من شيءٍ ووقعوا فيما هو أعظمُ منه، والعياذُ بِاللَّهِ.
وقد قَدَّمْنَا: أنه لو تَنَاظَرَ جَبْرِيٌّ وَسُنِّيٌّ فقال الجبريُّ مثلاً: هذه الذنوبُ والمعاصي التي صَدَرَتْ من البعيدِ أن اللَّهَ كَتَبَهَا عليه، وَقَدَّرَهَا عليه في الأزلِ، وَطُوِيَتْ الصحفُ، وَجَفَّتِ الصحفُ، وكان ما كان، ولا مبدلَ لِمَا سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ.
يقول البعيدُ: لو أردتُ التخلصَ مما سبقَ به العلمُ الأزليُّ لا يُمْكِنُنِي ذلك بحالٍ. فيقولُ البعيدُ: أنا إذًا مَجْبُورٌ، فكيفَ نُعَاقَبُ؟ وهذا فِعْلُ اللَّهِ وتقديرُه في أَزَلِهِ قبلَ أن أُولَدَ، وما سبقَ في العلمِ فهو حتمٌ واقعٌ لاَ مَحَالَةَ!!
والصحابةُ سَأَلُوا النبيَّ - ﷺ - عن هذه المسألةِ، وقالوا: «أَهُوَ أَمْرٌ مُؤْتَنَفٌ، أو كانَ ما كان فيما مَضَى؟» أَخْبَرَهُمْ أنه كانَ مَا كَانَ. فقالوا له: إذًا لِمَ لا نَتْرُكُ وَنَتَّكِلُ على الكتابِ السابقِ، ونتركُ العملَ حيث فُرِغَ مِنْ كُلِّ شيءٍ، وَمَضَى ما مَضَى؟ فَبَيَّنَ لهم بِنُكْتَةٍ من جوامعِ الكلمِ، قال: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» (١).
فهي كلمةٌ مجملةٌ تَدُلُّ على
_________
(١) في هذا المعنى وردت عدة أحاديث رواها جمع من الصحابة منهم:
١ - علي (رضي الله عنه)، عند البخاري، كتاب الجنائز، باب: موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله. حديث رقم: (١٣٦٢) (٣/ ٢٢٥)، وأخرجه أيضا في عدة مواضع، انظر: الأحاديث رقم: (٤٩٤٥، ٤٩٤٦، ٤٩٤٧، ٤٩٤٨، ٤٩٤٩، ٦٢١٧، ٦٦٠٥، ٧٥٥٢) ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه... ، حديث رقم: (٢٦٤٧) (٤/ ٢٠٣٩).
٢ - جابر بن عبد الله (رضي الله عنه)، عند مسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي... ، حديث (٢٦٤٨) (٤/ ٢٠٤٠).
٣ - عمران بن حصين (رضي الله عنه)، عند البخاري، كتاب القدر، باب: جف القلم على علم الله. حديث (٦٥٩٦) (١١/ ٤٩١)، وأخرجه في موضع آخر. انظر: حديث (٧٥٥١)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه... ، حديث (٢٦٤٩)، (٤/ ٢٠٤١).
٤ - عبد الله بن عمر (رضي الله عنه)، عند الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء في الشقاء والسعادة، حديث (٢١٣٥)، (٤/ ٤٤٥)، وذكره في موضع آخر، انظر: حديث (٣١١١).
٥ - عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، عند أحمد (٢/ ١٦٧)، والترمذي، كتاب القدر، باب: ما جاء أن الله كتب كتابا لأهل الجنة وأهل النار، حديث: (٢١٤٢)، (٤/ ٤٤٩).
الحدِّ (١). وهذا معنَى قولِه: إن الله جل وعلا ﴿أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)﴾ الذي سَبَقَ لهم الضلالُ في أزلِه، وَيَسَّرَهُمْ لِمَا خَلَقَهُمْ له، فهو أعلمُ بهم. وكأن هذا فيه تسليةً للنبيِّ - ﷺ -، كأنه يقولُ له: رَبُّكَ أعلمُ بالضالين المضلين، ولابد أن يُيَسِّرَهُمْ لِمَا خَلَقَهُمْ له، فلا تَحْزَنْ عليهم إذا لم يؤمنوا وهذا معنَى قولِه: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)﴾.
﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)﴾ [الأنعام: آية ١٢٠] ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ (ذروا) معناه: اتْرُكُوا. و (ذَرْ) بمعنَى: اتْرُكْ. وهذا الفعلُ- الذي هو (ذَرْ) - لَمْ يُسْتَعْمَلْ منه في لغةِ العربِ إلا الأمرُ والمضارعُ (٢)، تقول العربُ: (ذَرْ) بمعنى: اتْرُكْ، و (يَذَر) بمعنَى: يترك. ولم يُسْتَعْمَلْ منه ماضٍ، ولا مصدرٌ، ولا اسمُ فاعلٍ، ولا اسمُ مفعولٍ، ولا صيغةُ تفضيلٍ، لم يُسْتَعْمَلْ منه إلا المضارعُ والأمرُ خاصةً. ومعنَى (ذَرْ): اتْرُكْ. ومعنَى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ﴾ اتركوا ظاهرَ الإثمِ. وعلماءُ العربيةِ يقولونَ: إن الحرفَ المحذوفَ في مكانِ الفاءِ إنها واوٌ، وإن أصلَ (ذَرْ) أن أصلَ ماضيه (وَذَرَ) بواوٍ (٣)، إلا أن هذه الواوَ لم تَثْبُتْ؛ لأن (فَعَل) إذا كانت مفتوحةَ العينِ تُحْذَفُ فاؤها في المضارعِ والأمرِ، وتُحْذَفُ في المصدرِ، وذلك إنما ينقاسُ في (فَعَلَ يَفْعَل) وأما (وَذَر يذَر) فليس مَقِيسًا فيها؛ إلا أن العربَ لم تَنْطِقْ بالواوِ ولم تَنْطِقْ بها إلا في المضارعِ والأمرِ (٤). وعلى كُلِّ حالٍ فـ (ذَرُوا) معناه: اتْرُكُوا.
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: عدا) (٥٥٣_ ٥٥٤)، بصائر ذوي التمييز (٤/ ٣١).
(٢) مضى عند تفسير الآية (١١٢) من هذه السورة.
(٣) انظر: الدر المصون (٢/ ٦٣٦ _٦٣٧)، (٣/ ٥٠٨)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٤٨٦.
(٤) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٤٨٦.
أُخْتَهَا} إنما كانت أختها لأنها أختها في الديانة والملة والكفر بالله، وتكذيب الرسل، وكل شيئين متشابهين، أو متصاحبين تنسب العرب لهما الأخوة ومنه: ﴿وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ [الزخرف: آية ٤٨] فالمتشابهان تسميهما العرب (إخوان) وكذلك المتصاحبان تسميهما (إخوان) وإنما كانت الأمة أخت الأمة لمشابهتها لها في الكفر والطغيان وتكذيب الرسل حتى مات الجميع على ذلك... - والعياذ بالله - كما قال الله: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: آية ٢٧] وهو معنى معروف في كلام العرب، وكل أمة كافرة أخت للكافرة، كما أنَّ الأمة المؤمنة أخت للأمة المؤمنة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: آية ١٠] وإنما لعنتها لأن بعض هذه الأمم يسن الضلال والكفر حتى يقتدي به الذين جاءوا من بعدهم -والعياذ بالله- فيلعنوهم لأنهم تَسَبَّبَ لهم بِالاقْتِدَاءِ بهم دخولُ النار، كما قال الله (جل وعلا) عن نبيه إبراهيم إنه قال لهم: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾ [العنكبوت: آية ٢٥] وقال تعالى عنهم: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (١٦٦) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا﴾ [البقرة: الآيتان ١٦٦، ١٦٧] فهم يوم القيامة أعداء يلعن بعضهم بعضاً، ويعادي بعضهم بعضاً، وهذا معنى قوله: ﴿كُلّمَا دَخَلَتْ أُمّةٌ﴾ [الأعراف: آية ٣٨] في النار ﴿لَعَنَت أُخْتَهَا﴾ أي: صاحبتها المماثلة لها في الضلال والكفر، وتكذيب الرسل؛ لأن بعض الأمم تبقى سننهم في الضلال والكفر فيقتدي بها من جاء بعدهم من الأمم -والعياذ بالله- فيلعنونهم لذلك.
الله وسلامه عليه) فهو (صلوات الله وسلامه عليه) أفضل الرسل، وخير العالمين صلى الله عليه وسلم، ومنْذُ بَعَثَهُ الله لم تبلغ دعوته أحدًا من الخلق ولم يؤمن به إلا دخل النار، فالذين يقولون: إن محمدًا ﷺ أُرسل إلى العرب ولم يُرسل إلى غَيْرِهم كفرة ملاحدة، كفرة بالله، مكذبون كتاب الله، مخالفون الضروري من دين الإسلام، فهو ﷺ مرسل إلى جميع الخلائق كما صرحت به هذه الآية الكريمة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ وجاء في آيات أُخر من كتاب الله وأحاديث صحيحة معروفة، فمن الآيات الدالة على ذلك (١): قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١)﴾ [الفرقان: آية ١] فصرح بأنه نذير للعالمين، وكقوله تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ [الأنعام: آية ١٩] فكُلّ مَنْ بَلَغَهُ هَذَا القرآن فهو مُنْذَرٌ بِرِسَالَةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾ [سبأ: آية ٢٨] أي: إلا للناس كافة على التحقيق، خلافًا لمَنْ زَعَمَ من علماء العربية أن صاحب الحال إذا كان مجرورًا باللام أنه لا تتقدم عليه الحال (٢).
والمتأخرون من علماء العربية قالوا: إن ذلك جائز وتدل عليه الآية التي ذكرنا، وهي قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾ [سبأ: آية ٢٨]. ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هود: آية ١٧] وكلّ مَنْ سَمِعَ بِرِسَالَةِ محَمَّدٍ ﷺ وبلغته ولم يؤمن به دَخَلَ النَّارَ؛ لأنه رسول الله إلى الأسود والأحمر، وليس الخلق كافة (صلوات الله وسلامه عليه)، مرسل إلى الجن والإنس، عام الرسالة،
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٣٣٤).
(٢) انظر: الدر المصون (٩/ ١٨٦).
[الحشر: الآية ٩] هذا ثناء الله ومدحه للمهاجرين والأنصار، ثم قال ﴿أُوْلَئِكَ﴾ شاملة للمهاجرين والأنصار معاً، فالمهاجرون هم المعبّر عنهم بـ ﴿آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والأنصار هم المعبّر عنهم بقوله: ﴿آوَواْ وَّنَصَرُواْ﴾ أي: آووا النبي وأصحابه ونصرهم على أعدائهم، هؤلاء جميعاً ﴿هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً﴾ حق إيمانهم حقّاً؛ لأنهم صدقوا إيمانهم بهجرتهم وجهادهم في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وبإيمانهم، وأولئك حققوه بإيوائهم ونصرتهم لله؛ لأن الأنصار قامت موقفاً عظيماً حيث تحملت عداوة جميع أهل الدنيا في نصرة النبي ﷺ وأصحابه، ولذا قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ﴾ -هؤلاء- ﴿هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً﴾ بمعنى الكلمة الإيمان الذي هو لا قيل فيه ولا قال، بل هو الإيمان كما ينبغي.
وهذه من الآيات الدالة على تزكية الصحابة لاسيما المهاجرين والأنصار، ووصفهم بالعدالة وصحة الإيمان، فإذا روى لنا مهاجري أو أنصاري حديثاً فلا نقول: هل هذا عدل أو غير عدل؟ لأنه لا مزكّى أعظم تزكية من الله، ولا تزكية أعظم من قوله: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)﴾ [الأنفال: الآية ٤] والله (جل وعلا) نوّه بشأن المُهَاجِرِين والأنْصَار الذين اتبعوهم، ونوَّهَ بشأن جميع الصحابة وَزَكَّاهُمْ فِي غَيْرِ ما آية، فمن الآيات التي أثْنَى بها على المهاجرين والأنصار قوله: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ﴾ [التوبة: الآية ١٠٠] وفي


الصفحة التالية
Icon