلمات الله: كتبه المنزلة؛ لأن النبي ﷺ يؤمن بكتب الله كما شهد الله له بذلك في قوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة: آية ٢٨٥] وقراءة الجمهور: ﴿وَكَلِمَاتِهِ﴾ وفي بعض القراءات الشاذة: ﴿يؤمن بالله وكلمته﴾ (٣)، قال بعض العلماء: كلمته هي عيسى؛ لأن الله قال لمريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ [آل عمران: آية ٤٥] كما قال عن زكريا: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: آية ٣٩] هذا معنى قوله: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ﴾.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٨٩) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: البحر المحيط (٤/ ٤٠٦)، الدر المصون (٥/ ٤٨٣).
وهذا أيضاً يدل على أن الفتنة والفساد الكبير تتعدد أسبابها وهو كذلك، فإن للافتتان والفساد الكبير المنتشر في الدنيا أسباباً كثيرة، ومن أعظم تلك الأسباب وأبرزها: مقاطعة المسلم للمسلم وموالاته للكافر، فهذا مما لا ينبغي، وهو من الأسباب العظيمة؛ لأن الله يقول لنبيه: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التحريم: الآية ٩] فاللين للكفار والمحبة والمؤاخاة لهم ليست من شأن المسلمين، ولا مِنْ خُلُقِ النَّبِيِّ وأصحابه، فالله (جل وعلا) أثنى على محمد ﷺ وعلى أصحابه بأنهم لا يضعون اللين إلا في موضع اللين، ولا يضعون القسوة إلا في موضع القسوة، قال: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ﴾ ليسوا بأصدقاء لهم ولا محبين ولا أولياء ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: الآية ٢٩] هذه عادة المسلم أن يكون شديداً عظيماً على الكافر، رحيماً رفيقاً ذليلاً على المسلم، هذه عادة المسلمين وصفات المسلمين، وقد مدح الله بها قوماً في سورة المائدة حيث قال: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ -يعني لا يهتم بهم المسلمون لعدم صعوبتهم وذلهم وتواضعهم للمسلمين- ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: الآية ٥٤] أشداء، وقد صدق من قال (١):
فَمَا حَمَلَتْ مِن ناقَةٍ فَوْقَ رَحْلِها أشَدّ عَلَى أعْدَائِهِ مِنْ مُحَمَّدِ
(صلوات الله وسلامه عليه)، فهو لا يوالي الكفار، بل هو ولي المسلمين ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب: الآية ٦]
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٩٩) من سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon